Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صورة الفنان في الرواية بين قتل وخيانة وسير متخيلة

من أغاثا كريستي إلى جيمس جويس فإلى إيشيغورو وموراكامي ونجيب محفوظ وسواهم

ستيفن ديدالوس بطل "صورة الفنان في شبابه" لجيمس جويس بريشة وليام كارليك (صفحة الرسام - فيسبوك)

تحمل كلمة "فنان" إرثاً سيئاً، فلو فتحت معجماً عتيقاً سيخبرك أن "الفنّان" هو الحمار الوحشي لتفننه في العدو! ويستند المعنى إلى بيت للأعشى: "وإِنْ يك تَقريبٌ مِنَ الشَدِّ غالَها/ بِمَيْعَةِ فَنَّانِ الأَجارِيِّ مُجْذِمِ". والظن أن ما قاله الأعشى صفة طارئة للحمار وليست اسماً لازماً له، خصوصاً أن الفعل نفسه يدل على الخلق والإبداع والابتكار.

هذا لا يمنع أن النظرة السلبية ظلت تطارد "الفنان" إلى وقت قريب باعتباره لا يباشر عملاً محدداً بيده مقابل أجر. إنه ليس عاملاً ولا فلاحاً ولا طبيباً. وفي أحد الأفلام اشتهر "أفيه" لأحمد راتب عندما عرّف نفسه لوالد خطيبته قائلاً: "أنا فنان بوهيمي يا عمي!".

وتنوعت استعمالات كلمة فنان في ثقافتنا، فهي تشمل المبدعين والأكاديميين الذين يعملون في مجالات الموسيقى والرسم والنحت والرقص والتمثيل والشعر، كما تطلق على من يعملون في صناعة الترفيه كالمخرجين. وتطلق مجازاً على كل من تمتع بمهارة خاصة في مهنته، فنقول إنه نجار فنان. حتى لاعب الكرة الذي يجيد الترقيص والتمرير يوصف بأنه "فنان"، مثلما وصف الأعشى حماره الوحشي بأنه فنان في العدو والمراوغة. أي أن كل من درس الفن أو عمل به هواية أو احترافاً، وكل من برع في مجال عمله، هو "فنان". فكيف جسدت الروايات شخصية "الفنان"؟

جريمة غامضة

في رواية "مقتل روجر أكرويد" ("مقتل الفنان" بالترجمة العربية) للكاتبة الأشهر والأكثر ترجمة إلى اللغات الحية أغاثا كريستي تدور الحبكة حول الرسام المشهور امياس كريل الذي لقي مصرعه بالسم واتهمت زوجته بتسميمه قبل أن تتوفى في السجن، وكانت لديهما طفلة في الخامسة اسمها كارولين بعدما بلغت سن الشباب ونالت نصيبها من الميراث سعت إلى المحقق الشهير "بوارو" للبحث في الجريمة القديمة وإثبات براءة أبيها الذي وصف في الرواية بأنه ينتمي إلى "ذلك النوع من الرجال الذي يستمتع بملذاته إلى النهاية"، ومن ثم يستحيل أن ينتحر.

كعادة "بوارو" يبدأ في حل اللغز وإعادة بناء تصور للجريمة والتقصي عن المحيطين للقتيل. اعتماداً على التحليل النفسي والألعاب الذهنية أكثر من الأدلة المادية. وفي ضوء سمات الرسام المذكورة في الرواية، كان من الطبيعي أن يكون حل اللغز لدى امرأة أخرى.

هروب وتمرد

تعد "صورة الفنان في شبابه" من كلاسيكيات الرواية العالمية في القرن العشرين، ظهرت فيها أساليب جيمس جويس الحداثية مثل تيار الوعي وحساسية التعبير عن الشخصية.

تتناول سيرة ستيفن ديدالوس، التي تمثل في الوقت نفسه سيرة جويس في شبابه، وانطباعاته عن بلده إيرلندا، حيث يعيش ستيفن صراعاً بين مؤسسات الأسرة والكنيسة والمدرسة والسياسة وبين أفكاره الجمالية.

إنه نص عن حساسية الفنان ضد تزمت وجمود المجتمع والقيم، ينتهي بقرار الرحيل: "سأخبرك ما سأفعل وما لن أفعله. إنني لن أخدم شيئاً لم أعد أومن به سواء كان ذلك منزلي أو بلدي أو كنيستي. وسأحاول أن أعبر عن نفسي في الحياة أو في الفن على أكثر الأشكال حرية وكمالاً، مستخدماً للدفاع عن نفسي بالأسلحة الوحيدة التي أسمح لنفسي باستخدامها: الصمت، النفي، المقدرة".

إحساس بالهزيمة

كازو إيشيغورو كاتب إنجليزي من أصل ياباني حائز جائزة نوبل عام 2017 نشر روايته "فنان من العالم الطليق" بعد سبعين سنة من نشر "صورة الفنان في شبابه".

ربما لا ينتبه الكثيرون للروابط العميقة بين النصين المهمين، فإيشيغورو ابن للحساسية الكتابية التي يعد جويس أحد روادها. اتسم "ستيفن" بالروح المراقبة والثائرة للفنان التي تواجه إرث الماضي وبلادة المجتمع. أما ماسوغو أونو فهو فنان تشكيلي عجوز استسلم للهزيمة كما استسلمت لها بلده اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، يُعامل من تلامذته باحتقار، ويشعر في قرارة نفسه أنه بأفكاره وقيمه كان مسؤولاً عن تلك الهزيمة المروعة. لكن الرواية لا تعرض ذلك بنبرة عالية، بل عبر تفاصيل ناعمة ومواربة.

لذلك بدا العنوان خادعاً، فهو لا يتحدث عن انطلاق الفنان في عالم حر، بل عن إحساسه بالهزيمة في عالم يتداعى ويتغير. مع ذلك تختتم الرواية بنبرة أمل وهو العجوز المهزوم يرى اليابان تتعافى ويقول: "أمتنا لديها الآن فرصة لتحسين أوضاعها مهما كانت الأخطاء التي وقعت فيها الماضي، ولا يسع المرء سوى أن يتمنى الخير لهؤلاء الشباب". إن الرواية تعبر عن الروح العميقة للثقافة اليابانية: الإقرار بالهزيمة وتحمل مسؤوليتها والخروج من السباق من أجل منح فرصة لشباب قادر على صناعة مستقبل أفضل.

الكومنداتور

وطالما وصلنا إلى اليابان، فلا بد من المرور على "مقتل الكومنداتور" رواية موراكامي الشهيرة والتي ترجمت من اليابانية مباشرة إلى العربية في جزأين يقتربان معاً من ألف صفحة. إيشيغورو مولع بالنبش في الماضي سواء الياباني في "فنان من العالم الطليق" أو الماضي الإنجليزي في روايته "بقايا اليوم" التي تحولت إلى فيلم شهير لأنتوني هوبكنز.

أيضاً موراكامي مولع بالنبش في الماضي، لكنه لا يفعل ذلك بتفاصيل بسيطة مواربة، بل بجنون خيالي صاخب تختلط فيه الهواجس والميتافزيقا والأساطير والواقع المادي. يأخذنا في قطار مجنون من الألعاب اللغوية مع بطله الرسام المتخصص في رسم البورتريهات من دون أن نعرف اسمه. اقترح عليه صديقه بعد أن انفصل عن زوجته، أن يسكن في بيت أبيه وهو عجوز طاعن تجاوز التسعين وأصيب بألزهايمر، ما اقتضى إيداعه في مصح. والعجوز الخرف أيضاً كان رساماً.

في ذلك البيت تبدأ الرحلة العجائبية حين يعثر الرسام على لوحة للفنان العجوز اسمها "مقتل الكومنداتور". كأن الانتقال إلى البيت كان انتقالاً لرؤية الماضي من زوايا عدة، وتنتهي الرواية باحتراق البيت واللوحة. اختار الرسام/الراوي، العودة إلى حياته العادية الرتيبة، ليبقى كل ما رآه هناك في البيت غريب الأطوار، سراً، لا دليل عليه، لكنه أصبح مفضوحاً روائياً.كأن رسام موراكامي قال لرسام إيشيغورو، إن الشعوب لا تستمر بالاعتراف بالهزيمة وفحص التداعي، بل بإخفاء أسرارها الكبيرة وجرائمها المهينة.

 خيانة القضية

هل دور الفنان أن يبدع فقط، أم يعيش ملذاته فقط على طريقة فنان أغاثا كريستي القتيل؟ هل هو في برج عاجي أم متمرد بمنطق جويس أم مراقب بأسلوب إيشيجورو أم فاضح للعبة والتواطؤ في خيالات موراكامي؟

نشر كتاب "الفن وزمانه" بترجمة أحمد المديني، خطاب ألبير كامو عقب فوزه بجائزة نوبل ومما قاله: "إن الفن عندي ليس متعة متوحدة، هو وسيلة لتحسيس أكبر عدد من الناس، بإعطائهم صورة امتيازية عن الأفراح والأتراح المشتركة. بذا فهو يرغم الفنان على أن لا ينعزل". فماذا لو تخلى الفنان عن دوره ورسالته تجاه المجتمع؟ ماذا لو انعزل؟ ليس في برج عاجي بل عوّامة على النيل مع شلة من أصحابه المبدعين والعابثين كما حدث للفنان رجب القاضي بطل نجيب محفوظ في روايته الشهيرة "ثرثرة فوق النيل"؟

اختلف محفوظ عن زملائه وترك الرسامين والتشكيليين، وفضل ممثلاً، وعبر الرواية والفيلم المأخوذ عنها بدأ رجب شاباً متحمساً وموهوباً يؤدي مسرحيات ببراعة، لكن الزمن كان يتغير تحت وطأة سلطة بيروقراطية فاسدة تنذر بالخطر، فانتهى إلى اللذة والتفاهة والإيقاع بالفتيات الحسناوات، وجلسات النميمة والحشيش، وتقديم أفلام تافهة لا يتردد فيها عن ارتداء ملابس النساء والرقص بها.

كانت العوامة رمزاً لوطن ضائع، أو كما تساءل أنيس زكي: "ألم تسكن هذه العوامة أسرة شريفة أبداً؟!" أما صاحبها وقائدها رجب القاضي، فيقول بإدعاء: "همي الأول هو الفن" فيرد عليه صديقه مصطفى راشد: "همه الأول هو الحب، أو بالأحرى النساء". إنها رواية عن سقوط الفنان وخيانته لقضيته الجمالية والأخلاقية.

سير متخيلة

كل الأعمال السابقة التي أشرنا إليها تبنت "فناناً" متخيلاً (الرّسام غالباً) لكن هناك قسماً آخر لروايات أقرب إلى سير متخيلة عن فنانين معروفين، منها "صهاريج اللؤلؤ" لخيري شلبي، واستلهمها من سيرة عازف الكمان الشهير عبده داغر، وكان على قيد الحياة عند نشرها. لم يلتزم شلبي حرفياً بسيرة داغر وإنما انطلق منها واستلهم في بنائها روح الموسيقى، ففي العنوان الشارح كتب "دراما موسيقية"، وفي العناوين الداخلية استعمل: "الحركة الأولى: وتر مشدود". إن شلبي يكتب بغزارة عن كواليس عالم يعرفه جيداً عن كثب، هو عالم الطرب والموسيقيين، ويتناول قصة صعود ملهمة لبطله العازف الموهوب عبد البصير الصوفاني الذي ينجح في إنشاء فرقة للموسيقى العربية.

أما طلال فيصل فنشر رواية "بليغ" وهي سيرة متخلية للموسيقار بليغ حمدي. استثمر مؤلفها الموسيقى والأغاني ومقتطفات من السيرة الحقيقية في مزيج خيالي لا يخلو من حضور ذاته هو نفسه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ثم كانت أحدث رواية "حانة الست" لمحمد بركة، وهي مروية على لسان أم كلثوم، لكن المؤلف لم يمنحها لساناً تمجيدياً لتجربتها المهولة، بل جعلها تحكي عن الجانب الآخر لأسطورتها. ذلك الجانب الإنساني الحافل بالأخطاء والظلال، وهو ما أثار حفيظة وغضب محبيها.

ولعل الرابط بين روايات السير، احترام التخييل وليس التوثيق، والتركيز على الضعف الإنساني، وليس مجد الفنان.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة