Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأم المصابة بباركنسون تبحث عن سر شنق ابنتها في "إيلينا تعرف"

الكاتبة الأرجنتينية كلاوديا بينيرو تمنح رواية الجريمة أبعاداً نفسية واجتماعية

الأم والإبنة بريشة الرسام إدوارد مونخ (متحف مونخ)

ترى الكاتبة الأرجنتينية كلاوديا بينيرو "أن أدب الجريمة لم يظهر إلا للتنديد بالظلم". هذه المقولة جسدتها بينيرو في أعمالها الأدبية، التي وإن ميزها الطابع البوليسي، فقد حرصت من خلالها على تفجير قضايا اجتماعية وإنسانية شائكة. ومن هذه الأعمال "أرامل الخمسين"، "بيتي بو"، "جريمة في بوينس آيرس"، و"إيلينا تعرف" التي تنتمي إلى أدب الجريمة، ويمكن تصنيفها كرواية اجتماعية ونفسية. ترجمت "إيلينا تعرف" إلى الإنجليزية، ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكرالدولية عام 2022. وصدرت نسختها العربية حديثاً، بترجمة نهى مصطفى عن دار العربي - القاهرة. تدور أحداث الرواية حول "إيلينا"، المرأة الستينية التي تسعى إلى التحقيق في موت ابنتها "ريتا"، بعدما وجدت مشنوقة ومعلقة ببرج الكنيسة. وعلى رغم إقرار الشرطة بانتحارها، وقبول المحيطين بالأمر بهذه الفرضية، تصر إيلينا على شبهة القتل. تتحدى إصابتها بمرض باركنسون (في مرحلة متأخرة)، ومعاناتها الشديدة في الحركة. وتتبع كل خيط يمكن أن يصل بها إلى القاتل الحقيقي، والمسؤول عن موت ابنتها. وعبر الرحلة السردية التي يقودها راو عليم، تتكشف الحقيقة، وتتجلى مفارقة أرادتها الكاتبة من عنوان روايتها، الذي عمدت إلى تكراره مرات كثيرة على طول خط السرد "إيلينا تعرف". فعلى رغم كل ما تعرفه الأم عن ابنتها، أو تظن أنها تعرفه، فإنها لم تقترب من حقيقة ما حدث لها، وسر وجودها مشنوقة أعلى برج الكنيسة.

العقل المخلوع

أبرزت الكاتبة تماثلاً بين مخ مريض باركنسون، وبين العقل المخلوع. وجسدت من خلال هذا التماثل، حجم معاناة إيلينا جراء إصابتها بالمرض، الذي أزاح المخ عن حكمه، وألزم الجسد بألا يمتثل لأوامره، فلا تتحرك قدم إيلينا إذا أمرها المخ بالحركة، ولا تذعن يدها اليسرى لرغبته في دخولها كم سترتها. ولا يتوقف لعابها عن التساقط، بالرغم من أن المخ لم يأذن، ولم يسمح له بأن يسيل. وقد اتسق الحضور الكثيف لتقنيات الوصف، لا سيما في مستواه التفسيري، مع رغبة الكاتبة في تجسيد أثر بل وطأة المرض على المرأتين، المصابة به والقائمة على رعايتها. وأيضاً مع رغبتها في رصد تبعاته ونتائجه، التي تفسر بدورها سلوك "ريتا" تجاه أمها. وتقود القارئ إلى تجاوز سكونية النص. وتدفعه طوعاً للمشاركة في لعبة السرد، ووضع احتمالات تفسر موت الابنة، وتحمل حل اللغز. وقد مررت الكاتبة من الحمولات المعرفية، ما يتصل بمرض باركنسون. وجاءت هذه المعارف كضرورة اقتضاها السرد، أسهمت في النمو الدرامي، وفي دفع الأحداث وتحريكها. كذلك رصدت في الخلفية الظروف الاقتصادية القاسية في المجتمع الأرجنتيني، ومعاناة مواطنيه من البيروقراطية الشديدة، التي تجعل محاولة الحصول على الحقوق، كارثة ومأساة إنسانية: "وصلوا إلى هناك في الوقت المحدد، كلتا المرأتين في حال مزاجية سيئة، وبخاصة ريتا التي كانت متأكدة من أنه ستحدث بعض المشكلات، تتوقع حدوث أية مشكلة صغيرة، التي قد تعني أنها ستعود مرة أخرى، ورقة ناقصة، توقيع، ختم، بعض المتطلبات الصغيرة، التي عند اكتشاف عدم وجودها، تصبح فجأة ذات أهمية قصوى" ص 143.

الزمان والمكان

سلكت الكاتبة رحلتين عبر السرد، إحداهما كانت مع بطلتها "إيلينا" التي استقلت قطار العاشرة صباحاً إلى حيث تقطن "إليزابيث" في بوينس آيرس، من أجل الاستعانة بها في حل لغز موت "ريتا". أما الرحلة الثانية فكانت عبر ذاكرة البطلة نفسها، إذ أرادت الكاتبة وفق تقنية الاسترجاع، استعادة أزمنة وأحداث ماضية، لعبت دوراً في تطور الأحداث، باتجاه حل لغز الحادثة. كما عمدت عبر هذه الارتدادات الزمنية غير المنتظمة، إلى تشريح العلاقة المعقدة بين الأم وابنتها، التي يتداخل فيها الحب والقسوة، تحمل المسؤولية ونفاد الصبر.

ورصدت كذلك طبيعة "ريتا" المتناقضة، التي كانت انعكاساً منطقياً لطفولتها، ونشأتها في أسرة منقسمة بين أب مؤمن يعمل في المدرسة الكاثوليكية، وأم مؤمنة ظاهرياً، في حين أنها في حقيقة الأمر، لا تكترث بالكنيسة، ولا تؤمن بحياة بعد الموت. ومثلما رصدت تناقضات شخصية "ريتا"، رصدت كذلك جنوحها للوصاية على العالم، فيكون ما يجب وما لا يجب، هو ما تراه هي إن كان يجب أو لا.

حبكة ثانوية

كانت إليزابيث المحطة الرئيسة في كلتا الرحلتين، ونواة الحبكة الثانوية، التي برزت من خلالها القضية الجوهرية للنص، تلك التي تتعلق بإشكالية الوصاية على جسد المرأة، وهي الوصاية التي مثلتها الأم وابنتها، فمارستها "ريتا" حين منعت إليزابيث من أن تجهض نفسها، وأعادتها عنوة إلى زوجها. ومارستها "إيلينا" مرة أخرى بعد 20 عاماً، حين سعت إلى استغلال جسد "إليزابيث"، واستعارته بديلاً عن جسدها، الذي شل المرض حركته، فلم يعد بمقدورها معرفة المسؤول عن موت ابنتها. وعبر كلتا الرحلتين رصدت الكاتبة علاقات مرتبكة ومركبة. واستطاعت من خلالها سبر أغوار النفس الإنسانية المعقدة، مشككة في كثير من الثوابت، لا سيما ما يتصل منها بالأمومة، والتسليم برغبة المرأة فيها. كما مررت رؤاها الرافضة لكل أشكال الوصاية على الجسد، سواء الدينية أو الاجتماعية، التي يجرم وفقاً لها، الإجهاض، الانتحار، والموت الرحيم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهي الرؤى نفسها، التي عبرت عنها بينيرو خارج أعمالها الأدبية، بمشاركتها في عديد من الحملات، التي سعت لإعطاء المرأة الأرجنتينية حق الإجهاض. ونجحت في استصدار قانون يبيحه. وربما كان ما تثيره هذه الرواية من أسئلة أخلاقية وقيمية ملحة - خصوصاً حول هذه القضية - سبباً في تأخر ترجمتها إلى الإنجليزية، لا سيما وأنها تهز العقيدة الكاثوليكية في صميمها. وعلى رغم الأسئلة الوجودية والأخلاقية التي أثارها النص، والإشارة إلى قضية السلطة على الجسد في إطارها العام، فإن القضية الرئيسة التي طرحها كانت تمس المرأة بالأساس: "الإجهاض". كذلك كانت الشخوص المحورية كلها من النساء، في حين كان حضور الرجل غائماً، وغير مؤثر في تطور الأحداث.

التشويق والغموض

يقترن أدب الجريمة – بالضرورة - بالتشويق والغموض، وقد حوى النص جرعات تشويقية كثيفة، مررتها "بينيرو" عبر الحيل الاستباقية. فاستبقت بلغز موت "ريتا" مشنوقة، وتركت لتطور الأحداث، مهمة الكشف عن ملابسات الحادثة، وإزالة الغموض عنها. كذلك وضعت هالة من الضبابية حول شخصية "إليزابيث" في بداية السرد، فأضافت لها مزيداً من التشويق، فضلاً عن لجوئها إلى الحوار المسرحي، الذي لم يتح فقط استراحات سردية، وإيهاماً بالآنية، وواقعية الحدوث، وإنما كان سبيلاً لمزيد من التشويق، عبر ما حمله من مفآجات، خالفت معطيات الحكي ومقدماته. أما المونولوغ الداخلي، فكان وسيلة الكاتبة لسبر أغوار النفس الإنسانية، واكتشاف نواقصها، وتفكيك تعقيدها: "أنا لست جدتك اللعينة، تفكر إيلينا، لكنها لا تقول شيئاً، تنظر إليه وتستمر في السير، كما لو كانت صماء أيضاً، صماء مثل قدميها عندما ترفضان الاستجابة لأوامر مخها، صماء مثل كل من يرفض الاستماع لها عندما تقول إنها كانت تمطر ذلك المساء" ص 108 .

العزف على الحواس

عمدت الكاتبة إلى استنفار حواس المتلقي، فاستخدمت لغة مشهدية دفعت عبرها بالأحداث إلى حيز الرؤية، إضافة إلى استخدامها تقنيات سينمائية، مثل المزامنة التي وزعت من خلالها المشاهد، بين ماض مستعاد، وراهن معيش. كما استنفرت حواس أخرى لكي تجسد وطأة مرض إيلينا، والسلام الغائب بينها وبين ابنتها، فانبعثت من السطور رائحة البول، وملمس المنديل المبلل باللعاب، ومذاق الدموع المالحة، وصوت سياط الكلمات المتبادلة بين المرأتين. وبلغت عبر عزفها على الحواس، مناطق عميقة من الشعور، لتضمن مشاركة القارئ شخوصها، مشاعر الغضب، الألم، الإحباط، التقزز. وتصل به إلى حال من التماهي مع النص، عززتها عبر صدقية الشخوص، وجاذبيتها المنبعثة من ثوبها البشري، الموسوم بالخير والشر معاً. كذلك زادت بينيرو من جاذبية النسيج، عبر ما استدعته من فلكلور، ومن ثقافة المجتمع الأرجنتيني، واعتقاداته ذات الطبيعة الغرائبية: "كانت تلمس ثديها الأيسر إذا ذكر أي شخص اسم ليبرتي، وهو رجل مسكين فقير تتردد الشائعات حوله في الحي أنه نحس، ودائماً تجده في المكان الخطأ في الوقت الخطأ. كان موجوداً أمام منزل عائلة فراري عندما سقطت شجرة الصنوبر وحطمت السقف" ص 50. ودعم غاياتها في زيادة جمالية وجاذبية النسيج، لجوؤها إلى التناص مع الموروث من الدين المسيحي، الذي اتسق مع طبيعة شخوصها واعتقاداتهم، ومع ما أثارته من قضايا جدلية وأخلاقية شديدة الخطورة، تتصل بالنفاق الديني، والسلطة على الجسد.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة