Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ماذا بقي من جمهورية 56 في السودان؟

توسع التعليم بين فئات المهمشين فرض أطواراً متقدمة من الصراع على السلطة والحرب الجارية اليوم هي أحد أشكالها

الحرب تركت بصمتها على المدنيين في السودان (أ ف ب)

ملخص

بينما جرى الاحتفال بالاستقلال كانت هناك مشكلات نائمة تفاقمت مع مرور الزمن فازداد الأمر تعقيداً وخطورة.

المتأمل في واقع التعبيرات المأزومة للقوى السياسية والحزبية في السودان قبيل حرب الـ15 من أبريل (نيسان) التي اندلعت بين الجيش وقوات الدعم السريع يمكنه أن يدرك بقليل من التفكير أن الأحزاب والقوى السياسية والعسكرية كانت تعاني عطباً مزمناً في هويتها السياسية، وهي في الحقيقة أزمة قديمة، لكن تطورات وتعقيدات سياقها التاريخي جعلتا من لحظة الحرب كاشفة عن مدى عمق الأزمة التي كانت واضحة منذ بداية تأسيس جمهورية عام 56 مع الحكومة التي استلمت السلطة من الاستعمار البريطاني، وما كشفت عنه تلك الطبقة من الأفندية، قادة حكومة الاستقلال الذين كانوا أقرب إلى كونهم هواة منهم إلى أية طبقة سياسية يمكنها أن تضع البلاد على سكة التطور الصحيح كما حدث في الهند مثلاً.

وإذا كانت نتائج الحرب العالمية الثانية أدت في ما أدت إليه من نتائج إلى تصفية الاستعمار التقليدي في العالم (بريطانيا - فرنسا)، وظهور عالم القطبين المنتصرين في الحرب (أميركا - الاتحاد السوفياتي)، فقد كانت تركة دولة الاستعمار البريطاني التي ورثها أفندية حكومة الاستقلال السودانية، من جهاز إداري وبنية تحتية ومدنية قابلة للنمو، أكبر بكثير من قدراتهم حين تولوا صناعة القرار في الحكومات السودانية المتعاقبة.

فلم يكن البريطانيون (وهم يؤسسون مستعمرتهم السودانية بعناية بالغة مطلع القرن الـ20) يتوقعون انفكاكاً عنها بعد نصف قرن، وبتلك السرعة المفاجئة التي فرضتها نتائج الحرب العالمية الثانية من تصفية سريعة لمستعمراتهم في الشرق الأوسط والعالم، كما لم يكن الأفندية الذين ورثوا سلطة البريطانيين في إدارة الدولة السودانية مؤهلين بما يكفي للقيام بأعباء تركة الدولة التي تفاجأوا بها، وهم خلوا من أدنى نظر استراتيجي لبناء استقرار دولة فيها تنوع إثني ولغوي وثقافي مختلف الاتجاهات في مكونات متباينة ثقافياً ومتفاوتة تاريخياً، تعين عليها أن تعيش داخل الحدود السياسية للسودان منذ عام 1956.

لا يغيب التاريخ عن حراك الحاضر فهو دائماً لديه أسباب في الأحداث الآنية، وهذا ما سنجده واضحاً إذا ما نظرنا إلى التاريخ السياسي لكيان الدولة السودانية منذ بداياته مع الاستقلال في عام 1956.

 ففيما كان جميع السودانيين يحتفلون بالاستقلال، كان ثمة مشكلات نائمة لا تنتهي بل تتفاقم مع مرور الزمن فتزداد تعقيداً وخطورة من دون أن ينتبه إليها أحد سوى أفراد قليلين، منهم منصور خالد الذي نبه إلى تلك المشكلات الخطرة في كتابه "النخبة السودانية وإدمان الفشل" منذ سنوات طويلة من دون أن ينتبه أحد إلا قليل جداً، فخطورة ما كان يقرعه منصور من أجراس منذرة من عواقب نهج احتكار السلطة والمال، بدا له واضحاً أنه نهج ستفضي نهايته إلى خراب مؤكد لا محالة.

منصور خالد وفشل النخبة السودانية

عزا منصور خالد أزمة النخبة السودانية إلى غياب الرؤية، فالأزمة في جوانبها الفكرية تعود إلى "تصدع للذات يقود إلى فجوة بين الفكر والممارسة، بين ما يقوله المرء وما يفعل، بين التصالح مع الواقع السلبي في المجتمع والإدانة اللفظية لهذا الواقع. وتلك حال نفسية تقود على مستوى النظر والممارسة للتلبيس في الفكر والتخبط في الأداء أياً كان نوع البزة التي يرتديها النخبوي، سمى نفسه أممياً أم قومياً أم ليبرالياً أم إسلامياً".

وكثيراً ما تصبح هذه البزات الفكرية التي يرتديها الدعاة، بوعي أو من دون وعي، دثاراً يستترون به عن المساءلة السياسية الوطنية المباشرة، لأن الإنجاز في الأمور الوطنية التي تمس حياة الناس مساً مباشراً لا يمكن قياسه في وعي تلك النخبة إلا بمعيار محدد، هذا المعيار هو ما حققه الحزب أو الزعيم أو النظرية أو المفكر السياسي من تطور في حياة الناس اليومية، فليس هناك من معيار موضوعي واحد تحدد به العائد المادي على حياة الناس من وراء ترديد شعار مثل "لا بديل لشرع الله"، من دون أن تبين للناس ما انعكاس شرع الله على قضية الأمن الغذائي أو مشكلة الديون.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من الواضح هنا أن منصور خالد يؤكد غياب الرؤية عن جميع محازبي القوى السياسية بجميع ألوانها، فالأزمة السودانية وفق رأيه "ليست أزمة حكم أو هوية فحسب وإنما هي قبل هذا أزمة رؤية. المأزوم ليس هو المواطن أوهاج الذي يهيم على سفوح التاكا في شرق السودان، ولا المواطن تيه الذي أكدى يديه الحفر في هضاب جبال النوبة بغرب السودان، ولا المواطن سر الختم الذي لا يزال يستمسك بقليل من أرض صلعاء على حفافي النيل بشمال السودان... المأزوم هو تلك الأقلية الاستراتيجية من صفوة المثقفين أو بالأحرى المتعلمين التي افترضت لنفسها التعبير وصنع القرار وتقرير المصير باسم هؤلاء جميعاً بحكم سيطرتها على الحكم والمال والتعليم ووسائل الإعلام الحديث".

كتب منصور خالد كتابه "النخبة السودانية وإدمان الفشل" قبل أكثر من 30 عاماً، فيما كان واضحاً أن المشكلات التي ظلت تتفاقم في مأزق النخبة السودانية كانت تزداد تعقيداً وانفجاراً عبر محطات ومراحل مفصلية مثل انفصال جنوب السودان 2011، والحرب الأهلية في دارفور 2003، وصولاً إلى ثورة الـ19 من ديسمبر (كانون الأول) 2018، وانتهاء بانفجار هذه الحرب في يوم الـ15 من أبريل الماضي، التي بوصولها إلى الخرطوم بعد أن طافت الحرب بجنوب السودان وغربه وشرقه ستؤسس لتاريخ مفصلي، لن يكون السودان بعده كما كان من قبله، إذا ما انتهت تلك الحرب إلى خيارات تسوية جديدة.

بيد أن الملاحظ أنه في ما كان منصور خالد يتحدث عن "نخبة"، وهي بطبيعة الحال كلمة تعكس معنى غير فئوي، بدا واضحاً أن طبيعة هذه النخبة أصبحت أقرب في الوصف إلى أنها فئة مناطقية أكثر منها نخبة.

أبكر إسماعيل وصراع الهوامش

وهذا ما استدركه أبكر آدم إسماعيل الذي يرى أن طبيعة ومآلات الصراع في السودان تتردد بين التغيير الذي يمكن أن تحدثه الثورة، أو المساومة التاريخية التي ستعني الانهيار، لكن طبيعة الصراع ولدت مستويين، مستوى فوقي وهو صراع المركز مع المركز على كراسي السلطة، وهو صراع ليس بإمكانه الهيمنة على بنية الدولة السودانية ككل، لأن الصراع الأكبر بحسب أبكر إسماعيل هو صراع البنيات الكبرى، أي صراع البنيات المتناقضة كبنية في مواجهة بنية مختلفة، وليس صراعاً داخل بنية واحدة.

والسبب في هذا الصراع الكبير الذي نراه اليوم عبر هذه الحرب يتصل بالعطب التكويني للدولة السودانية لأن السودان حين تأسس بواسطة الاستعمار كإطار كانت الكتل التي تكونت داخله تنطوي على هويات مختلفة ثقافياً ومتفاوتة تاريخياً، مع الإبقاء على تثبيت هرم امتيازات النخبة المحتكرة لصناعة القرار السياسي عن غيرها، لكن مع التطور والوعي والانتظام المدني وتوسع التعليم والانتقال من الريف إلى المدن وجدت تلك القوى الاجتماعية المهمشة حين أرادت الوصول إلى قمة هرم سلطة الدولة أن موانع الهيكلية أبقتهم في دوائر محددة لا يمكن تخطيها إلى مواقع احتكار السلطة والثروة.

ونظراً إلى أن فئات المهمشين الذين هم غالبية أهل السودان عند بداية تأسيس السودان كانوا في أحوال ما قبل الدولة، إلا أن تطور هذه الفئات المهمشة وتوسعها في التعليم مع إبقائهم في تلك الدوائر المانعة من مشاركتهم وإدخالهم في إطار النخبة المحتكرة لصناعة القرار السياسي، ولد صراعاً أكبر وهو الصراع الذي وصفه أبكر آدم إسماعيل بصراع البنيات الكبرى المختلفة.

وبطبيعة الحال كان عاجلاً أو آجلاً لا بد أن يفرض توسع التعليم بين فئات المهمشين أطواراً متقدمة في الصراع على السلطة، وهنا في ظل الاحتكار التاريخي والفئوي للسلطة والثروة في السودان بأيدي فئة مناطقية محددة، كان من الوضوح بمكان أن الصراع سيتطور إلى مرحلة يمكن القول معها إن هذه الحرب الجارية اليوم بين الجيش والدعم السريع هي أحد أشكالها الجذرية والأكثر عنفاً.

 ذلك أن هذه الحرب الدائرة اليوم في الخرطوم وبوصفها حرباً في قلب العاصمة المركزية للبلاد هي المؤشر الأكبر لبلوغ صراع البنيات طوراً مفصلياً، أي إن الصراع الذي كانت تعكسه من قبل حروب الجنوب ودارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة وشرق السودان كان يمثل أطواراً محدودة للحرب بالنسبة إلى المركز في الخرطوم ويمكن التغلب عليها، لكن الحرب التي تشهدها الخرطوم اليوم بين الجيش والدعم السريع تؤكد رؤية أبكر آدم إسماعيل في عدم قدرة صراع البنية البينية للمركز، أي صراع المركز مع المركز على السلطة، على احتواء الصراع الأكبر، أي صراع البنيات الذي يجسد تناقضات المصالح بين غالبية المهمشين والنخبة المناطقية المحتكرة للقرار السياسي.

وبالعودة لما أسلفنا فيه القول ببداية المقالة من أن القوى السياسية والعسكرية في السودان ظلت تعاني أزمة مزمنة من عطب في الهوية السياسية وفقر في الرؤية الاستراتيجية، سندرك تماماً أن طبيعة الخلافات العبثية التي كانت تتحكم في معسكر قوى الثورة، بين قوى جذرية وكتلة ديمقراطية ولجان مقاومة، كانت بالفعل خلافات أثبتت الحرب الجارية اليوم بين الجيش والدعم السريع أنها خلافات خطرة جداً، بل يمكننا القول إنها تعبر عن مأزق كياني للقوى السياسية هو أخطر حتى من هذه الحرب الدائرة، لأن الحرب ستقف يوماً ما، فيما "فشل النخبة" الذي وصفه منصور خالد قبل 40 عاماً في كتابه الشهير لا يزال فشلاً يعيد إنتاج نفسه، وله القابلية لذلك مراراً وتكراراً إلى ما لا نهاية، ما دام هناك غياب لحد أدنى من الإجماع السياسي لتلك الأحزاب على موقف موحد لسقف وطني أخلاقي لا حزبي حيال الحفاظ على أسس السلم الهش والقدرة على استبصار أثر موازين القوة المختلة لصالح العسكر في تدمير ذلك السلم مع الحالة الاقتصادية الأقرب إلى الانهيار.

وكم كان محزناً ومعيباً عدم قدرة القوى السياسية والحزبية قبيل اندلاع الحرب عن رؤية تلك الحقائق الاستراتيجية من واقع دستوبيا الحالة السودانية، مع كل تلك المصائب التي كانت ينذر بها أفق الحرب والخراب في الخرطوم.

 وكم كان ساذجاً ومثيراً للشفقة تلك الدعوات العريضة من قوى حزبية كقوى التغيير الجذري التي كانت تحلم أحلاماً طوباوية في التغيير ورفض ما سمته "الهبوط الناعم" وكأن السلم الهش الذي وضع السودان في مهب الحرب اليوم، هو سلم تحرسه أسلحة ديمقراطية.

حين كتبنا مقالتنا "انفصال الجنوب ومأزق الدولة الشمالية" (غداة انفصال الجنوب العام 2011) ذكرنا فيه أن "الأسباب التي دعت إلى انفصال جنوب السودان لا تزال كامنة في بنية تفكير نظام الإنقاذ، وفي جملة الإجراءات التي ستتعلق بواقع الدولة الشمالية مستقبلاً، وفي طريقة استجابته للتحديات التي يخلقها هذا النظام بنفسه ثم يعجز عن حلها. المشكلة ذات طابع تاريخي متصل بالعدالة والمواطنة، وأخفقت الحكومات الشمالية في تحقيق هاتين المسألتين، ليس في جنوب السودان فحسب، بل في جميع هوامش وأطراف السودان الأخرى... وسيكون البديل عن هذين الخيارين: الحرب الأهلية الشاملة".

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل