يعيش السودان اليوم ما يشبه أزمة في نخبه الوطنية، إذ لا يكاد هناك ما يمكن أن نطلق عليه مفهوم النخبة على نحوٍ يعكس الامتياز الموضوعي الذي يعيد تعريف هذه الطبقة بصورة تدل على الكفاءة المطلوبة لما يمكن أن تحدثه هذه الطبقة بوعيها القومي السوداني من تغيير.
يعود الأمر في جزء كبير منه إلى التخريب الذي مارسه نظام الإسلام السياسي في محو صورة النخبة الوطنية – على ما كان فيها من اهتزاز ونقص – لأن نظام الترابي البشير، إذ عوّم مفهوماً أيديولوجياً لجماعة الإخوان المسلمين بوصفها نخبة حاكمة، كان في الوقت ذاته يحاول باستمرار محو مفهوم النخبة السودانية بوصفها نخبة "متعلمنة"، ولا تعكس أي أصالة عن الهوية الإسلامية (كما يفترضها تأويلهم الأيديولوجي للإسلام بالطبع).
والحال أن إشكالية النخبة السودانية ومأزقها ظلا منذ الخمسينيات والستينيات في طي الكمون الذي كان يضمر تحته كثيراً من الأزمات غير المنظورة. لأن مفهوم النخبة السودانية ظل باستمرار خلال ذينك العقدين مرتبطاً بطبقة متعلمة ارتكز أغلبها في محور: دنقلا - الخرطوم - كوستي بطريقة عكست تعريفاً أقرب إلى النخبة المناطقية منه إلى النخبة الوطنية/ القومية، وهو ما تبين بعد ذلك في الآثار الخطيرة التي خلّفها وعي ذلك المفهوم للنخبة.
لقد ظهرت الأزمات التي عكسها غياب المفهوم الموضوعي للنخبة في وقت مبكر، وعبر احتجاجات تطورت في ما بعد إلى مشكلات وحراك مسلح، عقب تمرد توريت بجنوب السودان عام 1955، وقد كان ذلك التمرد العسكري مؤشراً دالاً بذاته إلى خطورة الفهم الذي انطوى عليه مفهوم النخبة السودانية آنذاك لمعنى السودان، حيث يظهر ذلك تماماً في معاني نشيد مؤتمر الخريجين الذي كتبه خضر حمد (ومؤتمر الخريجين كان آنذاك هو خلاصة النخبة السودانية)، فقد جاءت في ذلك النشيد جملة تقول: "أمةٌ أصلها للعرب"، وبكل تأكيد ثمة عرق عربي في السودان، لكن السودان في جهاته الأربع لم يكُن عربياً بالمعنى العرقي للأصول، وإن كانت لغته العامة وثقافته المشتركة عربية.
الأمر الذي انعكس في تطور كثير من الأزمات آنذاك كان يمكن حلها لو تم استدراك الوضع، لكن بسبب التصور الذي حملته النخبة المناطقية آنذاك ظانةً أنه تصور قومي، تحولت تلك الأزمات المبكرة مع مرور الوقت إلى أزمات عميقة جداً، وتحولت الاحتجاجات معها إلى حمل السلاح من أجل نيل الاعتراف بالحقوق السياسية والثقافية المستحقة للجماعات السودانية، وكانت ذروة الأمر مع انقلاب نظام البشير عام 1989، فاشتعلت الحروب الأهلية في الجنوب ودارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة وشرق السودان نتيجة للتراكمات التي أهملت تلك الجماعات السودانية ومناطقها.
لقد كان التطور الجنيني لوعي النخبة بالهوية العامة لمعنى السودان في حاجة ماسة إلى هزة عنيفة تمثلت في التعاضد الذي عبّرت عنه الحركة الشعبية بشقَّيها العسكري والمدني، إذ كان الحراك العسكري للحركة الشعبية، كما عبّر جون قرنق أكثر من مرة، تعبيراً عن اليأس من أي إمكانية لتحول وعي النخبة السودانية إلى فهم جديد لمعنى السودان الحقيقي بأي طرق سلمية، بل حتى عندما أسقطت الانتفاضة الشعبية نظام الجنرال نميري عام 1985، واصل جون قرنق حمل السلاح ضد السلطة المركزية في الخرطوم ليقينه بأن تكلّس وعي النخبة الذي عجز عن فك ارتباطه بالهوية المناطقية بات أمراً لا يمكن الشفاء منه إلا باهتزازات عنف قانوني ضد السلطة، فيما راكم منصور خالد، سكرتير الحركة الشعبية (وهو أبرز مفكر سوداني من أبناء الشمال) دراسات وأفكار بناءة في نقد الهوية المركزية المناطقية التي جرى تعميمها كهوية قسرية للسودانيين كافة.
بطبيعة الحال، كان هناك أفراد يفكرون بالمعنى القومي لهوية النخبة والمطلب التمثيلي للسودانيين كافة في تركيبة الهوية السودانية لكنهم كانوا أفراداً معزولين، أو مفكرين من أمثال محمود محمد طه، أو نخباً حزبية لا يمكن أن تطور وعياً يخترق ذلك الاستعصاء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكم كان مؤسفاً أن نرى بعد توقيع اتفاقية نيفاشا مع نظام البشير عام 2005 (على ما في تلك الاتفاقية من عوار) يقظة غريبة لوعي مناطقي في المركز، بدا واضحاً أنه بالفعل حالة عيانية لتطابق الفهم الذي يطرح نفسه وعياً قومياً للنخبة فيما هو في صميمه وعي مناطقي، حين استقطب نظام البشير أفراداً، طالما توهمنا فيهم رموزاً تحمل وعياً قومياً، وحشدهم لمواجهة المد الجنوبي الذي سيأتي مع وصول جون قرنق إلى الخرطوم! وكان من أولئك الأفراد شخصيات مثل: حسن ساتي – خالد المبارك – محمد إبراهيم الشوش – وآخرين!
لهذا يمكن القول إن ما انعكس وعياً ضعيفاً بل وحتى ساذجاً بجذور مشكلات الأطراف الإقليمية السودانية حتى لدى نخب أحزاب المركز (التي تدعي أنها أحزاب مركزية لكل السودانيين)، لا يزال قائماً ومثيراً للشفقة حتى اليوم بعد ثورة ديسمبر 2018، الأمر الذي يمكننا أن نفهم من خلاله مدى عمق المأزق الذي تنطوي عليه أفكار النخب، والنخب الحزبية السودانية اليوم.
فاليوم، ونتيجة لعجز النخب السودانية في الاضطلاع بمهمة الوعي القومي لكي تكون قادرة على فهم مشكلات الأقاليم ومن ثم وضع الحلول لها، نرى المشكلات تزداد تفاقماً في دارفور، فيما تهدأ وتستيقظ في شرق السودان. لكن لكون أن التحدي الذي يمثل اليوم أمام النخبة السودانية الفاشلة (كما نعتها منصور خالد ذات يوم في كتاب بعنوان "النخبة السودانية وإدمان الفشل) أكثر تعقيداً من ذي قبل بعد 30 عاماً من تخريب نظام الإسلام السياسي على يد البشير – الترابي، ستظل هذه النخب أكثر عجزاً مع مرحلة ما بعد انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول). لأنه بعد فشل وضياع تجربة الوحدة السودانية على أسس جديدة من خلال اتفاقية نيفاشا 2005، وبعد الإجهاز على المرحلة الانتقالية الواعدة، على الرغم من أخطائها الجسيمة برئاسة حكومة حمدوك، سيكون السودان ذاته على مفترق طرق.
اتفاقية سلام جوبا
على الرغم من اللغط الذي يثيره كثيرون حول اتفاق سلام جوبا الذي جرى في المرحلة الانتقالية السابقة خلال رئاسة حكومة حمدوك، إلا أن اتفاقية جوبا في جوهرها تعبّر عن نظام جيد لتعزيز سلطة الشعب السوداني بمكوناته كافة في أنصبة عادلة للسلطة والثروة.
فما يثيره البعض من انتقاد لاتفاق جوبا ينمّ عن شعور بأن هذه الاتفاقية ستسحب بساط الامتياز التاريخي الظالم من تحت كثيرين في مواقع ووظائف السلطة العمومية بردّها لصالح كل السودانيين. فاتفاقية جوبا حال تطبيقها بنزاهة ستنطوي على استحقاق لعدالة تاريخية لصالح كل المكونات السودانية.
وهناك من يعارض اتفاقية جوبا، في بعض مساراتها كمسار الشرق، بطريقة عنصرية لا تعكس وعياً مواطنياً، ولا تعرف أسلوباً للعمل السياسي، كما يفعل ما يسمّى
لعله من الأهمية بمكان اليوم، فيما تستأنف الثورة السودانية حراكها القوي من أجل استعادة الديمقراطية، أن تكون هناك إعادة نظر نقدية في مفهوم النخبة، الذي ظل يفهمه كثيرون على مدى نصف قرن بطريقة مركزية مناطقية مدعاة على أنها وعي قومي!
إن أكبر فشل للنخبة السودانية اليوم هو عجزها المقيم عن القيام بأي حلول للمشكلات الوجودية المزمنة التي يعيشها السودان اليوم، وهي في الحقيقة مشكلات من صنع يدي تلك النخبة ذاتها عبر ذلك الوعي الشقيّ، إذ ظنت تلك النخبة المركزية باستمرار: أن فهمها للوعي المناطقي المركزي هو ذاته الوعي القومي الذي يحتاجه السودان للخروج من النفق المظلم فضلّت وأضلّت!