ملخص
#الطموح_العلمي للأجيال الجديدة بات موضة قديمة وغالبية المراهقين يبحثون عن طرق للربح السريع عبر تطبيقات #بث_المحتوى على #السوشيال_ميديا
باتت الجملة التقليدية التي كان يرد بها كثير من الأطفال على أي شخص يسألهم عن وظيفتهم المستقبلية فيخبرونهم "أن أصبح طبيباً أو معلماً أو مهندساً" تنتمي إلى الماضي البعيد.
لم نعد نسمع تلك الإجابة تقريباً، إذ إن كثيراً من هؤلاء الصغار شقوا طريقهم بالفعل، وبدأوا في التدرب على وظيفة "الأحلام"، وهي فعل "لا شيء"، وبثه عبر "تيك توك" و"إنستغرام".
حينما ننظر حولنا سنحصي أن أكثر من نصف الأطفال الذين نعرفهم منخرطون بالفعل في هذا التيار، مع طموح لا يتوقف بجني المال، وحديث دائم عن خططهم لاستقطاب الجمهور، فيما النسبة الباقية تسيطر أسرهم بصعوبة على تلك الرغبات لديهم وتحاول تقنين استخدامهم لتلك الوسائط ليبدو أسلوب معيشتهم معتدلاً بين الدراسة واللعب مع الأقران، فقد جاء اليوم الذي أصبحت فيه مشاهدة التلفزيون بالنسبة إلى الأطفال قمة ما يطالب به الأبوان باعتباره أقل خطراً بكثير من متابعة ما يجري على تطبيقات تنمو حتى كادت تبتلع جميع الفئات العمرية.
لم تعد الدراسة أولوية بالنسبة إلى كثيرين من أبناء هذا الجيل، ومن يحتك بوسط الصغار، سواء في المؤسسات الرياضية أو التعليمية أو مراكز الألعاب، سيجد أن التعليم بالنسبة إليهم طريقة غير محبوبة لتنفيذ رغبة الأهل، بينما التفوق به لم يعد من ضمن ما يسعون إليه من الأساس، بل فقط اجتياز السنوات الدراسية دون أية رغبة في المنافسة أو شعور بالذنب إذا حصدوا تقديرات ضعيفة. يتعامل معه بعض الأطفال على أنه مسألة وقت يقضونه إلى أن يصلوا للمرحلة التي يصبحون فيها "أسياد قراراتهم"، حيث يلقون في وجوه من يعاتبهم بمجموعة من الأسئلة الملغمة، تختصر عادة بأنهم لماذا يتعبون أنفسهم ويضغطون عقولهم بينما يمكنهم تحقيق ثروات حقيقية عن طريق تقديم المحتوى عبر السوشيال ميديا، ضاربين المثل بعشرات النماذج التي تتاجر في الهواء حرفياً وتحصل على آلاف وملايين الدولارات بأقل مجهود؟
"فن اللاشيء"
في حين أن الفضاء الإلكتروني مفتوح لاستعراض المواهب والمقاطع المضحكة والمشاركات التي تعزز التواصل، ولكنه بالنسبة إلى الأهالى بات مقلقاً للغاية، ليس فقط فيما يتعلق بالمحتوى غير اللائق الذي يمكن أن يقابل أبناءهم أثناء التصفح، وليس فقط بسبب الألعاب والتحديات التي يمكن أن تضع حياتهم على المحك، ولكن لأن الجميع يبحث عن "الأسهل" دون أي اعتبار لمؤهلات علمية أو حتى التدريب لإنتاج محتوى له معنى، وبات "السلك التعليمي" التقليدي موضة قديمة، وأقصى الأمنيات هي أن يجتاز الشباب الصغير من بضعة دورات تدريبية تنتهي في عدة أسابيع ويحصلون منها على شهادة ما في تخصص غير معقد للاستفادة أيضاً بها لتعزيز صورتهم كمؤثرين مستقبليين، ليبقى السؤال: إذا كانت الغالبية تطمح لأن تصبح مؤثرة فمن سيتأثر إذاً؟
من المؤكد أن هناك فائضاً في هذا المجال بالفعل، وهم ليسوا سواء على مستوى قدر النجاح، ومن ثم الثروة، لكن الأمر في رأي المتحمسين له يستحق العناء، وقصص النجاح السهلة تبدو مغرية للغاية، فعلى سبيل المثال يجني الطفل الأميركي من أصل ياباني رايان كاجي Ryan Kajiأكثر من 30 مليون دولار سنوياً، بحسب "فوربس، من قناته عبر "يوتيوب" (عالم رايان)، بينما تتجاوز أرباحه الـ200 مليون دولار من العلامات التجارية التي تحمل اسمه ومرتبطة بالقناة، وقد حقق الصغير البالغ من العمر 12 سنة، ويعيش مع والديه وشقيقتيه في تكساس الأميركية مليارات المشاهدات على مدار أعوام ويتصاعد عدد مشتركيه، فيما إنجازه يتمثل عادة في فتحه صناديق الألعاب وحديثه مع متابعيه عن رأيه بها ومميزات كل لعبة. هناك عشرات "اليوتيوبرز" مثل رايان ومن يريدون اللحاق به، بالتالي فمقاومة هذا الهوس تبدو عصية للغاية.
على من تقع المسؤولية؟
تلوم الناشطة الحقوقية داليا صلاح على المنوطين بإلقاء الضوء على النماذج المؤثرة للأطفال والشباب الصغير، معتبرة أن للإعلام دوراً أساسياً، حيث تشير إلى أنها من خلال عملها الميداني باعتبارها مدير المؤسسة المصرية للنهوض بأوضاع الطفولة، فإن الشباب من الأسر الفقيرة الذين يتعرضون يومياً لضغوط كبيرة جراء متابعتهم استعراض مظاهر الرفاهية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يحاسبون أسرهم على عدم تمكنهم من توفير أسلوب معيشي معين لهم أسوة بما يرونه، بالتالي يبحثون عن أسهل طريقة لتحقيق أمنياتهم باقتناء ما يفتقدونه وما يشاهدونه من خلال متابعة التطبيقات المختلفة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تضيف "بالطبع هناك دور للمدرسة، وكذلك دور العبادة بأنواعها، والأسرة بالطبع، فيجب أن نحاصر الصغار بالشخصيات التي ينطبق عليها لقب قدوة ومثل أعلى، سواء بعملها أو خلقها ونزاهتها وقصص كفاحها كي لا تتدهور طموحات الأبناء، لأن هذا الجيل يعد ضحية حقيقية لنوعيات من الشخصيات غير المؤهلة التي تتصدر المشهد".
طموح الجيل الجديد
جاذبية هذا المجال تجعل الملتفين حوله كثر، فقد ضجت وسائل الإعلام العالمية بنبأ طرد السيناتور الياباني شيكازو هيغاشيتاني، المعروف باسمGaaSyy من مجلس الشيوخ نظراً إلى عدم حضوره أي جلسة منذ انتخابه ممثلاً لدائرته قبل سبعة أشهر، فيما يفضل العضو الجلوس وتقديم محتوى فني ترفيهي متعلق بحياة المشاهير عبر قناته الخاصة على موقع YouTube التي يجني منها أرباحاً ويحقق شهرة ومتابعين، وهي واقعة نادرة من نوعها، حيث جردته لجنة الانضباط من موقعه، حتى إنه لم يحضر جلسة اتخاذ القرار ولم يبادر بالاعتذار شخصياً لأعضاء المجلس، واكتفى بإرسال فيديو من بعد.
التعليم ليس في المرتبة الأولى
قبل أيام أيضاً فتحت المؤثرة التونسية المقيمة بالأردن ضحى العريبي ملف أرباح نشطاء "تيك توك" العرب مجدداً، حينما أعلنت أنها تحصل على ما يوازي 6500 دولار أميركي مقابل بثها لمدة ساعة واحدة فقط عبر المنصة التي تحظى بشعبية بين أوساط المراهقين والأطفال، الأمر الذي أثار مزيداً من التعليقات بدءاً من المطالبة بالتحقيق معها والتدقيق في مصدر دخلها بالضبط، وآخرون أبدوا غضبهم من كون شهرتها في رأيهم غير مستحقة، بخاصة ممن يصفون المحتوى الترفيهي الذي تقدمه بمتوسط الجودة، أو حتى ضعيف، ولكن أكثر ما تم التعليق عليه باستياء هو مباهاة العريبي المتزوجة من "بلوغر" مثلها أيضاً، والبالغة 25 سنة بأنها حصلت على الشهادة الإعدادية بصعوبة، حيث إنها تعثرت دراسياً، وأيضاً فشلها في أن تكمل مرحلة الثانوية، وعلى رغم أنها شقت طريقها واكتشفت نقاط تميزها وصنعت لنفسها مجالاً يدر عليها أموالاً، ولكنها مع ذلك تتهم بأنها تروج لإعلاء قيم لا تحتفي بالعلم الذي هو قوام تحضر وتقدم أي مجتمع.
المحتوى الهادف له مكان أيضاً
لكن الحقيقة أن هناك محتويات هادفة يقدمها الهواة ومن يطلقون عليهم مؤثرين عبر تطبيقات الفيديوهات المختلفة، قد تكون أقل انتشاراً وشعبية، ولكن أصحابها يثابرون، وبعضهم يحقق أرباحاً أيضاً، حتى لو لم تكن خيالية، وحتى لو لم تكن تأتي ببساطة، فالفضاء الإلكتروني ليس كله مظلماً، وبين من يحاولون صنع بصمة مختلفة الشاب "صالح ع" الذي يقدم محتوى اقتصادياً عبر قناته الشخصية بموقع يوتيوب، مشيراً إلى أنه يجتهد كثيراً في أثناء التحضير للحصول على معلومة دقيقة، لافتاً إلى أنه كان متفرغاً في البداية لعمله كمعلم بمدرسة ابتدائية، ولكنه كان مهتماً بتأثيرات القرارات الاقتصادية الكبرى، سواء عالمياً أو محلياً على حياة المواطن العادي، لافتاً إلى أنه واجه صعوبات كثيرة في الحصول على مشاهدات وكذلك مشتركين، بل كان محبطاً ويريد أن يتوقف، ولكنه تدريجاً أصبح يحقق أرباحاً حتى لو كانت محدودة، مشدداً على أن المحتوى الترفيهي البحت مثل الفيديوهات الشخصية والخادعة، والتي تعرض يوميات الناس في بيوتهم وتظهرهم بصورة محرجة هي الأسرع في تحقيق الهدف، ولكنه رفض تلك الطريقة وقرر أن يركز في مجال لديه شغف به.
عقوبات قاسية وهوس لا ينقطع
اللافت أنه على رغم اللغط الذي يحيط بصانعي المحتوى الذين يبثون مقاطع فيديو تصنف على أنها غير لائقة، أو حتى تندرج تحت بند الفضائح الشخصية في منازلهم، أو مزيفة، وغيرها، لا تزال الرغبة في تقليدهم متزايدة، بخاصة بعد أن تم الكشف عن بعض من أرباحهم السنوية، والتي تصل إلى ملايين الدولارات، نظراً إلى ضخامة أعداد المشاهدات عبر التطبيقات المختلفة، وفي حين دفع عدد من ناشطات موقع "تيك توك" تحديداً في مصر الثمن من خلال ما عرف بقضية فتيات الـ"تيك توك"، حيث نلن أحكاماً قضائية بتهم الاتجار بالبشر وبث المحتوى غير اللائق، كما أن مؤثرات عربيات أخريات تعرضن لمضايقات أودت بحياة بعضهن أو جلبت لهن أحكاماً قضائية ثقيلة، لا سيما في اليمن والعراق، ولكن التطبيق لا يزال يشكل هوساً بين أوساط من هم في العقد الثاني من أعمارهم باعتباره الأسرع في الربح والأكثر انتشاراً والأسهل في تحقيق المشاهدات، بمليار مستخدم شهرياً، بحسب الإحصاءات.
تعود الحقوقية المعنية بأوضاع الأطفال دعاء صلاح لتقول بكل وضوح، إن النماذج من تلك النوعية تقدم "الولا حاجة"، أي المحتوى التافه، مشيرة إلى أن تداول أرباح "البلوغرز" ومن يحسبون على الفن وهم بلا موهبة، والتركيز على الامتيازات التي يحصلون عليها يزيد من شراهة محاولات التشبه بهم. وتواصل مدير المؤسسة المصرية للنهوض بأوضاع الطفولة "في وقت سابق كانت النماذج التي تقدم للأجيال الجديدة من نوعيات مختلفة تماماً مثل العلماء والأدباء والأطباء اللامعين، والمؤثرين في تطور البشرية، وحتى كبار الفنانين الموهوبين بحق، وهي نماذج حصدت التقدير بعد جهد كبير، ليتميز كل في مجاله"، لافتة إلى أن الجيل الحالي يشاهد نجاحات لشخصيات بلا مؤهلات، حيث ينخدع الشباب والمراهقون بالمظاهر التي باتوا على يقين أنها تتحقق من دون الحاجة إلى العلم، بل إنهم يشاهدون أن من ينالون قسطاً وافراً من التعليم حولهم لا يتمتعون بتلك الرفاهيات، بينما تحصل عليها بسهولة فئات مختلفة تماماً جراء احتراف "التفاهة" عبر السوشيال ميديا.