ملخص
في #مصر حضرت الدعابة كالعادة لكنها لا تخلو من مكونات رئيسة من القلق والغضب وانعدام القدرة على استشراف المستقبل القريب في ما يختص #باللحوم_الحمراء
يبدو أن #اللحوم_الحمراء ارتبطت بدرجة الثراء حتى في عصور #المصريين القدماء
بذل المذيع جهداً رائعاً في فقرة "وحدة عنصري الأمة"، وتكلم كثيراً واستمع الضيوف طويلاً، ودارت الفقرة حول مسيحيي الأمة ومسلميها وكنائس الوطن ومساجده وقساوسة المصريين ومشايخهم على خير ما يرام، لكن ما إن تفوه المذيع بعبارة "الحفاظ على لحمة الوطن" حتى خرج نادل المقهى عن شعوره معلناً أن "اللحمة" الوحيدة التي يعرفها هي تلك الغائبة عن مائدة يوم الجمعة والمعلقة في محل الجزارة والمحلقة في عوالم خفية.
جاء التعليق على سبيل الدعابة، لكن كم من دعابة تلمس أوتاراً حساسة وتخدش أوجاعاً غائرة وتصب في صحون تفتقد هذا المكون البروتيني العزيز على القلوب الثقيل على البطون المترفع عن الحضور.
احترام اللحمة
في مصر حضرت الدعابة كالعادة، لكنها لا تخلو من مكونات رئيسة من القلق والغضب وانعدام القدرة على استشراف المستقبل القريب في ما يختص باللحوم الحمراء، ذلك المكون البروتيني الذي يحظى بمكانة ثقافية واجتماعية خاصة لدى المصريين منذ آلاف السنين.
"منذ آلاف السنين" ليست عبارة استهلاكية أو رمزية، بل هي عبارة علمية حقيقية، فأستاذة علم المصريات سليمة إكرام أشارت في دراسة نشرتها الجامعة الأميركية في القاهرة إلى أن المصريين القدماء كانوا يحرصون على التأكد من أن كل كبيرة وصغيرة معدة بإحكام لاستقبال الموتى في رحلتهم من هذه الحياة القصيرة إلى تلك الأبدية، والطعام مكون رئيس في هذه الاستعدادات، وفي القلب من هذا الطعام اللحوم الحمراء.
ويبدو أن اللحوم الحمراء ارتبطت بدرجة الثراء حتى في عصور المصريين القدماء، وتقول إكرام إن مقابر المصريين القدماء الأثرياء حوت لحوماً محنطة ومغلقة بـ"الراتنغ"، وهي مادة صمغية غالية ونادرة مستوردة من الشام، مما يؤكد اهتمام المصري القديم برفاهه في الحياة الأخرى.
وتضيف إكرام، "مادة الراتنغ وجدت في مقابر مومياوات الطبقات الثرية والحاكمة للإبقاء على لون الجسد البشري، لكن أن تجد مثل هذا النوع من المواد الصمغية على الأطعمة فذلك هو المثير للانتباه، لأن ذلك يعني أنهم كانوا يعاملون الأطعمة بالاحترام نفسه الذي يعاملون به الجسد البشري"، وهذا الاحترام مستمر في مصر الحديثة وبشكل مركز على "اللحمة"، مما يثير حيرة العلماء ويدهش الخبراء ويزعج الحكومات ويفجر الدراسات والإحصاءات بحثاً عن تفسير لهذه المكانة.
مكانة غامضة
هذه المكانة لا تفسرها نتائج دراسة معمقة أجراها "معهد بحوث الإنتاج الزراعي" عام 2016 باحثة في أسباب قصور الإنتاج المصري المحلي عن توفير حاجات المصريين من اللحوم، وتزايد الفجوة الغذائية بين الإنتاج والاستهلاك وانخفاض نصيب الفرد من اللحوم الحمراء مقارنة بدول أخرى ذات مستويات دخول ومعيشة مشابهة، فحتى عوامل زيادة معدلات النمو السكاني ومعضلات سعر التجزئة مقارنة بأسعار الجملة لم تشف غليل الباحثين عن سر مكانة "اللحمة" لدى المصريين أو معضلة عدم توافرها الأبدية.
أبدية الشد والجذب بين الجموع المشتاقة لتلك البروتينات العصية على الوجود، وإن وجدت، فاستدامتها واستمراريتها "على كف عفريت" وتطل بوجه صارخ هذه المرة، إذ يرفع سلاح المقاطعة الراية البيضاء وتلوح جهود الممانعة بأعلام اليأس والإحباط، فالقفزات الجنونية الأخيرة في أسعار اللحوم الحمراء تخبر الجميع أن "الجزارين" صاروا "أوليغارش" ومحالهم لا ينقصها سوى تعليق لافتات "ممنوع الاقتراب أو التصوير"، وبضاعتهم مرشحة للانضمام إلى قائمة كل ما هو غال ونفيس.
ابن النفيس أو أبو الحسن علاء الدين علي بن أبي الحزم الخالدي المخزومي لم يتحدث كثيراً عن العلاقة بين الدورة الدموية التي أسهم في اكتشافها وبين اللحوم الحمراء، لكن من جاءوا بعده أمعنوا تارة بحكم الدراسات والبحوث وأخرى بتشجيع وتحفيز من القائمين على أمر السياسة والسياسات، في الربط بين صحة الجسد ودورته الدموية وترشيد أو تقليل وحبذا الامتناع من تناول اللحوم الحمراء.
اللحوم الحمراء تعرف طريقها إلى العناوين العريضة هذه الأيام بشكل مكثف، "اللحوم الحمراء ترهق صحتك"، "اللحوم الحمراء تضر بشرتك"، "اللحوم الحمراء تدق ناقوس خطر صحة القلب"، "اللحوم الحمراء ترفع نسبة الكولسترول"، "اللحوم الحمراء تصيب بالنقرس"، "اللحوم الحمراء تعرض مرضى الكلى للخطر"، وحتى أبواب وأقسام "طبق اليوم" و"وصفة هنية" و"عيش وملح" وغيرها باتت تسير على خطى "فتة لحمة من دون لحمة" و"الكوستاليتا الكاذبة" و"البرغر النباتي" و"كرات اللحم من دون لحم"، وقوائم ما لذ من دون بروتين وما طاب منزوع اللحوم.
حديث ذو شجون
الحديث عن اللحوم ذو شجون وعلوم، فعلى الجانب العلمي تهدئ معلومات وحقائق تنشرها "منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" روع الخائفين على مآل اللحوم الغائبة عن موائدهم، وكذلك من هبد المعارضين المعتبرين غيابها القياسي وغلاءها الجنوني الحاليين إخفاقاً سياسياً وفشلاً في إدارة شؤون البلاد ومراعاة بطون العباد، على اعتبار أن استهلاك اللحوم يرتبط بمستويات المعيشة والنظام الغذائي والإنتاج الحيواني والأسعار المقدمة للمستهلك، فضلاً عن غياب مستويات اليقين على مستوى الاقتصاد الكلي والصدمات التي يتعرض لها الناتج المحلي الإجمالي، وتشير المنظمة إلى أن اللحوم مقارنة بالسلع الغذائية الأخرى تتميز بارتفاع كلف الإنتاج، ويرتبط الطلب عليها بارتفاع الدخل ومعدلات التحول بفعل زيادة نسب التمدّن، التحضر أي الانتقال من الريف إلى الحضر، وهو ما يؤثر في أنماط الاستهلاك الغذائي التي تصبح أكثر ميلاً لزيادة البروتينات الحيوانية على حساب الخضراوات والفواكه، ولم يفت على المنظمة أن تشير إلى أن صناعة اللحوم الحيوانية على رغم أنها توفر الملايين من فرص العمل إلا أن لها عواقب سيئة على صحة البشر وسلامة الكوكب.
سلامة الكوكب وكباب الحلة
"يعني سلامة الكوكب ستتأثر بكباب الحلة أو (الموزة) التي تزين مائدة أسرتي مرة في الشهر؟" سؤال استنكاري لا يخلو من لمحة استفسارية يطرحه الموظف في إحدى الهيئات الحكومية أحمد النقيب (42 سنة)، تعليقاً على معلومة استهلاك اللحوم التي قد تعرض الكوكب للخطر.
هذا الكوكب المشتعل بأوبئة وحروب وصراعات ومناطيد وزلازل وحرب رقائق وفيضانات سيتأثر سلباً بكيلو "كباب حلة" أو "ربع مشكل" (كباب وكفتة) أو حتى رغيف سمين غير مضمون العواقب؟ والسمين هو بقية أعضاء الحيوان مثل "الفشة" والطحال ولحم الرأس وغيرها مما يسمى شعبياً في مصر "حلويات" على صلة وثيقة باللحم، لكنها ليست لحماً بالمعنى المعروف.
والمعنى المعروف للحوم يتجلى في طبق فتة باللحوم الحمراء الملبدة بالدسم يطلقون عليها تحبباً اسم "ملبسة"، أو في طاجن تتنافس فيه قطع اللحم السميكة مع الخضراوات على أولوية النضج، أو على سيخ يدغدغ الحواس مع كل دوران على الفحم، أو في ورقة لحم بالخضراوات يجهزها الجزار ويسهم فيها الخضري ويدلو فيها العطار بدلوه وينقلها "صبي الجزار" بكل حرص إلى الفرن المجاور للتسوية ومنه في صندوق الـ "دليفري" الذي يطير به "الطيار" على دراجته النارية رأساً إلى مائدة الزبون.
هذه هي المعاني المعروفة والحاضرة للحوم، لكنها معان تتعرض أحياناً إلى التشويه والتشويش بحسب الأسعار والأحوال، كما أن حضورها تتربص به قوى مختلفة منها الخارجية ومنها الداخلية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وجهة النظر، وفي أقوال أخرى العوامل والأسباب، التي يتم سردها هذه الآونة باعتبارها المسؤولة عن ارتفاع أسعار اللحوم الحمراء بوتيرة لم تحدث من قبل في تاريخ مصر، تتأرجح بين حرب روسيا في أوكرانيا وتأثر حركة التصدير والاستيراد وسلاسل التوريد، وهي المشكلات التي ضربت دول العالم من دون تفرقة، لكن التفرقة في الأثر وحجم الألم نجمت عن أسباب أخرى لا تذكر عادة، وإن ذكرت فعلى استحياء.
التدهور غير المسبوق لقيمة الجنيه المصري أمام الدولار يطل في كل حديث ويفرض نفسه لدى كل إتمام لعملية تعاقد على شراء كيلوغرام وربما كيلوغرامين من اللحوم الحمراء.
"كم وصل سعر الكيلو؟" "والله محرج أقول، ولكن الدولار الله يسامحه جعل الكيلو اليوم بـ 240 جنيهاً (7.92 دولاراً)"، وقبل أن يقع الزبون مغشياً عليه يغرقه "الجزار" بسرديات إيجار المحل ودروس العيال الخصوصية وأسعار الأعلاف ونسبة التضخم.
التضخم على كل لسان
الجميع يتحدث عن التضخم فهو حديث الساعة، لكن الغالبية تتناوله بشيء من الريبة، "فالاقتصاد له ناسه" كما يشير بحكمة شديدة الجزار محمد أمين في مدينة الشروق المتاخمة للقاهرة، وذلك قبل أن يضيف، "التضخم هو أن يتضخم الإعلام فيلصق تهمة ارتفاع الأسعار لشجع التجار والجزارين، وأن تتضخم السوشيال ميديا فتثير بلبلة بدعوات المقاطعة أو فتن استبدال اللحوم بالفول والعدس، هذا هو التضخم الحقيقي".
التضخم الآخر يشير إلى قفزة غير مسبوقة في التضخم السنوي في مصر ليصل إلى 25.8 في المئة خلال شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، وهو أعلى معدل له منذ عام 2017، وخبراء الاقتصاد غير المسيسين يؤكدون أن جانباً من ذلك يعود لتداعيات موجة التضخم العالمية، لكن الجانب الآخر يعود لتراجع الجنيه المصري أمام الدولار بنسبة اقتربت من 100 في المئة خلال عام واحد فقط لا غير، ولذلك ارتفعت أسعار السلع الغذائية، لا سيما اللحوم والدجاج والبيض واللبن ومنتجاته، وانخفضت حركة البيع بشكل لافت.
وبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فقد زادت أسعار اللحوم والدواجن بنسبة 20.6 في المئة خلال يناير، وتعدى سعر كيلوغرام اللحم حاجز الـ 200 جنيه (6.56 دولار أميركي)، لكن ما جرى في فبراير (شباط) هو أن سعر اللحم استمر في كسر الحواجز وتحقيق الهوائل لدرجة جعلت "المشاهدين" يتفكهون بأن "اللحمة" دخلت في منافسة استعراض قوة أمام الدولار، ووقت كتابة هذه السطور وصل الكيلو في بعض مناطق مصر إلى 280 جنيهاً مصرياً (9.24 دولاراً)، وهي المناطق التي كان يترفع سكانها ويتعزز قاطنوها على ما يسمى "لحوم الفقراء".
المجمدة سيئة السمعة
اللحوم المجمدة والمستوردة ظلت لعقود طويلة "سيئة السمعة" لدى الأغنياء وأنصاف الأغنياء والمتمسحين بالأغنياء، فمكانة "اللحمة" لدى المصريين لها جذور تتشابك فيها الثقافة مع المذاق والأسطورة والواقع والخيال، ولا تخلو المكانة من مسحة عادات وتقاليد تعتبر اللحوم المجمدة والمستوردة سبة في الجبين وعاراً على العائلة، وظلت هذه العادات تقاوم لعقود طويلة إلى أن أعياها الدولار وأنهكها التضخم.
تضخم سعر اللحم فتح أبواب التسامح مع اللحوم غير البلدية على مصراعيها، ومن كان يرفع رايات الممانعة أمام اللحوم النيوزيلندية والخراف الأسترالية والمجمدات البرازيلية حتى الأمس القريب صار يعتنق مبدأ "كلها لحمة". السيارات الفارهة التي تقف أمام منافذ بيع اللحوم المجمدة والسيدات الأنيقات اللاتي يخرجن من المنافذ حاملات أكياس اللحوم التي كانت حكراً على "أم محمد" عاملة النظافة و"عم سيد" البواب، وغروبات "الماميز" على "واتساب" التي ابتعدت قليلاً من الهبد التعليمي واقتربت كثيراً من تبادل المعلومات المفيدة عن منافذ الحصول على اللحوم بأسعار معقولة، تقول الكثير عن موقف "اللحمة" الحالي.
موقف "اللحمة" الحالي يتطرق إليه بين الحين والآخر نقيب عام الفلاحين المصريين حسين عبدالرحمن أبو صدام، ولا يمر يوم من دون أن يدلو أبو صدام بدلوه حول السلع الغذائية وفي القلب منها اللحوم، ويقول نقيب الفلاحين إن إنتاج مصر من اللحوم الحمراء لا يغطي سوى 60 في المئة على أفضل تقدير، مشيراً إلى أن المراعي الطبيعية غير موجودة وأن الاعتماد الرئيس على الأعلاف المزروعة أو المصنعة وكلاهما عالي الكلفة، كما يشير إلى زيادة الطلب وقلة المعروض إضافة إلى زيادة المواليد وقلة رؤوس المواشي.
زاد المصريون 1.6 مليون نسمة تقريباً من عام 2022 إلى 2023 ليبلغ تعداد مصر الحالي 112 مليوناً و700 ألف نسمة، وعلى رغم ذلك بقيت أعداد المواشي على حالها، ويقول أبو صدام إن عدد المواشي لا يزيد على 8 ملايين رأس إضافة إلى نحو 2.9 مليون رأس من الأغنام والجمال.
مشتاقون وبهم لوعة
لكن لا حصر الأغنام والجمال أو عد الأبقار والجاموس يشفي غليل المشتاقين إلى الحوم أو يهدئ من بهم لوعة إليها، وبين فريق يصب غضبه على الجزارين "الجشعين" وآخر يفش على منصات التواصل الاجتماعي حائط مبكى البائسين، وثالث يبحث عن بدائل للبدائل بعد أن عزّت البدائل الأولى، وتحديداً الدجاج الذي جن جنونه والأسماك التي باتت في متناول قلة قليلة فقط، يخرج إعلاميون وبرلمانيون بين حين وآخر خروجاً يحتار كثيرون في تفسيره، فقبل ساعات طالب الإعلامي والبرلماني مصطفى بكري عبر برنامجه التلفزيوني "حقائق وأسرار" بتقديم التجار الذين يرفعون أسعار السلع الغذائية إلى محاكمات عسكرية، وقال منفعلاً جراء ارتفاع أسعار اللحوم إنه لا توجد رقابة صارمة على التجار، وأن كل تاجر يبيع السلع "بمزاجه"، ضارباً على أوتار المواطن بقوله إن "المصري أصبح فريسة لجشع التاجر الذي يريد أن يمص دمه".
لكن دم المواطن لم يكن المشكلة قبل أيام، بل عقله ورجاحته وقلبه وعاطفته الجياشة تجاه كل ما يتعلق باللحمة وحديثها، فحين خرج عليهم جزار من دمياط بشمال مصر قبل أيام يحدثهم عن بشرى عظيمة تسرهم وتفرح قلوبهم، ألا وهي بدء بيع اللحوم بالتقسيط، وأسهب الرجل في شرح قواعد التقسيط، إذ إن توقيع إيصالات أمانة وسداد مبلغ 200 جنيه (6.6 دولار) على سبيل التأمين و500 جنيهاً (16.5 دولار) مقدم وإحضار صورة الهوية الشخصية وغيرها من التفاصيل جعلت "الفيديو" يجوب أرجاء المعمورة طولاً وعرضاً.
وبدا واضحاً أن العرض لم يكن بغرض شراء اللحم فعلياً بالتقسيط، بل كان الهدف أبعد من ذلك بكثير، فوزارة الداخلية المصرية أعلنت القبض على الرجل الذي قال إن الهدف من الفيديو كان تحقيق نسب مشاهدة مرتفعة، وهي النسب التي ستنعكس أرباحاً في حسابه كما يفعل المؤثرون، لكن هذه المرة سطع نجم المؤثر من باب "اللحمة".
تسييس اللحوم
غرض آخر يحوم في الأفق وهو الدق على أوتار سياسية وكذلك اجتماعية، فالتسييس شعار المرحلة واللحوم ليست استثناء، وقنوات إقليمية وحسابات عنكبوتية وأصوات معروفة بقدراتها الفائقة على الصيد في مياه الأزمات العكرة شمرت عن سواعدها وتفجرت بكائياتها على اللحوم التي باتت عزيزة والبطون التي أصبحت جائعة والموائد التي صارت خاوية وأسياخ الشواء التي أمست فارغة والفتة التي صارت بلا "هُبر" (قطع اللحم)، لكن هذه البكائيات التي اعتادها المصريون على مدى عقد كامل من الزمان، وتحديداً منذ انقلاب الإرادة الشعبية على حكم جماعة "الإخوان المسلمين" عام 2013، لا تفوت أزمة إلا وصالت فيها أو مصيبة إلا ودقت على أوتارها على أمل العودة.
عودة شعارات كتلك التي رفعها بعضهم في أزمات "اللحمة" السابقة مثل "المصري اللي على حق يقول للحمة لا"، أو "بلاها لحمة"، أو إحياء دعوات جمعيات أهلية لمقاطعة الجزارين والامتناع من الشراء للضغط عليهم لخفض الأسعار لم تعد في الإمكان، وحتى أغنية الفنان الشعبي الراحل شعبان عبدالرحيم يتداولها بعضهم هذه الآونة على سبيل "نوستالجيا المقاطعة"، وليست إمكان إحياء المقاطعة أو حتى المعارضة، فالأزمة عالمية والدولار مكتسح والجنيه منكسر وانعكاسات الأوضاع الاقتصادية لا تتوقف عند حدود اللحم، ولكن نظراً إلى مكانة هذا البروتين الحيواني العزيز على القلوب المحبب للبطون والقائمة عليه قوائم ما لذ وطاب في المطبخ المصري، فإنها تفرض نفسها على الساحة، لكنه يبقى فرضاً افتراضياً ويبقى الأمر الواقع سيد الموقف.
حتى أكسسوارات البهائم
والأمر الواقع يشير إلى أن الأزمة طاحنة وأن الجميع في مركب واحد بمن في ذلك الجزارون وأصحاب محال الكباب والكفتة وكذلك "أكسسوارات البهائم" (كرشة وفشة وممبار وطحال وغيرها)، فصحيح أن المركب فئات وطبقات، والطبقة القابعة في الأعلى تختلف عن تلك الرابضة في القبو، لكن الجميع يبحر في الاتجاه ذاته سواء من هو قادر على أكل اللحم يومياً أو أسبوعياً أو شهرياً أو بحسب الظروف، والمصير الواحد يتحدث عن نفسه بأشكال عدة، منها على سبيل المثال تقرير البنك الدولي عن الأمن الغذائي والذي يصنف مصر ضمن أكثر الدول تأثراً بالتضخم في أسعار السلع الغذائية لدرجة تبوؤها المرتبة السادسة عالمياً ضمن أكثر الدول ارتفاعاً في أسعار السلع الغذائية.
الوضع العالمي بالغ التأزم، والمحلي بالغ التعقيد يجعل من اللجوء إلى الشارع من أجل التنديد بالغلاء حلماً يداعب مخيلة بعضهم، لا سيما أولئك المتمسكين بتلابيب أمل العودة لحكم البلاد والعباد.
العباد يتعاملون مع ملف "اللحمة" الحالي المتأزم كعادة المصريين ببعض من استحضار الماضي وكثير من إطلاق النكات، و"جدو" يستحضر هتافات تظاهرات عام 1977 والمعروفة باسم "انتفاضة الخبز" التي أطلق عليها الرئيس الراحل محمد أنور السادات "انتفاضة الحرامية"، ويحكيها للأحفاد الذين يعتقدون أنها خيال في خيال.
هتف المتظاهرون "سيد مرعي يا سيد بيه، كيلو اللحمة بقى بجنيه"، وأشار "جدو" إلى أن الدولار الأميركي في حينها كان يساوي نحو 40 قرشاً مصرياً.
التاريخ الحديث للحمة
وبعيداً من أن "القروش" استوقفت الصغار قليلاً غير مدركين لما تعني تحديداً، فإن جدو مضى قدماً في حديث الذكريات، فعقب هزيمة يونيو (حزيران) 1967 فوجئ المصريون وسط أحزان النكبة بجنون مس أسعار اللحوم في عيد الأضحى ذلك العام، ووصل سعر الكيلوغرام إلى 75 قرشاً في زيادة غير مسبوقة، مما دفع بالصحافة المصرية إلى تبني دعوات لمقاطعة اللحوم، وتبنى الدعوة الجميع بمن فيهم الرئيس الراجل جمال عبدالناصر، وبالفعل انخفضت سعر الكيلوغرام بمقدار 10 قروش كاملة.
لكن سياسة الانفتاح الاقتصادي التي اتبعها الرئيس الراحل محمد أنور السادات لم تمض من دون ضحايا ومن ضمنها اللحوم، فقط زاد سعرها بعد سنوات من الثبات ثلاثة قروش كاملة، وتحركت "انتفاضة الخبز واللحمة" ليهتف المتظاهرون الهتاف الأشهر "سيد مرعي، يا سيد بيه، كيلو اللحمة بقى بجنيه"، وكان الراحل سيد مرعي حينئذ رئيس مجلس الشعب (البرلمان).
لكن خرجت اللحوم عن السيطرة في أثناء حكم الرئيس السابق الراحل محمد حسني مبارك، وهو الخروج المرتبط بعوامل عدة لا تختلف كثيراً عن الوقت الراهن، فمن انفلات الأسعار من دون رقابة أو تنظيم إلى مشكلات تعصف بتربية الماشية والأعلاف إلى زيادة سكانية رهيبة وسياسات اقتصادية اختلف المحللون على تقييمها بين ناجحة لم تراع الفقراء، أو فاشلة أدت إلى استشراء الفقر وتوريث المشكلات المزمنة التي لا يمكنها فهم الحاضر من دون هضم الماضي.
صعوبة هضم اللحوم
أخبار وتقارير عدة تتواتر حول صعوبة هضم اللحوم الحمراء، وتبدو المعلومات علمية لا مجال للتسييس أو بث الحس التآمري فيها، لكن خبثاء يلوحون بأن صعوبة هضم مكونات غذائية بعينها عادة تطفو على السطح في أوقات الأزمات، وفي أوقات الأزمات تحتدم الخلافات ومنها ما يصل إلى حد القتل أحياناً، فقبل أيام قتل مواطن جزاراً بعد خلاف نشب بينهما بسبب مبلغ 100 جنيه (3.3 دولار) باقية على الجاني من حساب شراء لحم، فطلب المواطن من الجزار تأجيل السداد لكن الجزار رفض وحدثت مشادة تطورت إلى مشاجرة انتهت بطعن أودى بحياة الجزار.
حادثة فردية لا تعني تحول اللحوم إلى منصة صراع، لكن الصراع يبقى دائراً حول قدرة المواطنين على التعامل مع غلاء أسعار السلع الغذائية بشكل عام، وترجيحات تحول اللحوم إلى بضاعة أتلفها الدولار وأنهكها الجزار ووقف التضخم حائلاً بينها وبين مائدة المواطن المستسلم للأقدار والمسلم بالأوضاع.