Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

البيضة... وحدة قياس جديدة للغلاء في بيوت المصريين

شهدت أسعار البيض قفزات متتالية أدخلت ميزانيات الأسر في دوامة الأولويات والبدائل المتاحة

ارتفاع سعر طبق البيض يعود إلى أزمة الأعلاف المرتبطة بالاستيراد والدولار (اندبندنت عربية)

مكانة الذهب تتعرض لهزة عنيفة، وليتر البنزين تنازل عن العرش، والسيجارة "الكليوباترا" لم تعد معياراً، حتى رغيف الخبز المتنازع على قطر دائرته وسمك رقائقه لم يعد يحظى بالمكانة ذاتها في عالم المقاييس ومنصات المعايير.

إنه عصر البيضة الذهبي، وسواء كانت بيضة بيضاء أو حمراء، فإنها حالياً تعيش أزهى عصور المكانة الشعبية والقيمة الغذائية في مصر. والأهم القدرة على النظر إلى الاقتصاد بعين ثاقبة، والحكم على التضخم بقدرة فائقة، وتحديد مصير ميزانيات البيوت، والقيمة الغذائية للأبناء والوجبات الرئيسة والبديلة لنحو 26 مليون أسرة.


البيض درجات

وعلى رغم أن البيضة البلدي، التي باضتها دجاجة بلدي، تعد أسمى مكانة، وأرقى قيمة، فإن سعرها الأعلى مقارنة بقرينتها البيضاء أو الحمراء التي باضتها دجاجات يسمونها "البيضاء"، وهي الأرخص سعراً، فإنها خارج حسبة المقاييس الشعبية، وذلك للأسباب ذاتها التي جعلت منها "بيضة مميزة".

يزهو البيض بنفسه اليوم في الأسواق والبيوت، وكذلك في البرلمان المصري، باعتباره وحدة قياس رئيسة قادرة على أن تدلو بدلوها في الوضع الاقتصادي المصري المتأزم، والخروج بتصور شعبي يتسم بحد أدنى من الدقة حول أولويات ميزانيات البيوت وبدائل المتاح على المائدة ومصير الوجبة التي كانت شعبية، ثم صارت عصية على التوافر المستمر.

استمراراً لوتيرة الارتفاع المتواترة المتسارعة التي وصلت إلى حد الجنون على مدار الشهر الماضي، التي هي في الأصل حلقة في سلسلة من الارتفاعات التي تشهدها البلاد منذ التعويم الأول للجنيه المصري في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2016، وقفت البيضة المصرية لتعلن نفسها وحدة قياس في ملايين البيوت.

 

 

ملايين البيوت التي اعتادت عشرات البيضات أن تتمركز في خاناتها العتيقة المثبتة في باب البراد صارت تعامل هذه الساحرة المستديرة الصغيرة معاملة مختلفة تماماً في الأيام القليلة الماضية. يقال إن الإنسان وما قبل الإنسان من كائنات على مر ملايين السنين دأبت على أكل بيض شتى أنواع الطيور، لا سيما الدجاج.

وفي الثقافة المصرية القديمة، فإن البيض يعود إلى خلق الحياة كما ورد في كتب "الموتى" و"أناشيد إخناتون". ومعروف أن أكل البيض وتلوينه وزخرفته عادة مصرية ارتبطت بعيد "شم النسيم" المصري القديم. كما كان المصريون القدماء يعلقونه على الأشجار، لأنهم كانوا يؤمنون بأن البيضة المعلقة قادرة على تحقيق الأماني وقت الشروق.

البيضة في مصر القديمة

مرت آلاف السنين، ووجدت البيضة المصرية نفسها معلقة أيضاً، لكن هذه الآونة هي معلقة لا على الأشجار لتحقيق الأمنيات، بل بين سماء الأسعار وأرض القدرات الشرائية للقاعدة العريضة من المصريين.

قفزات متتالية، أحياناً لا تفصل سوى ساعات معدودة بين الواحدة والأخرى سوى قفزة في المنتصف، أدت إلى تصاعد سعر ما يسمى "طبق البيض" الذي يحتوي على 30 بيضة من 40 جنيهاً مصرياً (1.36 دولار أميركي) في عام 2021 إلى 80 جنيهاً (2.71 دولار أميركي) في عام 2022، وإن شهدت الأيام الأخيرة من 2022 بداية القفزات الماجنة ليصل سعر الطبق إلى ما يزيد على 120 جنيهاً مصرياً (4 دولارات أميركية).

هذا الطبق، الذي لم تكن تخلو منه أو من بعضه البيوت المصرية، لا سيما التي تحتوي على أطفال في سن المدرسة، يقدم نفسه حالياً لملايين العائلات باعتباره سلعة عزيزة، وليست فقط مسلوقة أو محمرة أو مضافة إلى طبق فول لتصلح وجبة غذاء من دون لحوم أو دواجن في متناول اليد.

تعريف "متناول اليد"

"متناول اليد" عبارة لم تعد قابلة للتعريف الدقيق أو الشرح المستدام لشهر، وربما أسبوع. الأسبوع الأول من العام الجديد 2023 لم يأتِ بأخبار طيبة للمصريين الآملين في هدوء نسبي لعاصفة الأسعار التي هبت مقترنة مع القرض الأحدث في سلسلة القروض التي حصلت عليها مصر من صندوق النقد الدولي.

وعلى رغم أن القرض نفسه لا يرتبط بصلة مباشرة بالبيضة أو طبقها، وعلى رغم أن الأسعار تسارع إلى القفز في كل مرة تقترض فيها مصر، أو تعلن تعويماً للعملة، أو تبادر إلى اتخاذ إجراءات جديدة، سواء كانت سلبية أو إيجابية، على صعيد الاقتصاد، وعلى رغم أن العرف جرى أن يكون الذهب والوقود والسجائر وحدات قياس شعبية لمعرفة حجم الزيادة، وإن كانت في متناول اليد، فإن هذه المرة قفز البيض إلى سدة وحدات القياس.

المقصود بوحدات القياس هنا هو قياس معدل تسارع الغلاء، وقدرة الجيوب على المواكبة، ومرونة الأولويات على التحرك صعوداً وهبوطاً، ومنها ما ينزلق بلا عودة من القائمة برمتها، وحيث إن القائمة شهدت حراكاً عنيفاً في الأشهر القليلة الماضية وصل إلى حد التدني بدرجات بالجودة حيناً، والاستغناء عن سلع بعينها أحياناً، فقد وصل الأمر إلى مرحلة مراجعة مكانة البيض المركزية على المائدة، وكذلك باعتباره مكوناً رئيساً من مكونات الساندويتش الشعبي الذي يقف على قدم المساواة مع ساندويتش الفول و"الطعمية" (الفلافل).

ساندويتش البيض

رؤية العين تقول إن ساندوتيش البيض في المطاعم الشعبية إما ارتفع سعره الضعف أو بقي على السعر نفسه، لكنه تقزم إلى النصف. حتى "العجّة"، تلك الوجبة الشعبية المعتمدة على البيض، إضافة إلى بواقي الطعام المتاحة في البيوت من خضراوات أو لحوم أو جبن مع إضافة قدر من الخميرة مع الطحين، انقلبت رأساً على عقب. صارت الخضراوات أساسها، مع زيادة كمية الخيرة بغرض الإيحاء بكبر الحجم، وتقهقر مكون البيض كثيراً.

كثيراً ما كان المصريون يتباهون بإنتاجهم من البيض. وكثيراً ما كان محللو الاقتصاد يطالبون بأن ينتهج منتجو السلع الغذائية الأخرى نهج منتجي البيض ومربي الدواجن. ولمَ لا، وقد حققت مصر اكتفاءً ذاتياً يكفي أهلها الذين يزيدون على 104 ملايين شخص. بين 13 و14 مليار بيضة صارت مصر تنتجها سنوياً. كما تبوأت مصر المرتبة الـ90 ضمن قائمة تضم 105 دول منتجة للبيض في العالم من حيث ارتفاع أسعار البيض، أي إن بيضها كان ضمن الأقل سعراً.

 

لقد تأثر كثيراً هذا القطاع الذي تقدر قيمته بنحو مئة مليار جنيه مصري، ويشغل نحو ثلاثة ملايين عامل، وذلك في أفرع صناعة الدواجن المختلفة من مزارع ومصانع أعلاف ومجازر ومنافذ بيع وقطاعات بيطرية. ليس هذا فقط، بل يخبرنا الماضي الجميل، الذي يعود إلى بضعة أشهر مضت، أن المنظمة العالمية للصحة الحيوانية وافقت على تسجيل مصر ضمن الدول التي تحتوي على منشآت خالية من إنفلونزا الطيور التي ضربت دولاً عدة حول العالم، وأصابت صناعة الدواجن والبيض في مقتل. ومضى القطاع في تألقه، لدرجة أن آفاق تصدير الدواجن ومشتقاتها، ما كانت تضمن مزيداً من ضبط أسعار السوق لاح في الأفق، وذلك بعد توقف سنوات طويلة منذ عام 2006.

تبدو هذه التفاصيل اليوم في أي سوق مصرية أشبه بقصة جميلة من الماضي الأجمل. يحمل المشتري طبق البيض، ويتحقق من سعره يجده قد تعدى حاجز مئة جنيه في بعض المناطق، يشكو للتاجر الذي بدوره يؤكد أن السعر المفروض من المورد قد زاد، والذي يؤكد بدوره أن المشكلة في الأعلاف، والأعلاف أغلبها مستورد، والاستيراد فيه مشكلات، والمشكلات سببها الدولار، والدولار مُستقوٍ على الجنيه، والجنيه يتألم ويتدهور ويئن أنيناً يسمعه الجميع.

معاناة أماً عن جد

ويبدو أن مستوى التأوهات وصل إلى درجة دفعت البعض إلى التفكُّه على منصات التواصل الاجتماعي، حتى إن نواب الشعب القابعين في البرلمان، الذين لا يسمع لهم صوت أو يصدر عنهم تحرك ملموس أو محسوس منذ زمن، استيقظوا.

قبل أيام، تقدمت نائبة البرلمان عن "الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي" سميرة الجزار بطلب إحاطة حول الدواجن والبيض. النائبة انزعجت كثيراً من تصريحات حديثة لنائب رئيس اتحاد منتجي الدواجن ثروت الزيني، الذي حذر من خطر انهيار صناعة البيض والدواجن لو لم تسارع الحكومة إلى درء هذا الخطر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تحدثت الجزار عن قلة المعروض من دواجن التسمين والبيض والمرشحة للاستمرار لعام كامل، مما يعرضها للوصول إلى "قطاع الجدود"، التي تكافح أصلاً من أجل البقاء، ناهيك بمعاناة "قطاع الأمهات" منذ فترة.

وفي الفترة الماضية كثر الحديث عن البضائع المكدسة في الموانئ وصعوبة الإفراج عنها ومعاناة المستوردين وتعثر الإجراءات الحكومية لتحقيق سرعة الإفراج. وعلى رغم ملامح انفراجة، حيث بدء الإفراج البطيء عن بعضها، فإن الأرقام تقول إن في الموانئ ما يزيد على مليون و850 ألف طن ذرة، ونحو 900 ألف طين صويا تستخدم خامات للأعلاف.

ويشار إلى أن صناعة الدواجن المصرية تحتاج إلى ما لا يقل عن 900 ألف طن أعلاف شهرياً حتى تعمل بكامل طاقتها، وتتمكن من الاستمرار في تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الدواجن والبيض.

الدواجن ومن قبلها البيض

الدواجن، ومن قبلها البيض، باتا من السلع التي تتعلق بالأمن القومي المصري. فحتى أشهر قليلة مضت، كانت جهود التطبيب ومحاولات التخفيف توصي المتضررين من الأوضاع الاقتصادية التي تعصف بالعالم، ومصر ليست استثناءً، باعتناق مذهب البدائل. أسعار اللحوم ركضت بسرعات جنونية هي الأخرى من 150 إلى 170، ثم 200، وأخيراً 240 جنيهاً مصرياً للكيلوغرام الواحد (5.08 إلى 5.76، ثم 6.78، وأخيراً 8.14 دولار أميركي)، مما جعلها مكوناً عزيزاً صعب المنال لكثيرين. هذا الركض صب في مصلحة الدواجن والبيض، حيث القيمة الغذائية مشابهة، والأسعار أقل بكثير، أو هكذا كانت.

 

وحين كانت الأمهات تغني لصغارهن "آدي البيضة، وآدي اللي سلقها، وآدي اللي هات حتة قضمة" على سبيل تشجيعهم على أكل بيضة أو اثنتين، لم يكن سعر البيضة يتعدى مليماً، ثم قرشاً، ثم 10 قروش. ومع وصول سعر البيضة الواحدة إلى جنيه مصري كامل، كانت الأغنية قد تحولت إلى تراث مندثر لا يعرفه إلا المسنون، وربما الكهول. ويتفكه البعض أن الأغنية الشعبية عليها حالياً أن تستحث الصغير على الاكتفاء بقضمة واحدة فقط، حيث إن سعر قضمة البيض حالياً لن يقل عن جنيه ونصف الجنيه.

المصريون يأكلون، بالهناء والشفاء، نحو 2.4 مليار طائر وتسعة مليارات بيضة كل عام. وأطباق البيض كثيرة ومتنوعة، منها المسلوق، ومنها المحمر، ومنها المضاف إليه البسطرمة، أو المضاف إلى الفول، وتصور تقلص هذه الأطباق من على الموائد يتسبب في كثير من القلق، ليس فقط قلقاً على البيض، لكن باعتبار البيض وحدة قياس ومعيار استشراف.

على سبيل الاستبشار

وعلى سبيل الاستبشار، يحاول البعض جاهداً المضي قدماً في طرح البدائل. هذه المرة البدائل ليست لحوماً بيضاء بدلاً من الحمراء، أو جبناً أبيض محلياً بدلاً من الأصفر المستورد، ولكن صار للبيض بدائل مقترحة لحين استيضاح نياته المستقبلية.

قوائم يجري إعدادها ونشرها تقترح بدائل غذائية يفترض أنها تحتوي على قيم غذائية مشابهة للبيض. مقترحات تناول البذور (اللب) وبذور الكتان واللوبيا والعدس والزبادي، وغيرها، حسنة النية، لكن حسن النية وحده لا يكفي، وأحياناً يتسبب في غضب المتضررين. فإعداد ساندويتش من البذور للصغار في المدرسة أمر فيه استحالة. كما أن البدائل الأخرى المقترحة من لوبيا وعدس وزبادي لم يستثنها قطار الغلاء وجنون الأسعار.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات