إذا نظرنا عبر ضباب القنال الإنجليزي يبدو أن بريطانيا تواجه شتاء سخط يماثل ذاك من عام 1978 [شتاء 79/1978 شهد سلسلة من الإضرابات أدت إلى سقوط حكومة كالاهان العمالية]. نعم، جميع الدول الأوروبية تواجه شدائد اقتصادية. فبعد جائحة كورونا، وحرب الرئيس بوتين القذرة على أوكرانيا، نحن جميعاً نواجه أزمة طاقة وأزمة غلاء كلف المعيشة التي تؤثر على جميع الدول الأوروبية.
وفيما تتواصل الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة وتزداد حدة، تبدو قارتنا الأوروبية العتيقة محشورة في الوسط. وعلى رغم هذه التحديات المشتركة، وحدها بريطانيا تغامر بأن تصبح بطة عرجاء [الحلقة الأضعف] بين دول مجموعة السبع الكبرى G7. إن السياسيين البريطانيين ربما لا يمكنهم الاعتراف بهذا الواقع لأسباب انتخابية ضيقة، ولكن دعونا لا نشك ــ في أن كل هذا سببه "بريكست"، وعملية "بريكست" وحدها. الدليل على ذلك يمكن رؤيته من خلال توقعات منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD، حيال مستقبل نمو الناتج المحلي البريطاني لعام 2023 و2024، كما أننا نرى ذلك في بيانات بنك إنجلترا [مصرف بريطانيا المركزي] أيضاً.
أعداد أكبر من الشعب البريطاني أيضاً بدأت بملاحظة أن عملية "بريكست" كانت خدعة. ربما ليس هناك غالبية حتى الساعة تطالب بإعادة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لكن استطلاعات الرأي الأخيرة تظهر لنا أن هناك حال مرتفعة من الندم [على قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي]. المواطنون على جانبي القنال الإنجليزي يرغبون بعلاقات أمتن بين الجانبين. والبريطانيون يفهمون عن حق أنه في نظام عالمي يشهد تغيرات، علينا أن نعمل معاً عن قرب كأوروبيين كي تكون لدينا فرصة في تحقيق مستقبل أفضل في مصيرنا الأوروبي المشترك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد كانت هناك أوقات عندما قام شعبويون آخرون، وأحزاب يمينية بالمطالبة بالخروج من الاتحاد الأوروبي، ولكن بعد أن لمسوا التبعات التي خلفتها عملية "بريكست" في بريطانيا، قاموا بتغيير اتجاهاتهم. الحزب الديمقراطي في السويد، واليمين المتطرف الهولندي، وحتى رئيسة الوزراء الحالية في إيطاليا، والتي كانت حتى وقت قريب تمدح "بريكست"، لكنهم جميعاً عدلوا مواقفهم بعد رؤية تبعات القرار على الأوضاع البريطانية. السؤال هو الآن لماذا لا يريد أي من الساسة البريطانيين أن يكونوا صادقين ويعترفوا بالأخطاء التي ارتكبوها من قبل، خلال وبعد الاستفتاء على "بريكست" في عام 2016؟
وبدلاً من أن يعاد ترسيخ الرؤية البعيدة المدى من أجل عودة بريطانيا إلى العائلة الأوروبية، ما زلنا نشهد إطلاق الأوهام والآمال [الزائفة] التي تسيطر على تفكير كثيرين. حتى بعد مرور ست سنوات ونصف السنة على عملية الخروج المتعرجة من أوروبا، يتحدث السياسيون من اليسار والوسط عن ضرورة العمل "من أجل إنجاح عملية "بريكست" making Brexit work، ويلعبون على هامش عملية الخروج القاسية من أوروبا التي اختارها بوريس جونسون، مدعين بأنه بالإمكان تحسين الاتفاقية.
نعم قد يمكن إدخال بعض التعديلات الطفيفة على الاتفاقية. ونعم، يمكن التوصل إلى حلول لمسألة بروتوكول إيرلندا الشمالية، لكن شروط الاتفاقية التي وقعها جونسون لا يمكن ادخال تحسينات أساسية عليها. لقد قامت بريطانيا بالتخلي عن سيارة جاغوار [الفارهة] من أجل سيارة فورد فييستا [المتواضعة]. على السياسيين في المعارضة البريطانية أن يبدأوا بالاعتراف بهذا الواقع، وهو أن اتفاقية جونسون كانت اتفاقاً متطرفاً. ثانياً، على هؤلاء السياسيين أن يكونوا صادقين مع أبناء شعبهم حيال ما خسروه بعد استبدالهم ما يمكن أن يقدمه الاتحاد الأوروبي في المستقبل، ويقومون بتقديم رؤية مختلفة [لحل المشكلات القائمة نتيجة "بريكست"].
إن مغادرة السوق الموحدة والاتحاد الجمركي وعملية إعادة رفع الحواجز التجارية بين بريطانيا والدول الأوروبية قد جعل من المملكة المتحدة دولة أكثر فقراً. ومن الطبيعي أنه في ظل حكومة المحافظين الحالية، فإن الضرر الأكبر جراء مثل تلك الخيارات قد وقع على كاهل الأفقر من أبناء المجتمع. فإذا كانت المملكة المتحدة راغبة بنمو اقتصادي أكبر، إذا عليها أن تنضم إلى السوق الموحدة والتي كانت في النهاية اختراعاً بريطانياً. والسوق الموحدة تأتي مع توفير حرية انتقال الأفراد، وهو أمر يضم في طياته كثيراً من المكاسب لجيل الشباب البريطاني.
لحسن الحظ، عضوية الاتحاد الأوروبي هي أكثر من مجرد تحالف اقتصادي، فالاتحاد هو مشروع لترسيخ الوحدة الأوروبية. وهناك إذا سبب لماذا الأوكرانيون الذين قضوا في بوتشا، كانوا يحملون علم الاتحاد الأوروبي على سلسلة مفاتيحهم. الرئيس زيلينسكي كان قد قدم طلباً للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولقد تمت الموافقة على طلبه، لأن الاتحاد الأوروبي يمثل شيئاً سامياً. إن الاتحاد الأوروبي تجربة غير مسبوقة، ومجال واسع للفرص، وللحرية والديمقراطية، وحيث رفعت الحدود بين الناس. هناك أخطاء طبعاً لكن هذا هو الحلم. إنه حلم يشترك فيه ملايين من البريطانيين غير الممثلين في منظومة الحكم.
كثيرون في الاتحاد الأوروبي، ومن بينهم كاتب هذه السطور، اعتقدوا أن "بريكست" كانت مهزلة بالنسبة إلى الشعب البريطاني. نحن نرغب بعودة البريطانيين، ولكننا نعلم أيضاً أنه سيكون هناك صفقة خاصة للندن. إن القضية الرئيسة في السياسة البريطانية هو "بريكست"، وستستمر هذه القضية بالتضخم، حتى تقر الأحزاب البريطانية ضرورة التعامل معه. ليس لديّ أدنى شك بأنه في يوم من الأيام، سيقوم سياسي بريطاني شاب بتسوية هذه القضية وقيادة بريطانيا من جديد للانضمام إلى العائلة الأوروبية حيث تنتمي. وبالطبع سرعة حصول هذا الأمر هي في يد الشعب البريطاني.
*غاي فيرهوفشتات Guy Verhofstadt هو نائب بلجيكي في البرلمان الأوروبي، ومفاوض أوروبي سابق في عملية "بريكست"
© The Independent