بعد فوز المنتخب السعودي على نظيره الأرجنتيني في مباراة تاريخية، أعلن الملك سلمان بن عبدالعزيز نهار اليوم التالي عطلة رسمية للاحتفال بهذا الفوز. وهذا مثال طازج على العلاقة بين السلطة السياسية وكرة القدم. والأمر نفسه ينطبق على ما جرى أخيراً في مباراة إيران وإنجلترا وانتهت بفوز لصالح إنكلترا، فعدا عن تناول المعلقين هذه النتيجة الكبيرة، كان للمحللين السياسيين دورهم في تحليل عدم إنشاد اللاعبين الإيرانيين النشيد الوطني عند بدء المباراة، وهو موقف سياسي واضح يقدمه اللاعبون للسياسيين في بلادهم خصوصاً في خضم الانتفاضات الشعبية المتتالية التي يقوم بها الإيرانيون والإيرانيات في معظم المدن الكبرى تعبيراً عن سخطهم مما آلت إليه أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المفروضة عليهم.
كرة القدم كمنبر سياسي
تتداخل السياسة بعالم
كرة القدم منذ عقود بعيدة، وقد استغل سياسيون كثر هذا المنبر العالمي من أجل تسجيل مواقف سياسية، ككأس العالم في إيطاليا الذي أراده موسيليني تأكيداً على قوة الحكم الفاشي، وفعل الديكتاتور الإسباني فرانكو حين دعم لعبة كرة القدم وأنديتها بشكل كبير بعدما تعلم من الدوتشي الإيطالي أهمية استغلال الأحداث الرياضية للتخفيف من سخط الشعب ولتمتين العصبية القومية.
ولكن العلاقة بين السياسة وكرة القدم لا تقتصر على إعلان المواقف، بل تتداخلان في ما بينهما بشكل كبير، وليست التحقيقات التي قام بها الكونغرس الأميركي بخصوص الصفقات التي تجري داخل المؤسسة الكروية الضخمة "
فيفا" قبل سنوات إلا مؤشراً بسيطاً على قدرة المؤسسات السياسية على تقويض صفقات تقع خارج السياسة ولكنها تصب فيها.
فساد
فـ"فيفا" وإدارته تختار الدولة المستضيفة للمونديال، وهذا الاختيار يسمح للدولة المضيفة أن تفرض حضوراً عالمياً على صعيد كرة القدم، وهو حضور سياسي أيضاً يبرز قدرات هذه الدولة على تنظيم الحدث الضخم والقدرات المالية التي لديها، التي تظهر في تصاميم الملاعب الذي أصبح أشبه بالتنافس الاستعراضي بين الدول.
عدا عن التركيز الإعلامي الكبير الذي سيقع عليها خلال فترات التحضير للمونديال وأثناء نقل مباراياته حول العالم. وتمكن المشرعون الأميركيون من إجبار سائر المحاكم الأوروبية بإجراء التحقيقات نفسها في قضايا الفساد، فسقطت رؤوس كبيرة في "فيفا" من رئيسها بلاتر إلى إداريين ولاعبين أسطوريين مثل اللاعب الفرنسي بلاتيني وغيرهم من المتهمين الذين اتهموا بالفساد والرشوة والمحاباة واستغلال السلطة.
الأمر نفسه تكرر قبل أيام في مونديال قطر 2022 عندما طلبت إدارة "فيفا" من اللاعبين عدم ارتداء الشارة الملونة لدعم حقوق المثليين، وقد تراجعت جميع المنتخبات الأوروبية عن وضع هذه الشارة. وهذا الطلب من "فيفا" ليس سياسياً بحتاً، لكنه يصب في السياسة بطريقة ما، فالأحزاب السياسية في كل أنحاء العالم تتواجه في برامجها الانتخابية حول هذه النقطة أي حقوق المثليين، وأحزاب اليمين الأوروبية والحزب الجمهوري الأميركي من بين الأحزاب التي ترفض هذه الحقوق، بينما ترفعها الأحزاب الليبرالية والمنظمات والجمعيات التي ترتبط بحقوق الإنسان وحرية التعبير والرأي وغيرها.
رموز ذكورية
لطالما ارتبطت كرة القدم منذ نشأتها بالتجمعات المنظمة والاحتجاجات والدعاية والترويج لرموز ذكورية، وفي السنوات الأخيرة استفاد الفاعلون السياسيون من كرة القدم في التعبئة الاجتماعية والدعاية السياسية التي تدل على وجود شبكة من العلاقات بين كرة القدم والسياسة والمجتمع.
لاعبو المنتخب الايراني يستمعون إلى النشيد الوطني (أ ف ب)
وغالباً كانت الأندية واللاعبين والمشجعين متورطين في العمل السياسي مباشرة أو بشكل غير مباشر، وكثير من نوادي الضواحي في المدن الكبرى تشكلت نتيجة للتغييرات الديموغرافية والهجرات والاضطرابات السكانية، وبحيث تزدهر المجتمعات الدينية وتنتشر الأيديولوجيات المتناقضة والأحزاب السياسية. واللعب والمشاركة في كرة القدم سواء كلاعب أو كمشجع شكل من الأشكال الإيجابية للهرب من العزلة الاجتماعية وتعزيز الاندماج الاجتماعي.
حروب ونضال واحتجاج وسلام وتضامن
توضح مقالة الباحث في تأثيرات كرة القدم السياسية جون دارتس (2020) في صحيفة "الغارديان" كيف تتجلى الرياضة والهوية الوطنية في كرة القدم الفلسطينية، وكيف يتم استخدام كرة القدم كآلية للفت الانتباه إلى النضال من أجل إقامة دولة فلسطينية. أما مارتن جيه باور السيوسولوجي الأميركي فيقول "يعتقد بعض الناس أن كرة القدم هي مسألة حياة أو موت... أؤكد لكم أنها أكثر أهمية من ذلك بكثير".
فمثلاً يزعم أن المجلس العسكري اليميني في الأرجنتين قدم رشوة إلى بيرو بالحبوب وقرض بقيمة 50 مليون دولار في عام 1978، في سبيل الفوز بالمباراة. ووفقاً لمقالة نشرت عام 1986 للصحافية ماريا لورا أفينيولو من صحيفة "صنداي تايمز" البريطانية استخدم المجلس العسكري الرشوة والترهيب للمساعدة في الفوز بالكأس. ويقال إن الجنرال الأرجنتيني خورخي فيديلا قام بزيارة في الوقت المناسب إلى غرفة تبديل الملابس للفريق البيروفي وتحدث مع اللاعبين حول "وحدة أميركا اللاتينية". وادعت الصحافية أفينيولو أنه في الأسابيع التي أعقبت المباراة غادرت شحنة من 35000 طن من القمح الأرجنتيني إلى ليما مع قرض من دون فوائد بقيمة 50 مليون دولار إلى الحكومة البيروفية.
تأثير في المستوى الوطني
ويرى مارتن جيه باور أنه يمكن لكرة القدم أن تؤثر في الحياة على المستوى الوطني والدولي مما يلهم الثورات ويسبب الحروب، إضافة إلى القدرة على إحلال السلام والنهوض بأمم بأكملها، وربما تكون "حرب كرة القدم" بين هندوراس والسلفادور في عام 1969 أشهر مثال على الآثار الأوسع لهذه الرياضة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
موسوليني "الدوتشي" الإيطالي، استخدم كأس العالم في إيطاليا لاستعراض إيطاليا الفاشية أمام العالم أجمع، وكان هتلر قد استغل الألعاب الأولمبية للغاية نفسها. لكن لموسوليني كأس خاص لهذا الحدث سماه كأس ديل دوتشي الذي كان حجمه ستة أضعاف حجم الكأس المعتاد للكأس العالم. ويقال إن الديكتاتور الإيطالي هو من اختار الحكام.
وقد بدا الأمر واضحاً في مباراة النصف النهائي ضد النمسا حين فاز فريق موسوليني الأزوري 2-1، في نتيجة ومباراة رأى الجميع مدى التدخل ومحاباة الحكام للفريق المضيف. وفي المجال نفسه فإن الفريق النمسوي نفسه اختفى بعدما احتل هتلر النمسا، وقد كان المنتخب النمسوي أحد أعظم الفرق في اللعبة بثلاثينيات القرن الماضي قبل أن يضم النازيون جيرانهم.
وفي منتصف حرب الاستقلال الجزائرية استدعى المنتخب الفرنسي جزائريين يلعبون في الدوري الفرنسي لكرة القدم للمشاركة في كأس العالم في السويد.
وعلى رغم الفرص التي أتيحت لهم في المجد والشهرة بانتسابهم إلى المنتخب الفرنسي إلا أن اللاعبين الجزائريين رفضوا الالتحاق بالمنتخب، وفروا إلى مقر جبهة التحرير الوطنية في تونس مما جعلهم قيد الملاحقة من الشرطة الفرنسية.
كان الحس الوطني لدى هؤلاء الجزائريين الفرنسيين في تلك المرحلة من الصراع الفرنسي الجزائري هو الحكم في الاختيار، على رغم أن ثمن هذا الخيار كان غالياً على اللاعبين الهاربين.
القصة المثيرة للضحك أن رئيس زيمبابوي موبوتو، هدد لاعبي منتخب بلاده الذي خسر بنتيجة 9-0 من يوغوسلافيا قبل أن يخسر 2-0 أمام اسكتلندا بأنهم إذا خسروا أمام البرازيل بأكثر من ثلاثة أهداف، فلن يسمح لهم بالعودة لديارهم.
تاريخياً يمكن اعتبار مباراة ألمانيا الشرقية والغربية في نهائيات كأس العالم 1974 أكثر من مباراة كرة قدم، بل كانت جزءاً من الحرب الباردة والصراع بين أيديولوجيتين.
لكن في مونديال ألمانيا عام 2006 كان شعار البطولة "حان وقت تكوين صداقات"، ولكن هذه الصداقات كانت أولاً بين الألمان أنفسهم، إذ كتب المعلق الرياضي الألماني الشهير روجر هانت وقتها أنه "في غضون شهر واحد نجح كلينسمان في جمع مجتمعين يخجلان من مظاهر القومية، لتوكيد الهوية الألمانية الواحدة بعد طول انقسام على خطوط الشرق والغرب. وكتبت صحيفة التايمز البريطانية حينها "لا تهتم للمباراة النهائية. فالألمان هم الفائزون الحقيقيون بكأس العالم". والمقصود النتائج السياسية الإيجابية التي قدمتها كرة القدم عبر تنظيم كأس العالم في ألمانيا في ذلك العام.
فوز سياسي
وبعد فوز إيران على الولايات المتحدة في فرنسا 1998، أظهر الجانبان أقصى درجات الاحترام وتبادلا الزهور والهدايا والصور الفوتوغرافية قبل انطلاق المباراة، لكن الإيرانيين المحتفلين بهذا الفوز في المدن الإيرانية استغلوا الأمر للاختلاط في الشوارع على رغم تحذير السلطات الدينية من هذا التخالط ولو تحت حجة الانتصار التاريخي والسياسي والقومي.
وهذا الفوز بحسب محللين كثر كان البذرة الأولى لتحركات الإيرانيين في الشوارع. كما التحية التي وجهها المتظاهرون هذه الأيام داخل المدن الإيرانية للاعبي المنتخب الذين رفضوا إنشاد النشيد الوطني كتعبير عن الاعتراض السياسي لما يجري في بلادهم.