يمر الاقتصاد التونسي بفترة صعبة تتجلى في تراجع معدلات النمو الاقتصادي، وتردي معدل الاستثمار، وارتفاع مستويات الفقر والبطالة.
مواطن الضعف لخصها البنك الدولي في أن الاقتصاد التونسي لا يسير في الطريق الصحيح، وهو ما صدق عليه المحللون والمتخصصون.
البنك الدولي أرجع الأسباب إلى نسب النمو الضعيفة على مدى الـ12 عاماً الماضية، إذ إنه خلال الفترة من 2011 إلى 2018 هبط معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي سنوياً إلى 1.7 في المئة بالمتوسط.
وأشار البنك في تقرير بعنوان "تونس تشخيص منهجي للبلد"، الخميس الماضي، إلى أن "تراجع معدل النمو يعود إلى انخفاض أداء جميع القطاعات الاقتصادية باستثناء قطاع الزراعة".
وقال إن "السبب الرئيس للركود الاقتصادي بتونس يعود إلى انخفاض نسبة الاستثمار وغياب الابتكار علاوة على الرقابة المشددة على الأنشطة الاقتصادية".
عدم معالجة القضايا الحقيقية
انتقد تقرير المؤسسة الدولية تدابير الحكومة التونسية لدعم الحماية الاجتماعية والقدرة الشرائية للمواطنين وارتفاع نسق التعيينات بالقطاع العام في محاولة للضغط على ارتفاع مستويات الفقر والبطالة واعتماد القطاع العام ملاذاً أخيراً، وغياب مشاريع الاستثمار في المناطق غير الموفرة للإنتاج والمغيبة بخريطة التنمية، أي عدم معالجة القضايا الحقيقية.
ولفت التقرير إلى أن "ذلك تسبب في تدهور الوضع الاقتصادي والافتقار إلى خلق فرص عمل والحد من نقاط ضعف الاقتصاد التونسي، مما ولد شعوراً لدى المواطن التونسي بالإحباط وعزز زيادة تنظيم الحركات الاحتجاجية".
وقال ممثل البنك الدولي بتونس ألكسندر أروبيو إن البنك سينشر الاستراتيجية الجديدة للبنك الدولي خلال الفترة بين عامي 2023 و2027، مؤكداً أنها "سترتكز على أولويات الحكومة التونسية خلال الأشهر المقبلة".
معدل الاستثمار يهبط إلى 14.9 في المئة
حول الوضع الاجتماعي، قال البنك الدولي إن "معدل الاستثمار السنوي انخفض من 17.4 في المئة خلال عام 2000 كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي إلى نحو 14.9 في المئة بين عامي 2011 و2019".
وأضاف أن "حجم المؤسسات تراجع من 28 في المئة عام 2013 إلى 14 في المئة عام 2019، مما تسبب في تدهور الوضع الاقتصادي للبلاد، وهو ما تفاقمت معه أزمة البطالة مع النقص المستمر في عدد الوظائف المتاحة ليصل معدل البطالة بين خريجي التعليم العالي إلى 27 في المئة عام 2019، وكانت النسبة بين النساء 22.5 في المئة بينما عند الشباب 34.4 في المئة".
ولفت البنك إلى أن "تفاوت معدل النمو بين المناطق تسبب في انخفاض الإنتاج الصناعي وتراجع إيرادات السياحة، خصوصاً بالمدن الساحلية الكبرى وهي المناطق التي شهدت أضعف معدلات النمو على مدى العقد الأخير خلافاً للفترة التي سبقته".
وأكد تقرير المؤسسة المالية الدولية أن "محافظات سليانة وسيدي بوزيد والكاف سجلت أعلى معدل نمو بالنسبة إلى نصيب الفرد من الناتج المحلي، في المقابل سجلت العاصمة تونس ومدينة المنستير الساحلية ومدينة سوسة المطلة على البحر الأبيض المتوسط أضعف نسبة نمو لنصيب الفرد من الناتج المحلي".
القطاع العام الملاذ الأخير
على رغم أن التدابير التي اتخذتها الحكومة التونسية في الموازنة لدعم برامح الحماية الاجتماعية والقدرة الشرائية للمواطنين، مثل توفير فرص عمل بالقطاع الحكومي والإعانات المالية، نجحت في دعم الأسر الفقيرة، فإنها زادت من الأعباء على الموازنة مع التوسع في التعيينات بالقطاع العام، الذي تحول إلى ملاذ أخير في بعض الأحيان والملاذ الأول كلما اشتدت ضغوط بطالة الشباب، مما دفع تونس إلى أن تكون بين قائمة الدول ذات كتلة الأجور الأكبر في العالم، إضافة إلى اختلال التوازن المتزايد في تمويل صناديق التقاعد، وفقاً لتقرير البنك الدولي.
في غضون ذلك تمثل كتلة أجور الوظائف العامة نحو 17.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2020، وتوسعت الحكومة في الإنفاق على برامج الدعم المالي للأسر المعيشية ليرتفع عدد الأسر المستفيدة من البرنامج الوطني لمساعدة الأسر المحتاجة من 132 ألف أسرة عام 2011 إلى نحو 234 ألف أسرة عام 2015، وهو ما يعادل إجمالي إنفاق يبلغ نحو 115 مليون دينار (35.9 مليون دولار) وهو ما حد من الفقر على رغم الأزمة الاقتصادية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما انخفض معدل الفقر من 25.4 في المئة عام 2000 إلى 15.2 في المئة عام 2015 و13.9 في المئة عام 2019، مما يشير إلى أن ما يقرب من 1.6 مليون شخص انتشلوا من براثن الفقر بين عامي 2000 و2015.
في المقابل ارتفع معدل البطالة بنسبة 3.5 في المئة ليصل إلى 17.4 في المئة عام 2022 وارتفع معدل الفقر من 14 في المئة قبل انتشار جائحة كورونا إلى 21 في المئة، وفق تقرير البنك الدولي.
واعتبر التقرير أن "السياسة الاجتماعية التونسية مكلفة وفاشلة في معالجة القضايا الحقيقية"، مؤكداً أن "أزمة كورونا أوضحت هشاشة النظام وعدم كفاءته وتأثيره في اقتصاد البلاد، وأظهرت البيانات أن أزمة الوباء تسببت في انخفاض بنسبة 9.2 في المئة في النمو الاقتصادي، وكشفت عن اختلالات هيكلية".
كما أشار إلى تدهور أوضاع المؤسسات العمومية، معتبراً إياها ضحية تأخر الإصلاحات ونقص الموارد المالية وضعف أدائها، ولفت إلى أن "الشركات المملوكة للدولة تواجه قضايا تتعلق بالحوكمة، خصوصاً في ما يتعلق بالشفافية والحوكمة الداخلية والإدارة وتعيين الموظفين.
يشار إلى أن المقصود بالحوكمة هو الإدارة الجيدة لجميع مؤسسات الدولة من خلال سياسات وآليات وممارسات تقوم على الشفافية والمشاركة والمساءلة وسيادة القانون ومكافحة الفساد.
الفساد "ظاهرة مستشرية"
ووصف البنك في تقريره الفساد في تونس بأنه "ظاهرة مستشرية"، إذ كشف مسح أجراه عن أن نسبة الشركات التي اعتبرت الفساد عقبة رئيسة أمام أنشطتها ارتفعت من 36 في المئة عام 2013 إلى 56 في المئة عام 2020، علاوة على زيادة نسبة الشركات التي اعتبرت النظام القضائي عقبة مهددة لتطبيق القانون وزاد عددها من 3.2 في المئة إلى 12.6 في المئة عام 2020، مما خلق إحساساً كبيراً بالإحباط لدى المواطنين بفعل تدهور الوضع الاقتصادي والافتقار إلى خلق فرص العمل والحد من نقاط الضعف الاقتصادية.
ودعا البنك الدولي في نهاية التقرير إلى أهمية تنشيط النموذج الاقتصادي التونسي قائلاً "أصبح يشكل خطراً على الاستقرار السياسي ودفع الجهود لتنفيذ الإصلاحات لاستعادة الثقة".
وحول ذلك قال ممثل البنك في تونس ألكسندر أروبيو إنه "تم الشروع فعلياً في سلسلة أولى من المشاورات الفنية مع الحكومة التونسية ومختلف الشركاء والمجتمع المدني"، معتبراً أن التشخيص المذكور بالتقرير يمثل قاعدة أساسية لإطار الشراكة الجديد الذي سيمكن من تحديد دعم وإجراءات البنك الدولي على مدى السنوات الخمس المقبلة.
وأكد أروبيو أن "التشخيص أتاح الاطلاع على المشكلات والتحديات التي تواجه تونس، وأن الخطوط الرئيسة لاستراتيجية الدولة تستهدف على وجه الخصوص المرونة الاجتماعية ودعم الإصلاحات والقطاع الخاص وإدارة الموارد الطبيعية وبخاصة قضايا المناخ".
تشجيع الاستثمار الحل الأمثل
لم ينكر المتخصصون التونسيون ما جاء بتقرير البنك الدولي، إذ يؤكد عضو المكتب التنفيذي لكونفيدرالية المؤسسات المواطنة التونسية (هيئة نقابية مستقلة) أصلان بن رجب أن "معالجة تراجع النمو والقضاء على الفقر والضغوط الاجتماعية تسير بالتوازي، ومرتبطة باستعادة الثقة التي فقدها مناخ الأعمال والاستثمار".
وقال بن رجب "فشلت المحاولات التي انتهجتها الحكومات خلال العشرية السابقة، وأهمها النموذج الاقتصادي في 2012، وهو القائم على التشجيع على الاستهلاك والتخفيض في نسبة الفائدة الرئيسة للرفع من مستوى الإنتاج، بالتالي النمو، لكن تسبب عدم تناغم الأجور المتدنية مع هذه الحلول في فشل الخيار".
وأشار إلى أنه "ثبت أن الحل الأمثل لتونس هو التشجيع على الاستثمار ودفع التصدير لخلق الثروة"، مستدركاً "لكن يبقى هذا رهين ثقة الفاعلين الاقتصاديين غير المتوفرة طوال هذه المدة حتى اليوم".
ولفت إلى أن "الفاعل الاقتصادي يحتاج إلى رسائل إيجابية من الدولة، على رأسها الصدقية نحو الاستثمارات العمومية، إذ وعدت بضخ استثمارات بنحو أربعة مليارات دينار (1.25 مليار دولار) بموازنة سنة 2022 دون الوفاء بها"، إضافة إلى أن "مناخ الاستثمار في تونس يحتاج إلى تنقيته من عدد من الشوائب، أهمها الجباية (الضرائب) التي تحتاج إلى إصلاحات تجعلها عادلة، هذا إلى جانب إعادة هيكلة البنية التحتية واللوجيستية المهترئة والبيروقراطية والتعطيلات الإدارية والإجراءات المعقدة والمكلفة عند التصدير".
وأكد بن رجب أن "حل تلك العقبات يرفع من مستوى الاستثمار المشغل للإطارات واليد العاملة، والضاغط على البطالة، بالتالي مستويات الفقر".
السياسات الخاطئة
من جهته، رأي المدير العام السابق للسياسة النقدية بالبنك المركزي التونسي محمد صالح سويلم أن "مقاومة الفقر تمر عبر المشاريع التي تخلق مواطن الشغل وتحقق التنمية"، مستدركاً "لكن ما حدث في تونس هو توزيع مصاريف الدولة أو ميزانيتها من دون نشاط اقتصادي، إضافة إلى التخلي عن الجهات التي دأبت على تحقيق الثروة والتنمية في فترات سابقة لخلق مواطن شغل وهمية مثل ما عرف بشركات البستنة بالجهات التي عانت نقصاً في التنمية".
وقال سويلم إن "تلك السياسات الخاطئة أدت إلى تراجع التنمية بالمحافظات المتميزة بتحقيق مستوى نمو جيد سابقاً مع عدم تسجيل التحسن المرجو في الجهات الفقيرة"، مفسراً "أي القضاء على المناطق الناشطة من دون إصلاح الجهات المهمشة في ظل العجز عن خلق قطاعات منتجة للثروة بها".
وأشار إلى أنه "لم يترافق تراجع الفقر قبل أزمة كورونا مع ارتفاع النمو وانخفاض البطالة، إذ إنه تحقق بفضل توزيع مقدرات الدولة على حساب الإنتاج، لأن الطيف المتمتع بالإعلانات المالية هو غير منتج"، موضحاً "من البديهي أن يرافق مواصلة دعم البنك الدولي لتونس مراجعة هذه الخيارات الخاطئة واتخاذ تدابير لتكريس استدامة التنمية التي تضمن التخفيض من مستوى الفقر".