يُكابد التونسيون شظف العيش، منذ عقد من الزمن، واصطدمت أحلام تغيير الواقع الاقتصادي والاجتماعي، بأزمات سياسية ناتجة من الصراعات الحزبية الضيقة داخل البرلمان وفي الفضاء العام.
واقع سياسي موبوء
تواجه التجربة الديمقراطية الفتية في الدول التي شهدت حراكات شعبية إكراهات الواقع السياسي الموبوء بالمصلحة الضيقة على حساب المصلحة الوطنية، واستهلك البرلمان التونسي جل الوقت في المناكفات السياسية بين حركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية، وحليفها المقرب كتلة ائتلاف الكرامة من جهة، وحزب الدستوري الحر بقيادة عبير موسي من جهة أخرى، وهما على طرفي نقيض سياسياً وأيديولوجياً.
الغنوشي يفشل في إدارة البرلمان
في المقابل، فشل رئيس حزب حركة النهضة، رئيس البرلمان، راشد الغنوشي، في إدارة هذه الخلافات داخل البرلمان، ونجح في الإفلات من لائحة سحب الثقة في يوليو (تموز) 2020 بصعوبة، بعد أن صوت 97 نائباً لإقصائه من رئاسة البرلمان، بينما تتطلب العملية 109 أصوات.
ولئن سقطت لائحة سحب الثقة، فإنها استبطنت سقوطاً سياسياً ورمزياً مدوياً للرجل الأول في حركة النهضة، القابعة في الحكم لعقد من الزمن.
ويسعى حزب الدستوري الحر، إلى إعادة تجميع الكتل والنواب، من أجل محاولة سحب البساط من الغنوشي مجدداً، وهو الذي بات عبئاً على البرلمان، لعدم قدرته على الفصل بين إدارة حزبه، وإدارة هذه المؤسسة، التي تجمع أحزاباً متناقضة ومتنافرة أيديولوجياً وسياسياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولم تفلح الدورة البرلمانية السابقة ولا الحالية، في الخروج من أتون هذه الصراعات التي عمقت الهوة بين العائلات السياسية في تونس، وبات من الصعب التقاؤها على المصلحة العليا للتونسيين.
النهضة تحكم بالوكالة وتتهرب من المسؤولية
يؤكد النائب السابق هشام الحاجي، أن المنجَز الهش المتمثل في مؤسسات الجمهورية الثانية وحرية التعبير بات مهدداً بشكل كبير، في ظل ما نلمسه من تغليب للحلول الأمنية القوية ومن غياب للحوار، وفي حالات الصدام المتتالية بين رئيس الجمهورية قيس سعيد، ورئيس الحكومة هشام المشيشي، التي بلغت درجة توتر غير مسبوقة قد تؤدي في صورة غياب الحكمة إلى ما لا يُحمد عقباه.
وشدد على أن ملامح الأزمة، تعكسها المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، محملاً حركة النهضة المسؤولية كاملة، لأنها تصدرت المشهد السياسي منذ 2011 إلى اليوم، ولأنها تمارس الحكم بالوكالة (عن طريق غيرها)، معتبراً ذلك هروباً من المسؤولية.
مؤشرات اقتصادية سلبية
في المقابل، أثر عدم الاستقرار السياسي على صورة تونس في الخارج، بخاصة لدى الجهات المانحة، ما لم يساعد على استقطاب الاستثمارات، لامتصاص الطلبات المتزايدة على العمل.
وتَدحرج تصنيف تونس الائتماني، حيث راجعت الوكالة العالمية للتصنيف الائتماني "فيتش رايتنغ" آفاق تونس من مستقرة إلى سلبية.
وضع سياسي متحرك خذل التونسيين في تحقيق الاستقرار، وعمق الأزمة الاجتماعية الناجمة من ركود اقتصادي تاريخي، تعيشه البلاد اليوم بنسبة نمو 6 في المئة سلبي، وهي تئن تحت وطأة جائحة كورونا، فقد حذر صندوق النقد الدولي البلاد من عجز مالي غير مسبوق في الميزانية في حدود 9 في المئة.
أفق سياسي غامض
من جهة ثانية، يرى أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية، رضا شكندالي، أن الاستقرار السياسي هو مفتاح النمو الاقتصادي، لافتاً أن تونس تعيش حالة مستعصية من الصراعات السياسية، ما يجعل المستقبل غامضاً، وهو ما حال دون استجلاب المستثمرين الأجانب.
وأوضح أن السياسة النقدية في البلاد، كالترفيع في نسبة الفائدة البنكية، والضغط الجبائي المسلط على المؤسسات الاقتصادية، حيث كان في سنة 2010 في حدود 20 في المئة، بينما أصبح اليوم في حدود 25 في المئة، لا يشجع على الاستثمار ويثقل كاهل صاحب المؤسسة.
وقد عمقت جائحة كورونا الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، فقد أكد المعهد الوطني للإحصاء وهو مؤسسة عمومية، أن تونس خسرت نحو 160 ألف وظيفة خلال الثلث الأول فقط من 2020 بسبب هذه الجائحة، بينما يؤكد المعهد العربي لرؤساء المؤسسات أن نحو 300 مؤسسة اقتصادية غادرت البلاد بسبب هذا الوباء.
ثلاثة ملايين متضرر من كورونا
ويقدر المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (منظمة غير حكومية) عدد المتضررين من هذه الجائحة بنحو ثلاثة ملايين تونسي.
وأكد رمضان بن عمر الناطق الرسمي باسم المنتدى، أن نسبة الفقر على المستوى الوطني في حدود 15 في المئة، بينما تصل في الجهات الداخلية إلى أكثر من 40 في المئة، وضع دفع بآلاف التونسيين للنزول إلى الشوارع، رفضاً للسياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة، وتنديداً بفشل الحكومات المتعاقبة، في الاستجابة لمطالبهم في التنمية والتشغيل.
عودة شعارات إسقاط النظام
ورفع عدد من المتظاهرين شعارات مطالبة بإسقاط النظام وأخرى بإنهاء حكم "الإخوان" الذي أثبت فشله طيلة عقد من الزمن، في تحقيق الرفاه، كما طالب المحتجون بحل البرلمان وتغيير نظام الحكم.
وتقاسم عدد من النواب مطالب المحتجين، فقد أكد النائب منجي الرحوي أن عشر سنوات من حكم النهضة تسببت في جوع التونسيين وتفقيرهم، بعد سقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي، وسيطرة هذا التنظيم على سدة الحكم في تونس، داعياً إلى أن تعم الاحتجاجات حتى إسقاط هذه المنظومة.
وقد لوح رئيس مجلس شورى حركة النهضة عبد الكريم الهاروني في تصريح تلفزيوني، بإنزال قواعد الحركة إلى الشارع من أجل قمع الاحتجاجات، وهو ما أثار جدلاً واسعاً حول نزوع هذه الحركة إلى النهج الميليشيوي في التعاطي مع التحركات الاحتجاجية.
حركة النهضة مستعدة للتنازل
من جهة ثانية، أكد نائب رئيس حركة النهضة، عبد اللطيف المكي، في تصريح سابق، أن الحركة مستعدة للمصالحة الوطنية الشاملة، والجلوس مع جميع الأطراف السياسية، مقراً بصعوبات الوضع الاقتصادي والاجتماعي في تونس، إلا أنه أكد أن الحركة "منكبة على خدمة قضايا الشعب بروح التعاون والمصلحة الوطنية العليا"، مضيفاً أن "الحركة لها ثقة كاملة في مؤسسات الدولة وفي القوات الأمنية والعسكرية".
من جهته، دعا المتحدث باسم حركة النهضة، فتحي العيادي، في تصريحات صحافية إلى وضع حد للتجاذبات السياسية، والتعايش الجماعي، بين كل التونسيين، مشيراً إلى أن الشعب عبر عن قلقه من هذه التجاذبات، من خلال تحركاته الأخيرة، معرباً عن استعداد حركة النهضة لتقديم تنازلات من أجل المصلحة الوطنية، ومن أجل خدمة الشعب التونسي.