Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل بليت الأحزاب الأوروبية التقليدية وحان وقت استبدالها؟

في زمن يمتلك الشباب أدوات فورية واسعة الانتشار للتعبير عن رأيهم ما الذي يمكن أن يغريهم في السياسيين التقليديين؟

اخترقت جيورجيا ميلوني المشهد السياسي الإيطالي من أوسع أبوابه (غيتي)

في نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي، كان فوز جورجيا ميلوني في الانتخابات البرلمانية الإيطالية مفاجئاً لأسباب ثلاثة، كونها أول امرأة تتقلد منصب رئيس الوزراء في البلاد، ولأن حكومتها هي أول حكومة يمينية متطرفة منذ الحرب العالمية الثانية، ولأن حزبها، إخوة إيطاليا، لم يكن معروفاً على نطاق واسع على الأقل خارج إيطاليا، وليست لديه أي خبرة سابقة في الحكومة.

لكن الملفت أكثر في تلك الانتخابات أن جميع الأحزاب المتنافسة فيها أو شكلت تحالفات لخوضها، جديدة نسبياً وجميعها تأسس في الألفية الحالية، حزب إخوة إيطاليا (2012)، حزب ليغا (2017)، حزب فورزا إيطاليا (أعيد تشكيله عام 2013)، حزب الخمس نجوم (2009)، حزب فيفا إيطاليا (2019)، وحزب آزيونيه (2019).

قد يشعر المرء بشيء من التناقض بين عودة اليمين المتطرف على هيئة قيادات شابة (تبلغ ميلوني 45 سنة) وفي أحزاب حديثة التكوين، إذ طالما ارتبط اليمين بالتقليدية، وعدم الجرأة على التغيير والرغبة في المحافظة على قياداته الشائخة ذات الخبرة العريقة.

صحيح أن وجوهاً شابة عن أحزاب جديدة كانت تتنافس في المشهد السياسي في إيطاليا، مثل ماتيو سالفيني 49 سنة الذي كان يقود حزب ليغا، لكن غالبية الأحزاب الحالية هي إما تفرعات عن أحزاب قديمة أو أحزاب حُلت في السابق وأعيد تشكيلها ومنحت أسماء حديثة.

معروف أن إيطاليا منذ عقود تعيش مأزقاً حقيقياً ناجماً عن اهتزاز ثقة الناخب بنظام الديمقراطية في البلاد بسبب الأحزاب المهترئة والتذمر من الوجوه السياسية الفاسدة التي لا يجد الجمهور مهرباً منها ولا جدوى لبقائها في السلطة، ويبدو أن التيارات الحزبية أدركت أن السياسيين التقليديين لم يعودوا صالحين في زمن "تويتر" و"تيك توك"، ولم يعد هناك ما يغري الناخب بالأحزاب المرهقة المهترئة داخلياً في زمن بات المواطنون قادرين على التعبير عن أنفسهم بشكل فوري على نطاق واسع من دون الحاجة إلى الوسيط السياسي التقليدي، فحاولت الأحزاب تغيير الواجهة علها تخطب ود الجماهير، لكن طالما أن شخصاً مثل سيلفيو برلسكوني هو المرجع الذي تلجأ إليه رئيسة الوزراء الجديدة للحصول على المشورة، لا يبدو أن الشعب قادر حتى الآن على التعبير عن رأيه السياسي بشكل مباشر يتجاوز الآلية الحزبية التقليدية أو الوصول إلى أدوات الحكم الضرورية لتحقيق آماله وطموحات الأجيال الجديدة التي تتجاوز أزمة تكاليف المعيشة لديها أزمة حرية التعبير عن الرأي.

خيبة أمل بريطانية

وفي بريطانيا، التي ما زالت تعيش آثار صدمة الاستقالة المدوية لرئيسة الوزراء ليز تراس، لا يعني وجود سياسيين أصغر سناً في الصدارة (تراس 47 سنة، ريشي سوناك 42 سنة) أن السياسات الحزبية أكثر تقدمية أو تنال رضى الفئات الشابة.

يرى محللون أن وصول سوناك إلى رئاسة الحكومة كان بمثابة معجزة جنبت حزب المحافظين خوض انتخابات عامة كانت خسارته فيها شبه مؤكدة.

جماهيرياً، لا تتجاوز شعبية حزب المحافظين الذي تأسس عام 1834 نسبة 21 في المئة بين الناخبين بالمجمل، وهو أقل حظوظاً بين النساء والفئات الشابة التي تتراوح أعمارهم بين 18 و29 سنة، وبينما حققت شعبية حزب العمال قفزة منذ أزمة عام 2008، ووصلت في أحدث استطلاع للرأي أجراه موقع "يوغوف" إلى31 في المئة، كانت هناك خيبة أمل بأن التنافس ما زال بين الحزبين الرئيسين التقليديين، في حين لا تمتلك الأحزاب الأخرى حضوراً فاعلاً في المشهد السياسي البريطاني، ولا تتجاوز شعبية حزب الديمقراطيين الليبراليين (تأسس عام 1988) 12 في المئة، بينما يؤيد ثمانية في المئة فقط من المواطنين حزب الخضر (تأسس عام 1990).

 

فرنسا الماكرونية

في فرنسا، وضع الناخبون ثقتهم في عام 2017 في حزب ناشئ لم يمض على تأسيسه حينها عام واحد وفي زعيمه إيمانويل ماكرون، وكان تأسيس حزب الجمهورية إلى الأمام الوسطي التقدمي (الذي أعلن تغيير اسمه أخيراً ليصبح حزب النهضة) يهدف إلى تمهيد الطريق لترشح ماكرون لخوض الانتخابات الرئاسية، ويتميز الحزب باعتماده المكثف على شبكات التواصل الاجتماعي، ويبدو أن سياسات ماكرون وحزبه الموالية بشدة لأوروبا تلقى رواجاً بين الفرنسيين، بدليل إعادة انتخابه لولاية رئاسية ثانية في أبريل (نيسان) الفائت أمام منافسته الرئيسة ماري لوبان عن حزب الجبهة الوطنية اليميني المتشكل عام 1972.

صعود فكاهي في أوكرانيا

في أوكرانيا في عام 2017، أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة المبادرات الديمقراطية أن أربعة في المئة فقط كانوا مستعدين للتصويت لحزب حديث يدعى "خادم الشعب"، وهو على اسم مسلسل كوميدي من بطولة وإنتاج فولوديمير زيلينسكي. في خريف عام 2018، أسهم نجاح الموسم الثالث من المسلسل في زيادة الشعبية السياسية لبطله، وكانت النتيجة اكتساح زيلينسكي الانتخابات في ربيع عام 2019 بنسبة 73 في المئة في مواجهة منافسه زعيم حزب التضامن الأوروبي الناشط منذ عام 2000، الرئيس السابق بترو بوروشنكو المتهم بفشله في القضاء على الفساد.

لكن في العموم، لا يمكن تبرير ميل الشعوب في بعض دول أوروبا إلى تشكيل أحزاب جديدة بتردي الأوضاع الاقتصادية وضعف الأجور وارتفاع معدلات البطالة والرغبة في الحد من الهجرة والارتباط بأوروبا. ألمانيا مثلاً، على خلاف بلدان أخرى، ما زال أداؤها الاقتصادي قوياً في عز التحديات العالمية الصعبة سواء كانت على هيئة أوبئة أو حروب. ومع أن هناك صعوداً ملحوظاً لأقصى اليمين في البلاد (حزب البديل من أجل ألمانيا الذي تشكل عام 2013 هو خامس أقوى كتلة حزبية) إلا أن الأحزاب المسيطرة هي أحزاب عريقة، الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني الذي ينتمي إليه المستشار الحالي أولاف شولتز (تأسس عام 1875)، وحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي كانت تتزعمه أنغيلا ميركل (1945)، وحزب الخضر (1980).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نظرة استعلائية نخبوية

عند الحديث عن الديمقراطية، من البديهي أن نفكر في المؤسسات الدستورية من جماعات وأحزاب سياسية تفرز قيادات وكفاءات تتولى المسؤولية في الدول بمفهومها المعاصر، لكن نظرة سريعة على عالم الإنترنت، وما هو إلا بحر مفتوح يلقي فيه الأشخاص الحقيقيون أفكارهم لتعلق في شباك الجميع من كل حدب وصوب، تظهر لنا أن المدرسة الحزبية التقليدية بدأت تضعف، وراحت ظاهرة التذمر من الأحزاب المتخبطة داخلياً والمتناحرة والمتحجرة تشمل كل الأجنحة بغض النظر عن الأيديولوجيات التي تتبناها للتسويق لنفسها، سواء كانت قومية أو شعبوية أو اشتراكية أو ديمقراطية أو ليبرالية.

من الواضح أن الجميع سئموا من ربط الديمقراطية بالحزبية التقليدية، وفي السابق كان أعضاء البرلمان هم صوت الشعب أمام الحكومة، أما في يومنا هذا توجد منصات مختلفة يستطيع الناس اللجوء إليها لإسماع أصواتهم، المشكلة ليست في الآلية، لكن في وجود مجيب للنداء.

مثلما لم تعد المدراس والكليات مصدر المعلومة الوحيد في هذا الزمن، ولا المنابر الإعلامية الرسمية المنبع الحصري للأخبار والأنباء، ولا المتاجر التقليدية المكان الوحيد للتسوق، ولا الرسائل البريدية واللقاءات الشخصية السبيل الوحيد للتواصل، ولا ينبغي أن تبقى الأحزاب العتيقة هي الوحيدة القادرة على الوصول إلى الحكم والممثل الوحيد للشعب.

تسيطر على الأحزاب اليمينية التقليدية نظرة استعلائية نخبوية رافضة للآخر ما عادت مقبولة في عالم لا يتوقف عن التغير وفي مجتمعات بات التنوع والتمثيل المتنوع في مقدمة أولوياتها، بينما تتمسك الأحزاب اليسارية بأدبيات وشعارات بالية وأهداف نضالية خُلبيّة لا تتماشى والأدوات الضعيفة التي تمتلكها هذه الأحزاب لتحقيقها.  

 بالتالي لا بد أن تتبنى هذه الأحزاب إن أرادت الحفاظ على وجودها، آليات للتجديد والمعاصرة على أكثر من مستوى، وليس فقط جلب قيادات جديدة، إنها بحاجة إلى إعادة صياغة أسسها وطريقة تعاطيها مع القيادة وحضورها في المجتمع وانتشارها في أوساط الأقليات وبين الفئات الأكثر ضعفاً، وأن تكون أكثر شمولية وتتعامل بشفافية مع صراعاتها الداخلية أو أي تجاوزات تصدر عن أعضائها وقادتها.

ومع أن الحاجة تستمر لوجود آليات حازمة وفعالة لاحترام المؤسساتية ووجود تمثيل حقيقي لجميع الفئات المجتمعية يعكس بالفعل رغبات الشعوب واحتياجاتها، وهو المبدأ الذي بنيت عليه الديمقراطية التقليدية، إلا أن وتيرة التطور في الدول والمجتمعات الذي غير كل جوانب الحياة تتطلب نشوء أنظمة حزبية أكثر عصرية تواكب فعلياً تطلعات الأجيال الحديثة، وليس فقط تعديلات سطحية أو شكلية على أحزاب عفى عليها الزمن من الناحية العملية.

المزيد من تقارير