Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تفكيك الحدث التاريخي بعيدا عن العقيدة في "خلف ستار النخيل"

منصر امين يسلك طريق ساراماغو وكازانتزاكيس في قراءة الظاهرة

من مظاهر الحضارة الرومانية في المشرق (تاريخ روما - فيسبوك)

ملخص

لا يشي عنوان رواية "خلف ستار النخيل"، دار العين، للكاتب والحقوقي منتصر أمين بمضمون الرواية أو بالمنطقة التاريخية شديدة الحساسية، التي اختارها الكاتب مسرحاً لسرده.

يبدو العنوان للوهلة الأولى محايداً، بل موارباً، وكأنه يتعمد إخفاء ما ينتظر القارئ خلفه: إنها واحدة من أكثر اللحظات التباساً في التاريخ الإنساني، لحظة صلب المسيح، لا بوصفها واقعة دينية غامضة فحسب، بل بوصفها حدثاً سياسياً وسردياً مفتوحاً على التأويل.

لذا يمكن القول إن "خلف ستار النخيل" تنضم إلى نسق روائي عالمي تناول شخصية يسوع الناصري، لا من موقع الإيمان العقائدي، بل من موقع السؤال الوجودي والسردي والأخلاقي، مثل روايات "الإنجيل بحسب يسوع المسيح" لـجوزيه ساراماغو، و"الإغواء الأخير للمسيح"، لـنيكوس كازانتزاكيس، و"المعلم ومارغريتا" لـميخائيل بولغاكوف.

ما يميز رواية منتصر أمين هو ابتعادها عن إعادة كتابة سيرة يسوع، أو منحه صوتاً سردياً مباشراً، واختيارها بدلاً من ذلك تفكيك الحدث من خلال الشهود، والسلطة الرومانية، وتعدد الرؤى لشخصية يسوع. بهذا المعنى، لا تدخل الرواية في جدال لاهوتي صريح، بل تجيب عن تساؤل أكثر حداثة: كيف تتحول الواقعة إلى سرد، والسرد إلى حقيقة جمعية، والحقيقة إلى أداة قوة؟

مبعوث الإمبراطور

منذ الصفحات الأولى يمكن اعتبار الرواية نصاً يسائل التاريخ من داخله، ويفكك آليات كتابته، ويشكك في فكرة الحقيقة الواحدة. فالكاتب يختار منطقة تاريخية "ملغومة"، ويدخلها بحذر فني واضح متسلحاً بتعدد أصوات الرواة.

يبدأ السرد مع مخطوط ماركوس فاليوس، مبعوث الإمبراطور الروماني، الذي جاء من أجل مهمة تقصِّي حقيقة ما جرى ليسوع الناصري في أيوديا، المنطقة الجبلية الواقعة جنوب فلسطين. ماركوس، الذي يعبد الإله جوبيتير، لا يأتي بوصفه شاهداً بريئاً، بل حاملاً لمنظومة فكرية وسياسية جاهزة، سرعان ما تبدأ في التصدع أمام ما يسمعه ويراه.

يكتب في مخطوطه، عن كل ما جرى أمام عينيه، وما سمعه من الشخوص، حول صلب الناصري، يقول بعد زمن، ومن قلب ذاكرته الواهنة: "كانت المحن شديدة، لم يعزني فيها سوى وجود ميرا، فما أيسر الرحلة حين يرافقك من عاصر معك كل شيء، لكنها رحلت الآن وتركتني وحيداً. استدرت بخطى بطيئة، أتوكأ على عصاي، عائداً إلى الداخل. تنهدت بعمق وأنا أحدق في الرقعة الجلدية الخشنة، أتفحصها على ضوء المصباح الزيتي الشاحب، همست: لتكن مشيئتك".

يصل ماركوس إلى قصر بونتيوس بيلاطس، حاكم أيوديا، الذي يشارك بدوره في السرد، لا كطاغية مباشر سمح بصلب المسيح، بل كموظف سلطة محاصر بتوازنات الإمبراطورية وضغط الجماهير، وإلى جانب بيلاطيس، تبرز شخصية كلوديا، زوجته، بوصفها إحدى أكثر الشخصيات كثافة وإشكالية في الرواية. فهي رائية وعرافة، تحمل نبوءات تؤثر في مجرى السرد، وتترك بصمة واضحة في وعي القارئ، لا سيما مع افتتان ماركوس بها. حضور كلوديا يخلخل منطق السلطة والعقل السياسي، ويفتح نافذة على الحدس والخوف واللايقين. تقول عن نفسها: "ولأن التمرد طبع أصيل في نفسي، لم أستسغ تلك الحياة، وبدأت أبحث عن أي مغامرة، عاودني حبي للقراءة، فانجرفت وراء كتابات أفلاطون وسقراط". كلوديا هي التي تشاهد في الحلم موت يسوع، وتحذر زوجها من صلبه، لكنه يتجاهل نبوءتها.

تتسع دائرة الرواة لتشمل باراباس، وقيافا الكاهن اليهودي، ويعقوب أخا يسوع، وكاليجولا، ويوسف الرامي، ومريم المجدلية. يروي كل منهم القصة لمندوب الإمبراطور من زاويته الخاصة، فتتشكل الحقيقة لا بوصفها جوهراً ثابتاً، بل حاصل تصادم وجهات نظر، ومصالح، ومخاوف، وإيمانات متعارضة وتقاطعها، هذا التعدد لا يراكم المعلومات بقدر ما يراكم الشك، ويضع القارئ نفسه في موقع السؤال حول حقيقة ما كان.

رمز غائب

في مشاهد الصلب تتجنب الرواية أي نزعة خطابية أو تمجيدية. اللغة هادئة، دقيقة، حسية، تراقب الجسد والألم والحشود والصمت. الصليب لا يقدم بوصفه رمزاً دينياً استثنائياً، بل أداة عقاب مألوفة في منظومة القمع الرومانية. هنا، يتحول المكان نفسه إلى كيان ملعون، يترك أثراً مراً عالقاً في الذاكرة. لنقرأ ما يقوله بيلاطس: "حاوطتني سحب الحزن والأسى، وبقلب محطم فكرت أن ما حدث لا بد أنه كان بفعل الآلهة وإرادتها، وفجأة تناهت ضجة كبرى آتية من الجلجلة، محمولة على أجنحة الريح، تنبئ عن احتضار ما، لم تسمع بمثله أذن بشرية من قبل، هبطت غيوم سود غطت جوانب القصر والهيكل، ألقت بظلالها على المدينة التي بدت وكأنها تلفعت بحجاب قاتم، كانت مخيفة تلك العلامات التي ظهرت كما في السماء، كذلك في الأرض".

لكن الرهان الحقيقي للرواية لا يكمن في لحظة الصلب ذاتها، بل فيما بعدها: في الكيفية التي يتحول بها الجسد المصلوب إلى فكرة، ثم إلى خطاب، ثم إلى عقيدة. تكشف الرواية، بهدوء وصرامة، كيف يصنع الإيمان حين يتلقفه الجموع، وكيف تتحول الحكاية إلى قوة سياسية واجتماعية، لا بفعل الحقيقة وحدها، بل بفعل الرغبة في تصديق كل ما حدث.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يأتي الفصل الأخير الذي يسرده ماركوس فاليوس ليؤكد الموقف الفلسفي النهائي للرواية. اعتزال مبعوث الإمبراطور، وانكفاؤه إلى الصمت، ليسا علامتي عجز، بل ذروة إدراك، يقول: "يبدو لي العالم خطراً جداً، حتى إنني رغبت في اعتزاله. لا يشدني هذا الرجل الغريب، بمعجزاته وغموضه، لكنني اليوم أقر بأن ما حدث ليشوع في أيوديا ليس مجرد أحجية، بل لغز غامض".

يدرك ماركوس أن ما جرى في أيوديا لا يمكن احتواؤه داخل تقرير رسمي، ولا اختزاله في تفسير نهائي. ما يخيف ماركوس ليس الصلب ذاته، بل ما تلاه: اندفاع البشر لتحويل حدث غامض إلى يقين قاطع، وسردية مغلقة.

تعلن الرواية أن ما حدث للناصري ليس لغزاً يحتاج إلى حل، بل إنه لغز يزداد خطورة كلما حاول البشر تفسيره. فاللغز، كما يوحي النص، يفتح باب التفكير والخيال، بينما يغلق التفسير باب السؤال. هنا تنحاز الرواية إلى الشك بوصفه فعلاً أخلاقياً، لا ضعفاً، وإلى الغموض بوصفه حماية من العنف الذي يولده اليقين.

دلالات فنية

تنهض الدلالات الفنية والروائية في "خلف ستار النخيل" على وعي بأدوات السرد وحدودها، حيث لا يستخدم التاريخ بوصفه خلفية جاهزة، بل بوصفه مادة قابلة للتفكيك وإعادة التركيب. فاختيار تعدد الرواة لا يحقق تنويعاً صوتياً فحسب، بل يؤسس لرؤية جمالية قوامها النسبية، ويحول الرواية إلى فضاء حواري تتقاطع فيه الذوات والخطابات، إضافة إلى أن اعتماد السرد المتأمل، واللغة المقتصدة المشحونة بالإيحاء، يمنح النص كثافة تجعل الصمت والانقطاع جزءاً من البنية الدلالية. أما النهاية المفتوحة، التي ترفض الحسم والتفسير، فتؤكد أن الرهان الفني للرواية ليس تقديم معنى نهائي، بل إبقاء السؤال حياً، وجعل القارئ شريكاً في إنتاج الدلالة.

لا يقدم منتصر أمين رواية عن المسيح أو عن الصلب فحسب، بل رواية عن البشر حين يواجهون حدثاً أكبر من قدرتهم على الفهم. رواية عن السلطة حين تتخفى في لباس الإيمان، وعن شهوة التفسير، وعن الخوف من الغموض. لذا لا تغلق الرواية بابها، بل تتركه موارباً، مثل تنبيه حذر: أن أخطر ما قد يصيب الإنسان، ليس أن يجهل الحقيقة، بل ظنه أنه امتلكها كاملة. في المشهد الختامي، ثمة ما يعيدنا إلى العنوان نفسه: كل ما هو جوهري يحدث دائماً خلف ستار. خلف ما لا يقال، وما لا يعلن، وما يتم حجبه. فالحقيقة، في هذا النص، ليست في كل ما قيل، بل ما ظل مراوغاً، عصياً على الامتلاك.

إنه نص ينتمي إلى الروايات التي تعيد قراءة التاريخ من زاوية إنسانية وفلسفية، وتفتح المجال للتأمل فيما بقي من الحقيقة حين تتعدد الروايات، وحين يصبح اليقين نفسه موضوعاً للشك.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة