Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كوثر عظيمي تسرد وقائع 7 عقود من تاريخ الجزائر

"نذير شؤم" رواية بالفرنسية عن أشخاص يعيشون حالاً من الاغتراب الداخلي والهجرة البائسة

الروائية الجزائرية الفرنكوفونية كوثرعظيمي (دار سوي)  

ثمة أمكنة تشكل لدى بعض الروائيين محفزاً ثابتاً لخيالهم وكتاباتهم وفضاءً خصباً للتأمل والمساءلة، فيلازمونها وإن كانوا يعيشون في الواقع بعيداً منها. وينطبق الأمر على الروائية الفرنكوفوية الجزائرية  كوثر عظيمي التي ما برحت تلازم في أعمالها وطنها الأم، الجزائر، على رغم مغادرتها إياه منذ سن الرابعة حين قرر والداها الاستقرار في فرنسا، ثم في عام 2009 بعد عودة قصيرة إليه. ملازمة أثمرت خمس روايات مهمة، آخرها "نذير شؤم" التي صدرت حديثاً عن دار "سوي" الباريسية، وتخط عظيمي فيها جدارية عائلية تسمح لها بإعادة قراءة ليس أقل من سبعة عقود من تاريخ وطنها الحديث، عبر الأقدار المتقاطعة لشخصياتها الرئيسة الثلاث.

وفعلاً، تنطلق أحداث الرواية عام 1922 داخل قرية نائية تقع في شرق الجزائر، وتنتهي عام 1992 في المكان نفسه. فترة طويلة تتابع الروائية خلالها مسار ثلاثة أصدقاء طفولة: سعيد، طارق وليلى. سعيد، في مطلع الرواية، طفل مدلل ولد في عائلة ميسورة. طارق فتى خجول ربته أم أرملة، فقيرة وبكماء. ليلى فتاة متمردة لم تكن تتردد في القفز من نافذة غرفتها للالتحاق بصديقيها، الأمر الذي يفسر حب هذين الأخيرين لها في السر، ورغبة والديها في تزويجها بسرعة. وهو ما سيفعلانه ما أن تبلغ سن الـ13، لكن بعد إنجابها طفلاً من زوجها الفظ والعجوز، تغادره إلى دار أهلها، محدثة فضيحة في القرية ومثيرة غضب "حكمائها".

الصديقان في الجبهة

في سن المراهقة، ينفصل مسارا طارق وسعيد، إذ يصبح الأول راعياً، بينما يغادر الثاني القرية لمتابعة تعليمه، إلى المدينة القريبة أولاً، ثم إلى تونس، لكن الحرب العالمية الثانية سترسل الاثنين إلى الجبهة. هكذا يختبر طارق محن الحرب وأهوالها، قبل أن تحط كتيبته، المؤلفة حصراً من جنود مغاربة وأفارقة، في مدينة فرساي الفرنسية، حيث يعيش فترة طويلة في ظروف بائسة، يعاني خلالها عنصرية الفرنسيين واحتقارهم له، ويعي أنه لم يكسب شيئاً من هذه التجربة المريرة، فيقرر العودة إلى وطنه.

شاعر في الصميم، ومتعلق بشدة بأرض ولادته، يعاني طارق أيضاً منفى داخلياً يفسر الصعوبة التي يواجهها منذ صغره في الكلام، لكن هذا لن يمنعه، لدى عودته إلى القرية، من طلب يد ليلى، ومن الفوز بها وإنجاب ثلاث بنات منها، قبل أن يسلك مجدداً طريق الغربة لإعالة أسرته، فيحط أولاً في الجزائر العاصمة، حيث يشارك في كفاح أبناء وطنه من أجل الاستقلال، ثم في تصوير فيلم "معركة الجزائر" إلى جانب المخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو. بعد ذلك، ومثل جزائريين كثر، يهاجر إلى فرنسا، حيث يعمل في مصنع يقع في ضاحية باريس. تجربة مخيبة تدفعه إلى قبول وظيفة حارس في فيلا رائعة في روما تقطنها منحوتات ولوحات فنية. مكان يختبر فيه السكينة والراحة، قبل أن يلحق به قدره المعذب.

من جهته يتوارى سعيد عن الأنظار وتنتفي أخباره. ويجب انتظار سنين طويلة قبل أن يظهر مجدداً في حياة صديقيه. ظهور يحدث تحت شعار الفضيحة. فإثر معانقته الكتابة، يصدر رواية حول سنوات مراهقته تحصد شهرة كبيرة في وطنه. رواية مشبعة بالإيروسية تحضر ليلى فيها ليس فقط باسمها، بل أيضاً بملامح وجهها ومنحنيات جسدها، الأمر الذي يشعل مجدداً ضغينة أبناء القرية تجاهها ويحول حياتها إلى جحيم، فيضطر طارق إلى مغادرة "واحته" الرومانية للانتقال بزوجته وبناته إلى العاصمة الجزائرية حيث سيعيشون جميعاً حياة شبه سرية، قبل أن تجبرهم الحرب الأهلية بعد عقدين على العودة إلى القرية.

مغامرات مسرودة

مثل روايات عظيمي السابقة، تفتننا "نذير شؤم" بغزارة المغامرات المسرودة فيها وطبيعتها، وخصوصاً باللغة الدقيقة والمقتضبة التي تعتمدها الكاتبة لسرد هذه المغامرات. لغة مجردة من أي تصنع أو زخرفة، ومع ذلك مشحونة بمختلف الانفعالات. من هنا المتعة المستشعرة في متابعة مسارات شخصياتها، وخصوصاً مسار طارق الذي سيقودنا من ريف القرية النائية، حيث كان يرعى أغنامه، إلى دروب حديقة الفيلا الخلابة في روما وغرفها الغنية بالكنوز الفنية، مروراً بعملية تصوير فيلم "معركة الجزائر" والمشكلات السياسية التي اعترضتها، والمعاش الرهيب للجنود الأفارقة في الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مسار ليلى الذي يشكل، بجرأة الخيارات التي تحكمت به، تحية احتفاء بالنساء اللاتي يناضلن من أجل نيل حريتهن وكرامتهن داخل مجتمع تقليدي عنيف لا يعبرهن، ويقدمن تضحيات لا تحصى لتربية أولادهن والاعتناء بهم، تعادل تلك التي يقدمها أزواجهن الغائبين في المنفى، وربما تتجاوزها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن قيمة الرواية لا تقتصر على ذلك، ولا على تشكيلها فرصة ثمينة للغوص في تاريخ الجزائر الحديث، من مرحلة الاستعمار إلى العشرية السوداء، مروراً بحرب الاستقلال وانقلاب هواري بومدين وفصل "الفهود السود" في الجزائر واغتيال الرئيس بوضياف. فأكثر من مجرد جدارية تاريخية عائلية، إنها تأمل حساس في سلطة الكلمات التي ليست دائماً مصلحة أو شفائية، بالتالي محاولة ناجحة للإجابة عن سؤال قليلون هم الكتاب الذين طرحوه قبلها: هل أنه لا جانب آخر للأدب سوى ذلك الخير الذي يتغنى الجميع به؟

وفعلاً، بعد خمس سنوات على رواية "ثرواتنا" التي احتفت عظيمي فيها بالناشر الكبير إدمون شارلو، ومن خلاله بالأدب وثماره الحية، الكتب، وحصدت عليها جائرة "رونودو" العريقة، ها هي تسلط الضوء في "نذير شؤم" على السلطة المدمرة للأدب، وتحديداً لبعض الروايات المبنية على حياة أصحابها وأشخاص حقيقيين مقربين منهم، مسيرة رسالة مركزية مفادها أن الانفعالات التي وحده الأدب قادر على منحها إياها، لا تقلل من مسؤولية أولئك الذين يروون بواسطته تأتأة التاريخ وتيهه. وفي هذا السياق، لا تشكل روايتها فقط انتقاداً لمن يستخدم الأدب، مثل سعيد، للارتقاء عن طريق هرس الأشخاص الذين يستقي من حياتهم مادة رواياته، بل أيضاً نموذجاً على إمكانية تعامل الروائي مع حياة الناس البسطاء بالرقة نفسها التي يزن فيها كلماته، مع ضرورة إبقائه نصب عينيه حقيقة أن "الأدب الذي يمكنه إنقاذنا، يمكنه أيضاً أن يكون نذير شؤم".

نأسف فقط على اكتفاء عظيمي، لمقاربة هذا الموضوع المهم، بما توحي به قصتها ومآلها، وعدم منحها إياه ما يستحق من تأمل مواز لعملية السرد، خصوصاً أنها أثبتت في رواياتها السابقة قدرتها على الاضطلاع بمثل هذه المهمة. ومع ذلك، تبقى روايتها مهمة، آسرة، يحملنا نثرها السيال وقصتها المشوقة بخفة نادرة حتى نهايتها، حيث يتجلى لنا أن رهانات إنجازها تتجاوز مسألة إضافة عظيمي عملاً أدبياً جديداً على سجلها. فبكتابتها سعت أيضاً إلى تضميد جرح عائلي قديم خلفته رواية تناولت بلا كياسة حياة جدّيها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة