Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أعطاب السياحة: محاولة في قراءة الذهنية الجزائرية

يبدو أن المواطن الجزائري غير منسجم ذهنياً وطبائعياً مع طقوس وشروط وثقافة السياحة

الذهنية المحافظة في الجزائر قد لا تساعد على بناء مشروع سياحي منتج ومنافس (أ ف ب)

السياحة لا تتطلب فنادق وطرق سيارة ومطارات حديثة ومحطات بحرية وأخرى للسكك الحديدية وفقط، السياحة هي سلوك المواطن تجاه الآخر، السياحة هي سائق التاكسي، وصاحب المطعم الشعبي، والحلاق والخباز وبائع الإسفنج وبائع الكرانتيكا والإمام والخضراوات وسائق الحافلة وصاحب المقهى وبائع الورد وبائع الجرائد وموظف البنك والبريد والإسكافي والصحافي ومصلح العجلات وحارس الحظيرة وأستاذ اللغات... تطور السياحة يقاس بانسجام المواطن مع حضور الآخر المختلف في اليومي المحلي، وحين يكون هذا المواطن غير مندمج وبوعي في فلسفة السياحة ينهار هذا المشروع مهما رصدت له من أموال ومرافق، ومهما غدت الطبيعة على البلد من جمال وتميز.

الجزائر بلد السياحة بامتياز، أو من المفروض أن يكون كذلك، إلا أن الجزائر أخطأت ثروتها هذه التي هي أكبر من ثروة البترول والغاز والشمس والتمر والزيتون والعنب. المال أمامنا ونحن نهرب منه، تحت أرجلنا ونحن لا ندريه، في الجبال فلا نصعد إليه، في رمال الصحراء فلا ننتبه إليه، على قمم جبال مرصعة بالثلج الذي تعمى أبصارنا عنه، لنا شواطئ كانت تصنف من أجمل شواطئ حوض المتوسط. لقد هبت الطبيعة الجزائر ما لم تمنحه لكثير من الدول المجاورة أو البعيدة، لكننا ظللنا أعداء الطبيعة وأعداء الاستثمار في هذا الرأسمال النادر "رأسمال الجمال".

لا يعرف الاستثمار في السياحة إلا من يعرف الاستثمار في الجمال، وقبل ذلك من يعرف الاستثمار في السياحة يعرف قيمة جمال بلده. لا يمكن بناء استثمار سياحي في غياب تنمية ثقافية شاملة متعددة، المجتمع الذي تغيب عنه الثقافة بكل تجلياتها تغيب عنه السياحة، حين يفقه المجتمع طرق ترقية ثقافته بكل أبعادها التراثية العريقة من دون إقصاء ومن دون خوف فإن باستطاعته أن يحقق ترقية سياحية متميزة. فالمجتمعات التي لا تخجل ولا تخاف من ماضيها هي المجتمعات القادرة على وضع تصور لاستثمار سياحي ناجع.

المجتمع الذي يحترم الفنان بكل ما له وما فيه من نزق، ويحترم حركة الكتاب سلطان الثقافة الفنون على اختلافها، وتتعدد فيه فضاءات الممارسات الفنية بكل حرية كالسينما والمسرح وفنون العرض الأخرى، فضاءات ولو على بساطتها ولكن بصدقها، مجتمع يحترم الحريات الفردية التي هي أساس الاختيارات وهي مقياس احترام المختلف، ويعرف كيف يحافظ على فن المائدة الخاصة به، مجتمع مثل هذا يمكنه، إذا ما توافرت شروط الطبيعة والتاريخ والسياسة والهياكل القاعدية أن يكون فضاء لاستثمار سياحي قوي.  

السياحة ليست استثماراً مادياً فقط، ليست ربحاً مالياً فقط، إنما هي عبارة عن مدرسة عالمية وإنسانية لتكوين مواطن جديد، تربية ذهنية جديدة لمواطن مندمج في الدفاع عن "المواطنة" التشاركية، ففي تجربة السياحة يشحذ وعي المواطن في علاقته مع فلسفة "الاختلاف"، مع سلوك الآخر "المختلف"، والمختلف ليس النقيض ولا العدو، إنه المرآة التي تكشف لنا ما لا يظهر فينا.

في تجربة السياحة يدرك المواطن بأنه لا يعيش وحده في قريته أو دواره أو مدينته، إنما هو جزء وازن في محيط إنساني معقد ومركب وواسع. تعلمنا السياحة درس المحافظة والدفاع عن هذا المختلف المعقد الذي يمنح الحياة، حياتنا وحياة غيرنا، معناها المتعدد ويحارب التنميطة La standardisation  التي تحول العالم كله إلى نسخة واحدة متشابهة تعيش حالة من البرودة والموت المقنع.

بالعودة إلى الجزائر، هناك إمكانية كبيرة لخلق كل أنواع السياحات، سياحة دينية عالمية من خلال الاستثمار في رموز تاريخية لها ظلالها الإنسانية والعالمية، فالجزائر بلد القديس "سانت أوغسطين" أحد أهم مجتهدي الكاثوليكية في البحر المتوسط، الذي له أتباع بالملايين، القديس الفيلسوف سانت أوغسطين هو ابن مدينة سوق أهراس حالياً، طاغاست سابقاً، ودفين مدينة عنابة اليوم هيبون سابقاً، والجزائر بلد ضريح إيمدغاسن الواقع بولاية باتنة/ منطقة الأوراس، وهو واحد من أقدم الأضرحة الأمازيغية التي تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد. والجزائر مدفن الخاهام أبراهام النقاوة (1359-1442) رقيد تلمسان التي كان يطلق عليها "قدس شمال أفريقيا"، والجزائر بلد يرقد فيها التابعي عقبة بن نافع الفهري (631-683) في قرية سيدي عقبة ضواحي مدينة بسكرة بوابة الجنوب الكبير.

والجزائر بلد "قبر المسيحية" وهو الضريح الملكي النوميدي الموجود على بعد 70 كيلومتراً غرب مدينة الجزائر العاصمة، ويقال إن الملك المثقف يوبا الثاني الجزائري (ولد في 52 قبل الميلاد وتوفي نحو 23 ميلادية) ابن عنابة وزوجته كليوباترا سيليني هما من أشرفا على بنائه.

ولو كانت لنا الشجاعة الفكرية والعلمية وأنجزنا دليلاً لأماكن السياحة الدينية سنعثر على ذاكرة جغرافية مزروعة برموز هي مرجعيات إنسانية يمكنها أن تجعل الجزائر في مركز العالم اليوم.

على المستوى الثقافي فالجزائر هو بلد ومسقط رأس أول روائي في تاريخ الكتابة السردية وأعني به أبوليوس Apulée de Madaure (125-170) صاحب رواية "الحمار الذهبي" المعروفة كأول رواية في تاريخ الآداب الإنسانية وقد كتبها باللاتينية.

والجزائر بلد أسر فيها سيرفانتيس أحد أكبر أعلام الرواية في تاريخ السرد العالمي، وفي أعالي حي بلكور، الحامة، توجد مغارة تسمى "مغارة سرفنتيس"، التي لجأ إليها في محاولة فاشلة للهروب، وفي هذا المكان بدأ التخطيط لروايته الشهيرة "دون كيشوط"، والمكان مهمل وبئيس مع العلم أنه بالإمكان تحويله إلى مكة يحج إليها ملايين عشاق سيرفانتيس من بقاع الدنيا كلها، والجزائر بلد مغارة ابن خلدون الواقعة بتاغزوت/ فرندة ولاية تيارت والتي شرع فيها ابن خلدون كتابة "المقدمة" وهي مغارة رمزية لا تقدر بثمن بالنسبة لأتباع ابن خلدون في الشرق والغرب والشمال والجنوب.

والجزائر بلد فن أغنية "الراي"، ففي مدينة سيدي بلعباس ووهران ولد هذا الفن الخالد، وقد غزا العالم وأدهش الجميع وأقام ثورة في الذوق الموسيقي الإنساني، وقد استثمر فيه الجميع إلا في بلده فهو يكاد يكون مهمشاً بل ومحارباً ولو بشكل غير علني.

للسياحة ثقافتها وطقوسها وشروطها المعنوية قبل الحديث عن الهياكل المادية للاستقبال، كالفنادق والمطارات والطرق السيارة وسكك الحديد وما إلى ذلك. فنجاح السياحة ليس مرتبطاً فقط بالمعطيات المادية الواقعية، لكنها أيضاً مرتبطة بجملة من القيم والأساطير والخرافات التي تصنع حلم الإنسان وتحرك أسئلته في هذا الواقع المسدود اليوم عالمياً، حيث كثرت الكراهية والتهميش والحروب الجديدة والأوبئة.

السياحة بمفهومها الثقافي والفلسفي هي جبهة لمحاربة التطرف والكراهيات الدينية والعرقية وأمراض الخوف من الآخر، هي طريق لزراعة المحبة والعيش المشترك في سلام.

في نقد العقل الجزائري

فإذا كانت الجزائر تتوافر على كل هذا وأكثر فلماذا يا ترى أخفقنا في الاستثمار السياحي؟ يبدو أن الجزائري، وحتى إشعار آخر، مواطن غير منسجم ذهنياً وطبائعياً مع طقوس وشروط وثقافة السياحة، ولهذه الوضعية السيكو- ثقافية والسوسيو- سياسية أسباب متراكمة منذ ستين سنة، أي منذ الاستقلال.

لقد تشكل عقل الجزائري منذ الاستقلال عام 1962 على فكرة أنه المواطن الذي تحرر واستقل ليخدم لا ليخدم غيره. تكرست في ذهنية المواطن الجزائري فكرة غريبة، إذ يعتقد أن خدمة الأجنبي الأوروبي السائح يدخل في باب "العبودية" أو "الاستعباد"، وأن مثل هذا العمل استمرار للاستعمار. وأن كل أجنبي هو بشكل من الأشكال صورة "للمستعمر"، صورة للفرنسي المستعمر. ففي مخيال الجزائري كل "آخر" يحيل على المستعمر، لذا يجب التوجس منه، وإن خدمته ولو في إطار الاستثمار السياحي هي شكل من أشكال خيانة المجاهدين.

الجزائري، بشكل عام "مواطن اتكالي"، وقد تعلم "ثقافة الاتكال" هذه من الأنظمة السياسية المتعاقبة التي جعلت منه إنساناً يعيش على "المعاونة" Assistanat  فهو كالرضيع يولد بمصاصة في فمه ويموت بها في فمه، ويقضي حياته يبكي عليها إذا ما سقطت من فمه!

إن مجتمعاً يقوم على ثقافة "المعاونة" لا يمكنه أن يبني سياحة، ومؤسسات دولة قائمة على نظام المعاونة لا تنتج في الأخير سوى مواطن معوق، الإعاقة ليس بمفهومها الجسمي إنما بمفهومها الفلسفي، مواطن غير قادر على الإبداع، ولا يدرك معنى المبادرة، ولا يدرك جيداً معنى الحرية في علاقتها بالعمل وبالاجتهاد المستمر.

الجزائري أيضاً مواطن متدين، لكنه التدين الذي يصل حد التطرف والمبالغة، وهناك فرق ما بين التدين والدين، وكل مجتمع تكثر فيه مظاهر التدين يقل فيه الدين الصافي الصحيح، فالجزائري وتحت ضغط مظاهر التدين الشكلية في كثير من المرات أصبح يحكم الدين في كل شيء، ويريد أن يطبقه على كل شيء وعلى الجميع، بطبيعة الحال الدين كما يفهمه هو أو كما يروج له بعض الدجالين المدافعين عن الدين السياسي، فيتدخل الدين في الأكل والشرب والمركب والملبس والكلام والمشي والنوم والعمل والمرض والابتسامة والعطور واللغة والسفر والضيافة و... وانطلاقاً من هذه المركزية الدينية المحافظة فهو يرفض "دين الآخر" المختلف ويخشى التعامل معه، ومن لا يقبل التعايش مع ديانات الآخرين لا يمكنه أن يستقبل الآخر بكل ما هو عليه.

لقد تعرضت بعض غاباتنا في الصائفة الماضية لحرائق كثيرة، وهي حرائق عرفتها أيضاً بلدان أخرى، مثل إسبانيا واليونان وتركيا وأميركا وغيرها، ففي منطقة الأوراس حين التهمت النيران مئات الهكتارات من غابات أشجار الأرز، خرج بعض الدجالين بفتوى مفادها إن الله غضب على القوم لأنهم غرسوا شجر الأرز، وهو شجر الميلاد وهي شجرة مسيحية، بدلاً من غرس شجر النخيل، ووصل الأمر بالبعض بالدعوة إلى اقتلاع أشجار الأرز وتعويضها بالنخيل.

واليوم نسمع ونقرأ على وسائل التواصل الاجتماعي من ينادي بمنع تناول المرأة المثلجات في الصالات برفع شعار: "لا تترك زوجتك أو أختك تحرج لسانها في الشارع"!

إن ذهنية بهذه المحافظة والتطرف لا يمكنها أن تساعد على بناء مشروع سياحي منتج ومنافس. بطبيعة الحال ليس كل الجزائريين بهذا التصور للحياة، بل هناك مقاومة ثقافية ودينية صادقة ضد هذا الدجل وهذا التطرف، لكن على الدولة أن تحسم خيارها في اتجاه المصلحة العامة واستدراك الوقت الضائع لا أن تبقى في منطقة المتفرج الذي يمسك العصا من الوسط.

بهذا التصور، فإخفاق الاستثمار في السياحة في الجزائر يعود إضافة إلى غياب المرافق والهياكل المادية الكبيرة والمعاصرة، يعود بالأساس إلى طبيعة علاقة الجزائري بالآخر، طبيعة علاقته المتوترة بتاريخه العريق، طبيعة ذهنية "المعاونة" و"الاتكال" التي تعلمها من الأنظمة المتعاقبة، علاقته الغامضة بفلسفة العمل، علاقته الساذجة بالدين الحنيف، جهله بتاريخ ثقافته المتنوعة، علاقته بالمرأة، وعلاقته أيضاً بالفضاء العام، ولا يمكن تفكيك هذه الأعطاب الاجتماعية والثقافية والذهنية والدينية إلا بالعودة إلى تطوير ومراجعة برامج المدرسة وجعلها متناسبة مع المحيط العالمي والإنساني، بطبيعة الحال من دون السقوط في التنميط أو الاستهلاك أو التفريط في عناصر الثقافة المحلية التي هي حامية السياحة وحامية التنوع وحامية الهوية غير المقفلة.

المزيد من آراء