لطالما ظل طلب أي فتاة الاقتران من شاب فترة ما قبل الحرب في سوريا خرقاً لعادات اجتماعية، وعيباً من العيوب التي لا تغتفر في مجتمع شرقي من شماله حتى جنوبه، إذ ثمة أصول وتقاليد لا يمكن الذود عنها عموماً. لكن ثمة اليوم واقعاً مختلفاً بعد ارتفاع معدلات "العنوسة" بين الفتيات، وعزوف الشبان عن الارتباط، ما دفع إلى خرق القواعد الاجتماعية والسير عكس الشروط التي يفرضها المجتمع.
بعد تخرجه من الجامعة، يواجه الشاب جمال خيارات صعبة وليس بمقدوره إلا أن يسلك أحد الطريقين، إما السفر أو الالتحاق بخدمة العلم الإلزامية. وفي معترك بحثه عن وجهة جديدة لإكمال دراسته خارج الوطن، ورده عرضاً غريباً من إحدى الفتيات، يقول:
"معرفتي بها جيدة أثناء دراستي الجامعية، لقد كانت من المتفوقات دراسياً، وتكبرني عشر سنوات، إنها معيدة بالكلية وسافرت إلى دولة عربية قبل سنوات. فوجئت أثناء تواصلي معها بطلبها الزواج مني لإنجاب طفل، وبعدها لا مشكلة لديها في الانفصال، مقابل تقديم تسهيلات معيشية ودراسية وغيرها".
عزوف عن الزواج
وتتزاحم حكايا الشبان والشابات حول الارتباط الوثيق في ظل ارتفاع معدلات العزوبية، والتي وصلت إلى نسب غير مسبوقة وسط الحالة الاقتصادية والمعيشية القاسية التي تتخبط بها البلاد، ووسط حرب ما زالت مستعرة لا تتوقف نيرانها عن التهام الشبان وأرزاقهم وممتلكاتهم وترغب بابتلاع المزيد.
وفي الأثناء، قرعت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل ناقوس الخطر إثر كشفها بيانات تؤكد تصاعد نسبة "العنوسة" والتي اقتربت من 70 في المئة، مع وجود قرابة ثلاثة ملايين فتاة سورية عازبة تجاوزن سن الـ30 سنة.
هذه الإحصائية الجديدة تعد تطوراً ملحوظاً بعد إحصائية سبقتها وصلت النسبة وقتها إلى 65 في المئة. وترى الباحثة الأكاديمية في علم الاجتماع بجامعة دمشق، بدور العلي، أنه من البديهي ما يحصل في بلد شهد الحرب، ولكن المخاطر باتت تتسع بعد تزايد نسبة الهجرة ومعظمهم من شبان في مقتبل العمر، يفضلون السفر هرباً من الالتحاق بالجيش الذي تمتد فيه الخدمة إلى نحو تسع سنوات.
وتطرقت الباحثة العلي في معرض حديثها إلى جملة إضافية من الأسباب تنحصر "بغلاء المهور وتكاليف الزواج، وعدم تأمين المسكن ومستلزمات الحياة، علاوة على إقامة العلاقات المفتوحة بين الشبان والشابات عبر المساكنة، وهو ما دفع الجيل الشاب إلى الاستسهال، والابتعاد عن تحمل المسؤوليات والهروب من الالتزام".
وعلى رغم انتشار العنوسة التي باتت ظاهرة تنزف ببلد دارت على أرضه أقسى الحروب في القرن الحالي، تعتقد الباحثة العلي أنه "يمكن تلافي هذا الواقع بتخفيف نفقات وتكاليف الزواج وخفض قيمة المهر، وتقديم الأهالي التسهيل للشبان القادرين على تحمل المسؤولية، ويقدسون هذا الرباط الوثيق".
غلاء فاحش "لا نستطيع فتح بيت"!
في المقابل، يؤكد الجيل الشاب عدم قدرته على تحمل مسؤولية الزواج في هذه الظروف. ويلفت المحامي والمختص في محاكم الشرعية، جبرائيل أبو السعود، إلى تفشي الطلاق بين شبان وشابات في عمر الثلاثين، ويرى أن ثمة فرقاً شاسعاً بين ظاهرة العزوف عن الزواج وبين حالات الطلاق المتزايدة بين الشباب. ويقول "من خلال عملي في المحاكم يمكن ملاحظة واقعات زواج بأعمار تفوق الثلاثين والأربعين وليس أقل، في المقابل بات لافتاً تعدد الزوجات، فالرجل الواحد يتزوج أكثر من إمرأة. واقع الحال يعود إلى فقدان جيل كامل في الحرب والسفر والهجرة وقدرة الرجل على تحمل أعباء الحياة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعجزهم عن تأمين تكاليف الزواج وما يليه من مسؤوليات، يرفض الشباب إقامة علاقة جادة مع الفتيات، ويفضلون العبث أو إقامة علاقات خارج إطار الزواج. "لا نستطيع فتح بيت، هذا باختصار المشكلة، كيف سأعمل على تأمين حياة مستقرة لزوجتي وأطفالي وحالة البلد ما زالت تتأجج اقتصادياً ويتأرجح معها الاستقرار. إنني عاطل من العمل منذ ثلاثة أشهر، لذا سأبقى من دون زواج"، هكذا يحكي رامي (27 سنة) مبرزاً مشقات الحياة وصعوبة التعايش مع الجوع والعطش والتشرد، في حال كان المنزل مستأجراً.
ويعتبر شاب آخر أن المشكلة تكمن بالمظاهر الاجتماعية الخادعة، فالجميع يتسابق للظهور بالمظهر المثالي والتفاخر بالحفلات والهدايا الثمينة، "الطلبات التي تلقيتها في فترة الخطوبة والمرتبطة بحفل الزفاف والهدايا، ستدفع بي لتأجيل الارتباط لخمس سنوات مقبلة، هذا إن تمكنت من ذلك".
المحامي أبو السعود يرى أن "تكاليف الزواج العادي تبلغ نحو 40 مليون ليرة (ما يعادل قرابة 10 آلاف دولار)، في حين أن معدل الدخل الشهري للفرد لا يتخطى المئة دولار، ناهيك عن شراء المسكن الذي قد يصل سعره إلى 30 ألف دولار، أما كلفة استئجار شقة فتتراوح بين 50 و100 دولار. كلها أسباب ستدفع الشباب للهروب من معادلة سيجدون أنفسهم خاسرين فيها".
المهر وتكاليف العرس
وأمام ذلك، ابتعدت العديد من الشابات عن "لطم الحظ العاثر لهن"، وبتن يعملن على إطلاق مبادرات تشجع على الزواج. وتروي الناشطة في حقوق المرأة مرام جدوع في هذا الجانب، قدرة الشابات على العمل والدراسة وتحمل المسؤوليات، وتعتبر أن هذا الجانب سيشجع الشبان على الزواج، "حان الوقت أن تكون الزوجة أكثر انفتاحاً على الحياة، وتتقاسم وزوجها الواجبات المنزلية وأن تكون سنداً له".
ولفتت في الوقت ذاته إلى واقع مرير لعدد كبير ممن تخطين سن الثلاثين، باللجوء إلى عمليات تجميد البويضات عند العيادات المتخصصة خوفاً من مستقبل مجهول، مع واقع الشباب الذي تتقطع بهم سبل الإقبال على الحياة الزوجية.
ولعل المسؤولية الاجتماعية دفعت شابات لإطلاق مبادرة الزواج من دون مهر، تخفيفاً من أعباء الزواج، فلا طائل للشبان الحصول عليها إلا بشق الأنفس وبالكاد تصل بعد عقود من التعب والاجتهاد. وكانت مطرانية حلب وتوابعها للسريان الأرثوذكس أطلقت عام 2020 امتيازات خاصة للمقبلين على الزواج، تتضمن إتمام طقس الزواج في كنائس السريان من دون أجور، وتقديم مبلغ مليون ليرة أي ما يعادل 300 دولار أميركي كهدية للزوجين، وتغطية إيجار شقة لمدة عام كامل، مع توفير مساعدات مادية من مستشفيات وحليب أطفال وغيرها، بغية تشجيع الشبان على الزواج.
ومن الواضح أن "العنوسة" بين الإناث والذكور أخذت بالاتساع كمن يلقي حجراً في بحيرة، وربما ليس في المدى المنظور أي حل لها، إلا بتحمل الجميع المسؤولية وتقاسمها للتخفيف من الأعباء الملقاة على كاهل الشباب في أوقات صعبة يدفعون فيها ضريبة الحرب والاقتصاد المتهالك.