Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غروتوفسكي "المعلم البولندي" الذي فاجأ النخبويين بمسرحه المتقشف

دار حول العالم محاولاً نشر أفكاره البسيطة وتفهم سر شهرته الفائقة

من عروض غروتوفسكي (موقع الفنان)

على عكس عديد من رفاقه المخرجين المسرحيين، لم يعمر المسرحي البولندي جرزي غروتوفسكي طويلاً. فهو مات في الخامسة والستين من عمره، أي ما يكفي على أية حال ليشهد لحظات سطوع نجمه على الصعيد العالمي ولا سيما خلال سنوات الستين من القرن العشرين من دون أن يفهم تماماً ذرائع ذلك المجد، لكن ما يكفي كذلك ليشهد بدايات أفول نجمه، من دون أن يفهم أيضاً أسباب ذلك الأفول! ففي الحالتين كان غروتوفسكي نخبوياً ذا دنو يكاد يكون تقنياً خالصاً من المسألة المسرحية، في زمن كان "المضمون" قد بدأ يحضر بقوة في أوروبا وفي غيرها من أنحاء العالم في اللعبة المسرحية كما في غيرها من الفنون التي أمعنت في "التمركس" في خضم تحركات الشبيبة الغاضبة. بشكل ما كان غروتوفسكي يتحرك عكس التيار. أما ما لم يفهمه فكان أن نجوميته قد ارتبطت بنوع من سوء الفهم لذلك التحرر. ففي ذلك الحين كان السير ضد ما هو سائد يعني أن تبحث لنفسك عما سيبدو معاكساً للسائد. وغالباً من دون أن تهتم بأن تعرف أو يعرف الآخرون، لماذا؟

مختبر لفن المسرح

ضمن هذا الإطار بالأحرى، يمكن فهم ما حصل لغروتوفسكي الذي كان من إنجازاته الرئيسة مختبره الذي أقامه أول الأمر في بلده بولندا ثم تنقل به حيثما تدعو الحاجة، ليكتشف وهو في غاية الفرح أن شهرة ذلك المختبر كانت تسبقه في كل مكان وصل إليه لأن كل حراك مسرحي بات يريد أن يكون له مختبره وأحياناً من دون أن يفهم القائمون عليه لماذا؟ وما هي الخلفيات الحقيقية؟ بالنسبة إليهم ربما كان الأمر متعلقاً بأعلى مستويات النخبوية المسرحية، لكن في المقابل كانت ثمة اعتبارات تكاد تكون سياسية تتعلق هذه المرة بأن غروتوفسكي وشكلياته لم تكن لتنال رضا السلطات الحاكمة في بولندا -وكانت ستالينية في معظم الأحيان خلال تلك الأزمنة- فنظرت إلى الرجل على أنه منشق من دون أن يكون هو في حقيقة أمره منشقاً! وهو كان من الدارسين على أية حال في كراكوف ثم في "الأكاديمية الروسية لفنون المسرح في موسكو"، وكان دائم المرونة حتى وإن بدا غريباً بعض الشيء اختياره مسرحية "الكراسي" ليوجين يونيسكو ليبدأ بها في عام 1957 عمله كمخرج في كراكوف، لينصرف بعد عامين إلى تأسيس مختبره الذي سيضحى شهيراً في مدينة أوبول جنوب بولندا بمباركة السلطات على الرغم من بعض حذرها تجاهه، لكنه عرف بعد فترة يسيرة كيف ينتقل إلى روكلاف ليؤسس مختبره من جديد تحت شعار "المختبر المسرحي التجريبي"، وهو اعتباراً من تلك اللحظة انتقل بسمعته إلى العالم الخارجي. وهو في إطار نشاطات ذلك المختبر بالتحديد راح يقدم تجارب مسرحية شديدة التنوع تتراوح بين نصوص "أبوكاليبسية" مستقاة من حديث الكتاب المقدس عن نهايات العالم، ونصوص لإليوت وكالديرون بما في ذلك إدماج فقرات ومواقف مستقاة من دوستويفسكي وسيمون ويل.

لم يرفض ستانسلافسكي

ولعل اللافت عند بدايات غروتوفسكي أن عدداً من النقاد قد اعتبروا أعماله نوعاً من الرفض لتعاليم ستانسلافسكي. أما هو فإنه كثيراً ما أبدى دهشته أمام ذلك الاعتبار قائلاً "بل إنني متتبع جيد لأساليب هذا الأستاذ الكبير، كل ما في الأمر أنني أضفت إلى البعد السيكولوجي الذي كان هو يؤثره بعداً جسدياً سيكولوجياً". والحقيقة أن غروتوفسكي لخص في هذا التعبير كل أسلوبه المسرحي بل فلسفته المسرحية وبخاصة في مجال التعامل مع الممثلين وهو على أية حال، المجال الذي ركز عمله في المختبر التجريبي عليه. فبالنسبة إليه "قدرة الممثل هي في التفاعل مع الآخرين أو تنغيم الصوت أو تشاطر الأفكار أو حتى ضروب الكناية البصرية، كي يتمكن في نهاية الأمر من الوصول إلى تمازج بين المعنى والحركة". هي كلها الأسس التي قامت عليها التدريبات في مختبره المسرحي، والتجارب التي فتنت معاصريه وجعلتهم ينقلبون في أغلبيتهم إلى "غروتوفسكيين" فيما كان هو يقول بكل بساطة إن هذه ليست سوى الأبجدية الأساسية لفن المسرح. وهو إضافة إلى ذلك كان دائماً ما يعلن أنه من الضروري في اللعبة المسرحية الحد من اللجوء إلى ضروب العفوية والارتجال، ناهيك بضرورة التقليل من العنف وبخاصة اللفظي قدر الإمكان.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولعل من الضروري في هذا السياق نفسه أن نذكركم أن غروتوفسكي، في مواجهة ما كان يعتبره إسرافاً في اللجوء إلى غنى مسرحي "فاحش"، كان يعتبر مسرحه فقيراً وبالأحرى متقشفاً بما يتضمنه ذلك من رسم حدود منطقية للأزياء والديكورات والتبرج ما يستقيم مع إصراره على أن تخلو حتى المناظرات من ذلك العنف اللفظي الذي اعتاده أهل المسرح كما اعتادوا تضخيم زينتهم. وفي هذا الإطار لم يكن من قبيل الصدفة أن يعنون غروتوفسكي الكتاب الأساسي الذي وضعه وجمع فيه محاضراته ودروسه وحتى الحوارات التي أجريت معه بـ"نحو مسرح فقير". ولنذكر أن هذا الكتاب إنما نشر للمرة الأولى مترجماً إلى الإنجليزية، لدى ناشر دنماركي مع مقدمة كتبها بيتر بروك الذي على رغم غنى مسرحه وسيره في إنتاجات كثيرة له عكس تيار غروتوفسكي كان خلال سنوات نشاطه الأخيرة لا يتردد في إعلان تلمذته على "المعلم البولندي الوديع".

الخروج إلى العالم

أما الخروج الأول لمسرح المختبر التجريبي من بولندا، فكان عليه أن ينتظر عام 1966 حين شوهدت إنتاجات له للمرة الأولى خلال جولة طويلة شملت مدناً اسكندنافية عديدة. وبعد ذلك كان تقديمه عديداً من أعماله في "مسرح الأمم الباريسي" حيث كانت بداية حضوره على المستوى العالمي انطلاقاً من العاصمة الفرنسية بالتالي. ولقد تلت ذلك جولات واسعة النطاق شملت هولندا والمكسيك وبلجيكا وإيطاليا ويوغوسلافيا وصولاً حتى إلى إيران حين كانت لا تزال بلداً منفتحاً على العالم وفنونه. كما شملت تلك الجولة لبنان حيث تعرف غروتوفسكي في هذا البلد على حركة مسرحية "تنطق باسمه" يقودها المخرج منير أبو دبس محاطاً بفنانين شبان كانوا يعلنون انتماءهم إلى المعلم البولندي، وذلك حتى من قبل أن يكونوا شاهدوا أي عمل من إنتاجه أو قرأوا أي نص من نصوصه. كان لقاء غروتوفسكي مع "مريديه" اللبنانيين من أظرف لقاءاته، بل لا بد أنه خيب ببساطته وإعلانه "عدم تسيسه" آمال وتوقعات عدد لا بأس به منهم كما لاح عليهم حينها، بل لا بد أن يذكر كاتب هذا الكلام في هذا السياق كيف أن مسرحياً شاباً سيغيب لاحقاً عن الصورة تماماً، قال له معلقاً على ما استجد من نظرته إلى غروتوفسكي: "ألا تعتقد معي أن ماركس نفسه إن عاد إلى عالمنا سيخون بداياته؟".

في قلب نيويورك

المهم أن جولة غروتوفسكي تتابعت لتوصله في خريف عام 1969 حيث كانت بداياته تحت رعاية "أكاديمية بروكلين للموسيقى" التي تعتبر عادة من إنجازات المرحلة الروزفلتية، ولقد أسهمت هذه الأكاديمية في إيجاد موقع دائم لنشاطات غروتوفسكي المسرحية في نيويورك إذ أنشأت له مسرحاً في غرينوتش فيلدج. وهو قدم تباعاً هناك مع فرقته ثلاثاً من أول المسرحيات التي كانت مسيرته قد انطلقت بها في بداياته البولندية: "أكروبوليس" و"الأمير الصارم" و"الآبوكاليبس" التوراتي. وفي السياق نفسه لا بد أن نذكر جولة كانت بادية الأهمية في مسار غروتوفسكي وهي تلك التي كانت آخر نشاطاته الأوروبية قبل انتقاله إلى الولايات المتحدة. وهي كانت من أكثر جولاته إثارة للنقاش الجدي الذي شارك فيه كبار المسرحيين الإنجليز ورسخ للفنان البولندي تلك المكانة النظرية العالمية. ومهما يكن كانت تلك آخر سنوات الصخب العالمي من حول الرجل حيث سيواصل عمله وتجديداته بعد ذلك بهدوء تاركاً لأجيال تأتي من بعده أن تتابع مسيرته. أما هو فقد أقعده لاحقاً مرض طال معه أمده وقضى عليه عند نهاية القرن العشرين راضياً عن عمله وعما ستؤول إليه حال المسرح من بعده، ولكن غارقاً في دهشته إزاء سمعة عالمية "نخبوية" ظل يرى دائماً أنها قد أخطأت سبيلها!

المزيد من ثقافة