Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اللعب بالنار في أوكرانيا

مخاطر التصعيد الكارثي التي جرى التهوين من شأنها

دخان خلفته ضربة روسية في لفيف الأوكرانية في مارس 2022 (رويترز)

يبدو أن صناع السياسة الغربيين توصلوا إلى توافق في الرأي في ما بينهم تجاه الحرب في أوكرانيا مفاده بأن النزاع سيستقر ضمن مسار مسدود الأفق وطويل الأمد، وروسيا المنهكة في النهاية ستوافق على معاهدة سلام تخدم مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في "الناتو" ومصالح أوكرانيا معها. وعلى الرغم من إقرار المسؤولين الرسميين (الغربيين) بأن واشنطن وموسكو ربما تفاقمان الأمور لتحقيق مكاسب على الأرض، أو لتلافي الهزيمة، فإنهم يرون إمكاناً لتلافي التصعيد الكارثي. ويرى قليلون من هؤلاء أن القوات الأميركية ربما تتورط في القتال على نحو مباشر، أو أن روسيا قد تتجرأ وتستخدم الأسلحة النووية.

وتظهر الولايات المتحدة وحلفاؤها في هذا الإطار بعض العجرفة المفرطة، فعلى الرغم من إمكان تلافي التصعيد الكارثي تبقى قدرة الطرفين المتحاربين على التحكم في هذا الخطر وتجنبه غير موثوقة. فأخطار هذا الأمر أكبر بكثير مما تستوعبه الحكمة التقليدية. ولأن عواقب التصعيد قد ترتب حرباً مدمرة في أوروبا، وربما أفضت إلى إبادة نووية، فثمة سبب وجيه لقلق إضافي.

ويقتضي فهم دينامية التصعيد في أوكرانيا البدء بالنظر من كثب في أهداف طرفي النزاع. ومنذ مطلع الحرب، قامت موسكو وواشنطن برفع مستوى طموحاتهما على نحو لافت، وكلاهما الآن غدا ملتزماً التزاماً راسخاً بالانتصار في الحرب وتحقيق الأهداف السياسية الجسيمة. وبات لكل طرف بالتالي حوافز قوية لتوفير فرص النصر وتحقيق الأهداف المبتغاة وتلافي الهزيمة في المرتبة الأولى. وذاك يعني عملياً أن الولايات المتحدة ربما تنضم إلى القتال، إما على ضوء حاجتها الماسة للنصر أو لمنع هزيمة أوكرانيا. في المقابل، قد تستخدم روسيا الأسلحة النووية في حال يئست من تحقيق النصر، أو وجدت نفسها على شفير هزيمة وشيكة. وهذا أمر راجح إذا انخرطت القوات الأميركية في القتال.

وإلى هذا، وأمام إصرار كل طرف على تحقيق أهدافه، يبقى الحظ في صوغ حل توافقي مقبول ضئيلاً. فالتفكير المتطرف السائد في واشنطن وموسكو، يغذي كل طرف بمزيد من المبررات لطلب الانتصار في أرض المعركة، ليتسنى له إملاء شروطه على صيغة السلام التي تطرح في نهاية المطاف. وغياب الحل السياسي المحتمل يحفز في الواقع كل طرف على المضي في سلم التصعيد. وما يتربع على رأس السلم قد يمثل كارثة بالفعل: حجم موت وتدمير يتجاوز ما شهدناه في الحرب العالمية الثانية.

رفع سقف الطموحات

في البداية آزرت الولايات المتحدة وآزر حلفاؤها أوكرانيا لمنع روسيا من تحقيق النصر، والمساعدة في التفاوض في سبيل وقف القتال وفق صيغة مرغوبة (بالنسبة إلى أميركا والغرب). ولكن ما إن بدأ الجيش الأوكراني بضرب القوات الروسية وتكبيدها خسائر، خصوصاً حول كييف، حتى بدلت إدارة بايدن وجهتها وألزمت نفسها بمساعدة أوكرانيا في الانتصار بالحرب ضد روسيا. وهي سعت كذلك إلى إلحاق ضرر شديد بالاقتصاد الروسي عبر فرض عقوبات غير مسبوقة. وقد شرح وزير الدفاع لويد أوستن في أبريل (نيسان) الماضي أهداف الولايات المتحدة، فقال "نريد رؤية روسيا ضعيفة لدرجة تجعلها عاجزة عن القيام بأمور مماثلة لاجتياحها أوكرانيا". ووفق هذا المنطق، أعلنت الولايات المتحدة عزمها على إخراج روسيا من نادي القوى العظمى.

وربطت الولايات المتحدة سمعتها بالنتيجة التي يخلص إليها النزاع. فوصف الرئيس الأميركي جو بايدن حرب روسيا في أوكرانيا بأنها "حرب إبادة". واتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه "مجرم حرب" ينبغي أن يواجه "محكمة جرائم الحرب". ومواقف رئاسية مثل هذه تصعب علينا تصور تراجع واشنطن. فإذا انتصرت روسيا في أوكرانيا، تعرض موقع الولايات المتحدة في العالم لا محالة إلى ضربة كبيرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في المقابل، شهدت طموحات روسيا بدورها توسعاً مماثلاً. وعلى عكس الفكرة التقليدية السائدة في الغرب، لم تجتح موسكو أوكرانيا بغية احتلالها وجعلها جزءًا من روسيا عظمى. بل إن روسيا، أصلاً، كان همها منع تحول أوكرانيا إلى حصن غربي على الحدود الروسية. وخشي بوتين ومستشاروه على نحو خاص من أن تنضم أوكرانيا، في نهاية المطاف، إلى حلف "الناتو". وأوجز وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في أواسط يناير (كانون الثاني) الماضي هذه المخاوف، حين قال في مؤتمر صحافي: "المحك هو ضمانة عدم توسع الناتو شرقاً". فاحتمال انضمام أوكرانيا إلى "الناتو" يراه القادة الروس على قول بوتين نفسه قبل بدء الاجتياح، "تهديداً مباشراً للأمن الروسي"، وتقتضي مواجهته والقضاء عليه عبر خوض الحرب وتحويل أوكرانيا إلى دولة محايدة، أو إلى دولة فاشلة.

موسكو لم تجتح أوكرانيا لاحتلالها

وفي سبيل تحقيق هذه الغاية، راحت الأهداف الإقليمية الروسية تتوسع على نحو ملحوظ منذ بداية الحرب. والحق أن روسيا إلى عشية الاجتياح ظلت ملتزمة تطبيق معاهدة مينسك الثانية التي نصت على بقاء منطقة دونباس جزءًا من أوكرانيا. بيد أن روسيا في سياق الحرب سيطرت على مساحات واسعة من شرق أوكرانيا وجنوبها. وتتكاثر الأدلة على أن بوتين ينوي ضم مجمل تلك المنطقة أو معظمها إلى روسيا، ما يجعل بقية أوكرانيا مجرد دولة مسخ ومشلولة.

إلا أن الأخطار التي تتهدد روسيا اليوم باتت أكبر مما كانت عليه قبل الحرب، ومصدر الأمر عزم إدارة بايدن المعلن على إحباط مكاسب روسيا في الميدان وشل القوة الروسية بصورة دائمة. وما يزيد أمور روسيا سوءًا مبادرة فنلندا والسويد الانضمام إلى "الناتو" وتطور تسلح أوكرانيا وتوثيق تحالفها مع الغرب. وروسيا لا يمكنها تحمل الخسارة في أوكرانيا وسوف تلجأ إلى كل السبل المتاحة لتلافي الهزيمة. ويبدو بوتين واثقاً من أن روسيا سوف تنتصر في حربها على أوكرانيا وداعميها الغربيين. وفي هذا السياق قال الرئيس الروسي مطلع يوليو (تموز) "نسمع اليوم أنهم يريدون إلحاق الهزيمة بنا في أرض المعركة. ماذا يمكن القول إزاء ذلك؟ فليجربوا! أهداف العملية العسكرية الخاصة سوف تبلغ. ما من شك في هذا".

أما أوكرانيا، من جهتها، فأهدافها هي أهداف إدارة بايدن، والأوكرانيون عازمون على استعادة أراضيهم التي سيطرت عليها روسيا، بما فيها شبه جزيرة القرم، وروسيا ضعيفة أقل تهديداً لأوكرانيا. والأوكرانيون يبدون واثقين من قدرتهم على إحراز النصر، على ما أوضح وزير دفاعهم أوليكسي ريزنيكوف في منتصف يوليو (تموز) حين قال: "يمكن بالتأكيد إلحاق الهزيمة بروسيا، وقد أظهرت أوكرانيا سلفاً كيفية ذلك". ويظهر أن نظيره الأميركي متيقن من ذلك. "دعمنا (لأوكرانيا) يحدث فرقاً حقيقياً في ميدان المعركة"، قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في كلمة أدلى بها في أواخر يوليو. وتابع: "تظن روسيا أن في وسعها الصمود أكثر من أوكرانيا وأكثر منا. وليس هذا سوى فصل آخر من فصول الحسابات الخاطئة الروسية".

تهديدات "الناتو" لروسيا باتت اليوم أكبر مما كانت عليه قبل الحرب.

تجمع كييف وواشنطن وموسكو على إحراز النصر على العدو. ولا يبقي هذا سوى مجال ضئيل لحل توافقي. فلا أوكرانيا ولا الولايات المتحدة على استعداد مثلاً للقبول بأوكرانيا محايدة، بل إن أوكرانيا توثق صلتها يوماً بعد يوم بالغرب. أما روسيا، فلا تبدو مستعدة على الأرجح لإعادة جميع الأراضي الأوكرانية التي سيطرت عليها أو معظمها، خصوصاً أن العداوات التي أججت النزاع في منطقة دونباس بين الانفصاليين المؤيدين لروسيا وبين الحكومة الأوكرانية على مدى الأعوام الثمانية الماضية، غدت اليوم أكثر حدة مما كانت عليه في أي وقت مضى.

وتفسر المصالح المتناقضة سبب اعتقاد مراقبين كثيرين بأن المفاوضات على حل توافقي لن تحصل قريباً، وتوقعهم مأزقاً دامياً. وهم محقون في ذلك. بيد أن المراقبين هؤلاء، في الوقت ذاته، يستهينون باحتمال تصعيد كارثي مرهون بطول أمد الحرب في أوكرانيا. وثمة، في هذا الإطار، ثلاثة سبل أساسية لتفاقم الأحداث، تلك الظاهرة المتأصلة في سير الحروب، وهذه السبل هي قيام أحد طرفي الحرب أو الطرفين معاً، بتصعيد الأمور عمداً بهدف تحقيق النصر، أو اضطلاع أحد طرفي الحرب أو الطرفين معاً بالتصعيد لتلافي الهزيمة، أو تفاقم القتال تلقائياً وعن غير قصد. ويتضمن كل سبيل من تلك السبل احتمال جر الولايات المتحدة إلى القتال، أو احتمال دفع روسيا إلى استخدام أسلحة نووية، أو حتى كلا الاحتمالين المذكورين معاً.

أميركا على أرض المعركة

ما إن قدرت إدارة بايدن إمكان إنزال الهزيمة بروسيا في أوكرانيا، حتى عمدت إلى إرسال مزيد من الأسلحة (بما فيها الفتاكة) إلى كييف. وبدأ الغرب يزيد قدرات أوكرانيا الدفاعية عبر إرسال أسلحة من أنظمة "هيمارس" لإطلاق الصواريخ المتعددة، إضافة إلى الأسلحة "الدفاعية" مثل صواريخ "جافلين" المضادة للدبابات. وتزايدت مع الوقت كميات الأسلحة وتعاظمت قوة فتكها. وتنبغي الملاحظة أن واشنطن في شهر مارس (آذار)، كانت نقضت خطة لإرسال طائرات "ميغ 29" من بولندا إلى أوكرانيا بحجة أن الأمر قد يؤجج القتال. لكنها في يوليو، لم تبد اعتراضاً عندما أعلنت سلوفاكيا درس إرسال الطائرات ذاتها إلى كييف. وتفكر الولايات المتحدة اليوم في منح طائرات من طرازي "أف 15" و"أف 16" إلى أوكرانيا.

 

 

وتقوم الولايات المتحدة وحلفاؤها بتدريب الجيش الأوكراني وبتزويده بمعلومات استخبارية دقيقة يستخدمها لتدمير أهداف روسية أساسية. وإلى هذا، وبحسب تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز"، يدير الغرب "شبكة خفية من قوات الكوماندوس والجواسيس" على الأرض الأوكرانية. وربما لم تنخرط واشنطن في القتال بعد، لكنها ضالعة في الحرب إلى عنقها. وهي الآن قاب قوسين من إصدار الأمر لجنودها بالضغط على الزناد ولطياريها بتنفيذ المهمات. ويمكن للجيش الأميركي أن ينخرط في القتال بأشكال مختلفة. ويمكن في هذا الإطار تصور وضع تستمر فيه الحرب سنة أو أكثر من دون أن يظهر في الأفق حل دبلوماسي، أو مسار عملي يؤدي إلى نصر أوكراني. وقد تحتاج الولايات المتحدة، في هذا الوقت، إلى إنهاء الحرب، ربما لأنها تحتاج إلى التركيز على احتواء الصين، أو لأن كلف دعم أوكرانيا الاقتصادية تلد مشكلات سياسية داخل أميركا وأوروبا. وفي ظل تلك الظروف، أمام صناع السياسة الأميركيين كل المبررات للتفكير جدياً في اتخاذ خطوات أكثر خطورة، مثل فرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا، أو إدخال مجموعات صغيرة من الجنود الأميركيين إلى الميدان لمساعدة أوكرانيا في إلحاق الهزيمة بالجيش الروسي.

والسيناريو الأرجح لتدخل القوات الأميركية قد يجوز إذا بدأ الجيش الأوكراني بالانهيار وبدت روسيا قريبة من تحقيق نصر حاسم. وفي هذه الحال، وإزاء التزام إدارة بايدن القوي بالحؤول دون نتيجة كهذه، قد تحاول الولايات المتحدة قلب الأمور رأساً على عقب عبر مشاركتها مباشرة في القتال. ويتصور المرء من دون عناء المسؤولين الأميركيين وهم يقولون إن سمعة بلادهم على المحك ويقنعون أنفسهم بأن الاستخدام المحدود للقوة العسكرية قد ينقذ أوكرانيا من غير أن يحمل بوتين على استخدام الأسلحة النووية. أما السيناريو البديل، فربما يكون بتنفيذ أوكرانيا بعد بلوغها موقفاً يائساً، هجمات واسعة النطاق على المدن والبلدات الروسية، أملاً في أن يدعو التصعيد روسيا إلى القيام برد فعل كبير يجبر الولايات المتحدة أخيراً على الاشتراك في القتال.

والسيناريو الأخير للتدخل الأميركي المباشر ينطوي على تصعيد غير متعمد: وهذا يعني أن واشنطن، عن غير قصد، تستدرج إلى الحرب بواسطة حدث مفاجئ يتداعى من تلقائه. فربما تتصادم الطائرات الحربية الأميركية والروسية التي تتقارب طلعاتها في أجواء فوق بحر البلطيق عن طريق الخطأ. وحادثة كهذه من شأنها أن تخلف آثاراً تعصى السيطرة نظراً إلى مستوى الخوف عند الطرفين وغياب التواصل والتنسيق والموقف العدائي المتبادل.

أو ربما تغلق ليتوانيا طريق البضائع الخاضعة للعقوبات والعابرة عبر أراضيها وآتية من روسيا إلى كالينينغراد، المنطقة الروسية المعزولة والمفصولة عن بقية البلاد. وكانت ليتوانيا قامت بهذا الأمر في منتصف يونيو (حزيران)، ثم تراجعت بعد إعلان موسكو من غير لبس أنها في صدد اتخاذ "خطوات قاسية" لإنهاء ما اعتبرته حصاراً غير مشروع. بيد أن وزارة الخارجية الليتوانية امتنعت عن رفع الحصار كلياً. ولما كانت ليتوانيا عضواً في حلف "الناتو"، فإن دفاع الولايات المتحدة عنها في حال تعرضت لهجوم روسي، شبه مؤكد. تحت إلحاح وقف تقدم القوى الغربية في أوكرانيا قد تهاجم روسيا دولة من دول "الناتو".

أو ربما دمرت موسكو مبنى في كييف، أو موقع تدريب في مكان ما بأوكرانيا، وقتلت عن غير قصد عدداً كبيراً من الأميركيين العاملين في الإغاثة أو عملاء استخبارات أو مستشارين عسكريين. حينها قد تقدر إدارة بايدن، على وقع السخط في الولايات المتحدة، وجوب الرد، فتهاجم أهدافاً روسية ويؤدي الأمر إلى تبادل الطرفين الضرب.

وأخيراً ثمة احتمال في أن يتسبب القتال في جنوب أوكرانيا بإلحاق أضرار بمفاعل زابوريجيا النووي الذي تسيطر عليه القوات الروسية ويعد الأكبر في أوروبا، وتبلغ الأضرار حداً يؤدي إلى تسرب الإشعاعات في أنحاء المنطقة، فيستدعي الأمر رداً روسياً من الصنف ذاته. وكان ديمتري ميدفيديف، الرئيس الروسي ورئيس الوزراء الأسبق، رد على الاحتمال بقوله في أغسطس (آب) "لا تنسوا أن هناك مواقع نووية أيضاً داخل أراضي الاتحاد الأوروبي. والحوادث واردة هناك كذلك". فإذا هاجمت روسيا مفاعلاً نووياً أوروبياً، فمن شبه المؤكد أن تدخل الولايات المتحدة القتال في الحال.

وربما تبادر موسكو إلى التصعيد بدورها. ولا يمكن استبعاد مهاجمة روسيا تحت وطأة شعورها بضرورة قطع الطريق على تدفق المساعدات العسكرية الغربية على أوكرانيا، الدول التي تمر عبرها تلك المساعدات بمعظمها، مثل بولندا أو رومانيا، البلدين العضوين بحلف "الناتو". وثمة احتمال أن تنفذ روسيا هجوماً سيبرانياً كبيراً على بلد أوروبي، أو على بلدان عدة داعمة لأوكرانيا، فيتسبب الهجوم بإلحاق أضرار كبيرة في البنى التحتية للبلد أو البلدان. وقد يحفز هجوم كهذا الولايات المتحدة على شن هجوم سيبراني مضاد على روسيا. وإذا نجح الهجوم المضاد فقد ترد موسكو عسكرياً. وإذا فشل فقد ترى واشنطن أن الطريقة الوحيدة لمعاقبة روسيا تقتضي ضربها مباشرة. ومثل هذه السيناريوهات تبدو بعيدة المنال ومتطرفة، لكنها غير مستبعدة. وهي ليست سوى مسارات من مسارات كثيرة ربما تسلكها الحرب التي تبدو إلى اليوم حرباً محلية، فتتحول إلى نزاع أوسع وأشد خطورة.

نحو الخيارات النووية

على الرغم من إلحاق روسيا أضراراً هائلة بأوكرانيا، لا تزال عازفة عن مزيد من التصعيد في سبيل إحراز الانتصار في الحرب. ولم يزد بوتين حجم قواته بواسطة تجنيد واسع النطاق. ولم يستهدف شبكة الكهرباء الأوكرانية، الأمر اليسير نسبياً ويلحق ضرراً كبيراً بأوكرانيا. والحق أن روساً كثيرين حملوه (بوتين) مسؤولية ضبط نطاق الحرب والإحجام عن القيام بهجمات أعنف. ولحظ بوتين هذه المواقف النقدية، لكنه أعلن بوضوح عن استعداده للتصعيد عند الضرورة. "نحن في الحقيقة لم نبدأ بالأمور الجدية بعد"، قال في يوليو مشيراً إلى أن روسيا يمكنها القيام بالمزيد، وستفعل ذلك في حال تردي الوضع العسكري. وماذا عن الشكل الأقصى لتصعيد كهذا؟ ثمة ثلاث أحوال ربما يلجأ بوتين فيها إلى الأسلحة النووية. الحال الأولى هي اشتراك الولايات المتحدة وحلفائها في "الناتو" في القتال المباشر. وهذا التطور لا يقلب الميزان العسكري ضد روسيا ويرجح احتمالات هزيمتها فحسب، بل يعني أن على روسيا أن تخوض مواجهة على حدودها ضد قوة عظمى قد تنتشر على أراضيها. وقد يرى القادة الروس أن مصيرهم على المحك، ما يمنحهم حافزاً قوياً على استخدام الأسلحة النووية لإنقاذ الوضع. وهم، على أقل تقدير، ربما يفكرون في شن هجمات غايتها إقناع الغرب بالتراجع. ويبقى من المستحيل أن نعرف مسبقاً إن كانت هذه الخطوة تؤدي إلى إنهاء الحرب أو إلى تصعيد يخرج عن السيطرة.

في خطاب 24 فبراير (شباط) الذي أعلن فيه قرار اجتياح أوكرانيا، أشار بوتين بوضوح إلى إمكان لجوئه إلى السلاح النووي إذا دخلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الحرب. وقال متوجهاً لـ"أولئك الذين ربما يغريهم التدخل" إنه "عليهم أن يدركوا بأن روسيا سترد على الفور، والعواقب ستكون غير مسبوقة في تاريخهم كله". وتحذيرات بوتين تلك توقفت عندها أفريل هاينس، مديرة الاستخبارات الوطنية الأميركية، فتوقعت في شهر مايو (أيار) أن يستخدم بوتين الأسلحة النووية إذا قام "الناتو" "بالتدخل أو اقترب من التدخل"، وذلك، في شطر كبير منه، سببه "إسهام هذا الأمر (التدخل الأميركي) في بث فكرة اقترابه من خسارة الحرب في أوكرانيا".

هناك ثلاث حالات يمكن لبوتين فيها اللجوء إلى استخدام الأسلحة النووية.

وفي السيناريو النووي الثاني تقليب أوكرانيا، من تلقائها ومن دون تدخل الولايات المتحدة المباشر، مجريات الأمور على أرض المعركة. وفي حال باتت القوات الأوكرانية على وشك إلحاق الهزيمة بالجيش الروسي واستعادة الأراضي التي خسرتها، فمن شبه المؤكد أن تعتبر موسكو الأمر تهديداً وجودياً لها، ويستدعي رداً نووياً. فبوتين ومستشاروه شعروا بقلق حاد جراء ازدياد تنسيق كييف مع الغرب. ودعاهم هذا إلى مهاجمة أوكرانيا على الرغم من تحذيرات الولايات المتحدة وحلفائها من العواقب الوخيمة التي ستواجهها إن أقدمت على الهجوم. وعلى نحو يختلف عن السيناريو الأول، فإن موسكو ستستخدم الأسلحة النووية، ليس في سياق حرب ضد الولايات المتحدة، بل ضد أوكرانيا. وهي ستفعل ذلك من دون خوف كبير من رد نووي، فكييف لا تملك أسلحة نووية، وما من مصلحة لواشنطن في حرب نووية.

وغياب التهديد الواضح والصريح بالرد يسهل على بوتين التفكير في استخدام السلاح النووي. وفي السيناريو الثالث، تستقر الحرب على توازن ثابت ومديد ليس له حل دبلوماسي قريب، وتثقل كلفتها على موسكو. وتحت ضغط إنهاء الصراع بشروط مؤاتية له، ربما يعمد بوتين إلى التصعيد النووي بغية تحقيق النصر. وكما هي الحال في السيناريو السابق، وهو يقضي بالتصعيد تلافياً للهزيمة، يستبعد الرد النووي الأميركي على الأرجح. وفي السيناريوهين يرجح أن تقوم روسيا باستخدام أسلحة نووية تكتيكية ضد مجموعة صغيرة من الأهداف العسكرية، كخطوة أولى على الأقل. ويمكنها، في هجمات لاحقة، ضرب بلدات ومدن عند الضرورة. وتحقيق المكاسب العسكرية قد يكون أحد أهداف استراتيجية موسكو، لكن الهدف الأكثر أهمية يبقى تصويب ضربة تغير قواعد اللعبة وتخلق في الغرب الرعب الذي يدفع الولايات المتحدة وحلفاءها إلى المسارعة في إنهاء النزاع بشروط مؤاتية لروسيا. فلا عجب في تعليق مدير الـ "سي آي إي" (وكالة الاستخبارات الأميركية) ويليام بيرنز في أبريل الماضي حين قال: "لا أحد يمكنه الاستخفاف بخطر احتمال اللجوء إلى الأسلحة النووية التكتيكية أو الأسلحة النووية المنخفضة القوة".

مداعبة الكارثة  

يمكن للمرء أن يرى أنه على الرغم من إمكان تحقق أحد هذه السيناريوهات نظرياً، إلا أن احتمالات وقوعها تبقى ضئيلة عموماً، فينبغي ألا تبعث قلقاً كبيراً. ولدى القادة من كل الأطراف، حوافز قوية لإبقاء الأميركيين خارج القتال المباشر وتلافي حتى الاستخدام المحدود للأسلحة النووية، وتلافي الحرب النووية الفعلية، طبعاً.

لكن لو يسع المرء أن يكون متفائلاً فحسب! والحق أن وجهة النظر التقليدية تقلل كثيراً من مخاطر التصعيد في أوكرانيا. وللمبتدئين يمكن القول إن الحروب تنحو نحو منطق خاص بها، ما يصعب استشراف وجهتها. وكل من يدعي معرفة واثقة بالمسار الذي ستسلكه الحرب في أوكرانيا مخطئ. فديناميات التصعيد في أزمنة الحروب تبقى بالغة الاستعصاء على من يحاول استشرافها أو الإلمام بها. وقد يمثل هذا تحذيراً لأولئك الواثقين من أن الأحداث في أوكرانيا ستبقى قابلة للضبط. وعلى ما لاحظ المنظر العسكري البروسي كارل فون كلاوشفيتس، تشجع القومية جنوح الحروب الحديثة إلى الأقاصي، خصوصاً عندما تكون رهانات المحاربين مرتفعة. وليس معنى هذا أن الحروب تعصى التقييد والبقاء ضمن حدود معينة، بل معناه أن ذلك ليس أمراً سهلاً.

وأخيراً، ونظراً إلى الكلف الباهظة لحرب نووية عظمى، فمجرد احتمال صغير لوقوعها ينبغي أن يدفع الجميع إلى التفكير ملياً وعميقاً في الوجهة التي قد يسلكها هذا النزاع.

والظروف العصيبة حوافز قوية للعثور على حلول دبلوماسية للحرب. ولسوء الحظ لا يظهر في الأفق حتى الآن أي حل سياسي لتمسك الطرفين بأهدافهما الحربية التي يستحيل معها الوصول إلى توافق. وكان على إدارة بايدن العمل مع روسيا لحل الأزمة الأوكرانية قبل اندلاع الحرب في فبراير الماضي. وفات الآوان الآن للتوصل إلى حل. وروسيا وأوكرانيا والغرب جميعاً عالقون في موقف فظيع من دون مخرج واضح. ولا يمكن للمرء إلا أن يأمل في تمكن القادة على طرفي النزاع من ضبط الحرب ضمن سبل تتلافى التصعيد الكارثي. وهذا عزاء ضئيل لعشرات ملايين الناس الذين باتت حياتهم على المحك.

*جون ج. ميرشايمر أستاذ بارز في كرسي ر. ويندل هاريسون للعلوم السياسية في جامعة شيكاغو  

مترجم من فورين أفيرز، أغسطس (آب) 2022

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل