Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

داخل "أولينفكا" معسكر الاعتقال الروسي حيث يتبدد أثر الأوكرانيين

المفقودون: الشهر الماضي، لقي أكثر من خمسين شخصاً مصرعهم في هجوم على أولينفكا. وكان آخر فصل في سلسلة طويلة من الفظائع التي شهدها مخيم الاعتقال، حيث وجدت "اندبندنت" أدلة على ارتكاب جرائم حرب مشتبه فيها تتضمن التعذيب والاختفاء القسري والعمالة بالسخرة

دعت منظمات حقوق انسان إلى تحقيق طارئ في المعلومات المسربة (اندبندنت)

 في حقل ضربه الصقيع، أعطى الجنود الانفصاليون رفشاً لكل واحد من سجنائهم الأوكرانيين الثلاثة وأمروهم بحفر قبورهم.

أوقف الرجال الثلاثة -وهم متطوعو إغاثة إنسانية- عند حاجز تفتيش أثناء محاولتهم إنقاذ بعض أفراد أسرهم من مدينة ماريوبول المحاصرة، ثم اقتادهم جنود من جمهورية دونيتسك الشعبية المدعومة من روسيا، بعد أن عصبوا أعينهم، نحو مساحة نبش فيها التراب حديثاً قرب صليبين مصقولين.

ويقول أركادي، المتسلق المحترف البالغ من العمر 31 سنة، وهو يشرح بداية محنته في شهر مارس (آذار) "أخبرونا أن الرجلين المدفونين هناك قالا أيضاً إنهما متطوعان ولكن بعد تفتيش هواتفهما الجوالة، تبين أنهما من الجيش [الأوكراني]".

اختفى أركادي بعدها لأكثر من 100 يوم في سجن غير معروف كثيراً في ذلك الحين اسمه أولينفكا.

ويتابع الرجل بصوت مرتجف "لم يشرحوا لنا ما حصل مع الأشخاص المدفونين هناك، بل أخذوا يرددون باستمرار (ذانك الرجلان نائمان الآن، استمروا بالحفر)".

وقعت هذه الحادثة بعد أسابيع قليلة فقط من غزو فلاديمير بوتين لأوكرانيا. ويقول أركادي، المتحدر من ماريوبول، إنه وصديقيه كانوا بصدد القيام برحلتهم الثانية داخل المدينة الساحلية الاستراتيجية من أجل إنقاذ أقارب لهم.

وبعد أن أوقفهم الجنود اقتيدوا إلى منزل مهجور حيث تعرضوا للضرب وأرغموا على النوم داخل حفرة في العراء بينما انخفضت درجات الحرارة إلى ما دون الصفر، وتعرضوا للتجويع، وأجبروا على قضاء يومين في حفر قبورهم.

ويضيف "لم يتوقفوا عن تهديدنا بالقتل، لم نكن نعلم إن كانوا سينفذون وعيدهم. واستمررنا بالحفر".

في النهاية، نجوا من الإعدام لكن في المقابل غطيت رؤوسهم وكبلت أيديهم وضربوا ونقلوا بين عدد من مراكز اعتقال الظروف فيها مزرية وشديدة الازدحام.

وقد احتجزوا في نهاية المطاف في أولينفكا، جنوب مدينة دونيتسك المحتلة.

وكان بين آلاف السجناء من الرجال والنساء المحتجزين في مركز الاعتقال خلال فترة الصراع حتى الآن، الجنود الأوكرانيون الذين استسلموا لروسيا في مايو (أيار) بعد مواجهة في معمل أزوفستال للصلب في ماريوبول، ومن بينهم المواطن البريطاني جون هاردينغ، بحسب رواية الشهود.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لم تكن المنشأة المتردية المترامية الأطراف معروفة دولياً حتى صباح 29 يوليو (تموز)، حين دوى فيها انفجار قتل فيه 50 سجين حرب أوكرانياً في أقل تقدير، وقد تبادلت روسيا وأوكرانيا الاتهامات في شأن هذا الهجوم.

ويقول السجناء المدنيون إن اتصالهم بالعالم الخارجي قد قطع فور إلقاء القبض عليهم.

ويضيف أركادي، الذي أطلق سراحه منذ أسابيع قليلة "لم تعلم أمي أي شيء [عني] طيلة شهر تقريباً". ولم تكتشف الموضوع سوى عن طريق شخص آخر أطلق سراحه، على ما قال لاندبندنت.

ومن جهة أخرى، اعتقل أيضاً أوليكسي، رئيس إحدى شركات تكنولوجيا المعلومات، بشكل منفصل، أثناء محاولته إنقاذ مدنيين من ماريوبول. ويقول إنه فقد الاتصال بعائلته "منذ أول يوم". ويضيف "لم توجه إلينا قط أي تهمة رسمية. اختفينا ببساطة".

ادعاءات مقلقة للغاية

كررت روسيا عدة مرات نفيها القاطع قيام أي من قواتها أو القوات الانفصالية التي تدعمها بانتهاك القانون الدولي في أوكرانيا. وقد اتهمت كييف في المقابل بتدبير جرائم حرب ظاهرية [شكلية] لتلطيخ سمعة موسكو وكسب الدعم الغربي.

ولكن التحقيق الذي قامت به "اندبندنت" طوال شهر كامل كشف عن أدلة تشير إلى احتمال وقوع انتهاكات للقانون الدولي، كما جرائم حرب محتملة، تشمل التعذيب والاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والعمالة بالسخرة.

وأجرت "اندبندنت" أكثر من 12 مقابلة مع معتقلين مدنيين أفرج عنهم في الآونة الأخيرة ومع أفراد عائلات أشخاص يعتقد أنهم لا يزالون في الأسر في أولينفكا، إضافة إلى ناشطين تعرضوا للاعتقال والتعذيب في مراكز اعتقال في مدن جنوبية أخرى، ومسؤولين أوكرانيين، ومجموعات حقوقية دولية ومحلية تتابع قضية المفقودين.

وتشكك هذه الشهادات في نسخة أحداث التاسع والعشرين من يوليو، كما طرحتها موسكو: مفادها [السردية هذه] أن أوكرانيا قصفت سجناء الحرب من مواطنيها في أولينفكا بالصواريخ كي لا يفشوا الجرائم التي ارتكبتها كييف.

وقال آلان هوغارث، رئيس وحدة السياسة والشؤون الحكومية في فرع منظمة العفو الدولية في المملكة المتحدة، إن الشهادات تضمنت "ادعاءات مقلقة للغاية" في شأن أفعال يرجح أن تعتبر في حال ثبوت صحتها جرائم حرب.

وأضاف السيد هوغارث "على السلطات العسكرية الروسية أن تحقق فيها فوراً. بموجب معاهدات جنيف يجب معاملة المقاتلين المأسورين [الواقعين في الأسر] وغيرهم من الأشخاص الذين يتمتعون بالحماية بإنسانية في كل الأوقات".

"وتشكل كل حالات الإخفاء القسري، والحرمان من الطعام والشراب، والعمالة بالسخرة، وطبعاً، أي نوع من سوء المعاملة الجسدية، انتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي ويرجح أن تعتبر جرائم حرب".

"نشعر بقلق شديد إزاء هذه التقارير المريعة، واحتمال ارتكاب روسيا وعملائها في جمهورية دونيتسك الشعبية جرائم حرب على نطاق واسع بحق مئات -أو ربما أكثر- السجناء المحتجزين في ظروف رهيبة".

لم تعلق منظمة هيومن رايتس ووتش بشكل مباشر على نتائج التحقيق، ولكنها وثقت عشرات حالات التعذيب والاحتجاز غير القانوني والاختفاء القسري لمدنيين في جنوب البلاد المحتل.

وقالت رايتشل دنبر، نائب مدير قسم أوروبا وآسيا الوسطى في المنظمة، إن قوانين الحرب تفسح المجال أمام الأطراف المتحاربة باحتجاز المدنيين في مركز اعتقال غير جنائية إن كانوا يمثلون خطراً أمنياً حقيقياً عليها، ولكن ذلك لا "يطلق يد" هذه الأطراف لكي ترتكب الاعتداءات.

لا يعرف كثير عن أولينفكا -إذ يحيط التكتم الشديد بالمعلومات المتعلقة بالمكان- ولكن يبدو أن ما معدله نحو 2500 أوكراني يحتجزون داخل المنشأة في الوقت نفسه. وبحسب المسؤولين والمعتقلين شيد السجن لكي يستوعب نصف هذا العدد من الأشخاص.

وأعلنت ليودميلا دنيسوفا، مفوضة حقوق الإنسان السابقة في أوكرانيا، أنه في إحدى المراحل ربما اعتقل خمسة آلاف مواطن هناك. ومن بينهم نحو 1500 مدافع عن ماريوبول، ممن ألقوا سلاحهم في مايو، وفقاً لقائد كتيبة آزوف السابق، أركادي زورين.

وقد علمت "اندبندنت" أن المركز يضم حالياً نحو 100 مدني معتقل، من بينهم سيدة حامل، قبض عليهم جميعاً عند نقاط التفتيش أو إبان ما يسمى "عملية الفرز" داخل ماريوبول وحولها.

 

وقال ثلاثة معتقلين سابقين قابلناهم إنهم التقوا لفترة وجيزة في مايو المواطن البريطاني جون هاردينغ، وتحدثوا إليه، وهو يتحدر في الأصل من سندرلاند، وكان يحارب مع كتيبة آزوف حين ألقى وكلاء الروس القبض عليه. وأضافوا أنه بدا مرتكباً وأنه يعاني فقدان الذاكرة بسبب وقوع انفجار قبل القبض عليه بقليل.

تعرض السجناء السابقون الأربعة الذين تحدثنا إليهم للضرب والاستجواب عدة مرات فور وصولهم، ومنعوا من الحصول على كمية كافية من الطعام والماء، وأرغموا على العيش في زنازين شديدة الازدحام والقذارة، من دون كهرباء أو مياه جارية في عز الشتاء.

كما قالوا إنهم أجبروا على تجديد عدة أقسام من المنشأة من دون مقابل، وهو ما قد يرقى إلى العمالة بالسخرة، التي قد تعتبر جريمة إضافية.

ووصفوا مشاهدتهم عمليات ضرب أسرى الحرب العسكريين بقضبان حديدية وعصي خشبية وبأعقاب البنادق، فيما وضع أحد المعتقلين المدنيين في العزل الانفرادي "التأديبي" لمدة ثلاثة أيام بسبب تساؤله عن سبب احتجازه.

سلطت الأضواء على أولينفكا بسبب انفجار 29 يوليو الذي أودى بحياة 53 جندياً، وفقاً لروسيا، كان معظمهم قد استسلم في مايو بعد حصار دام 80 يوماً لمصانع أزوفستال الكبيرة للحديد والصلب.

 ألقت روسيا بمسؤولية وفاة الجنود على أوكرانيا، إذ زعمت بأن كييف استخدمت راجمة صواريخ المدفعية عالية الحركة [الدقة والسرعة] "هيمارس"، التي أمدتها بها الولايات المتحدة، في محاولة لكم أفواه قواتها ومنعها من كشف الجرائم المزعومة التي ارتكبتها.

بيد أن الأوكرانيين قالوا إنه هجوم "مزيف هدفه تلفيق تهمة" لكييف وتشويه سمعتها وإخفاء الاعتداءات التي ارتكبتها روسيا ووكلائها بحق المدنيين الأوكرانيين المحتجزين داخل السجن.

ويؤيد المسؤولون الأميركيون هذا الطرح، فيقولون للوسائل الإعلامية إن المعلومات الاستخباراتية تبين قيام موسكو بجمع أدلة ملفقة لتوريط أوكرانيا. وأعلن أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن تشكيل بعثة لتقصي الحقائق لكي تنظر في الحادثة، ولكن الأمل ضئيل في كشف الحقيقة [وتبيان ما حصل فعلاً].

ومن جهتها، أعلنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر الأسبوع الماضي أنه لم يسمح لها بعد بالتواصل مع أسرى الحرب الذين تضرروا من الهجوم على أولينفكا. وسمح لموظفي اللجنة بزيارة الموقع مرتين في مايو، ولكن اللجنة قالت إنه لم يسمح لها بالتواصل مباشرة وفردياً مع سجناء الحرب، وهذا حق مكرس في معاهدة جنيف.  

 ويروي فيليب، وهو أحد السجناء المدنيين السابقين في أولينفكا أيضاً "أذكر زيارة الصليب الأحمر مرة، ولكن لم يسمح لهم سوى بالتجوال في الأقسام التي جددناها وأعدنا بناءها".

ويضيف أركادي أنهم أجبروا على تنظيف السجن قبيل قدوم الزائرين "المميزين". "أثناء زيارة الصحافيين أو الصليب الأحمر، كنا نحصل على طعام مناسب خلافاً للعادة. وكان من الضروري أن يكون كل شيء براقاً".

"يقتادونك إلى هذا المكان ويحطمونك"

سماها سجناء أولينفكا "حفلة الترحيب". بعد وضع شريط لاصق على أعينهم، وأكياس قمامة على رؤوسهم، كانوا يسحبون إلى قبو في بلدة ستاروبيشيف الواقعة على بعد 18 ميلاً تقريباً إلى جنوب شرقي أولينفكا.

وهناك، وفي أوج الشتاء، كانوا يرغمون على الركوع في وضعية تسبب الإجهاد على الأسمنت المتجمد لمدة ساعة ونصف الساعة. ويقول ثلاثة مدنيين أجرت معهم "اندبندنت" مقابلات إنهم تعرضوا لضرب مبرح وأوشكوا على فقدان الوعي فيما كان الجنود الروس يستجوبونهم ويشتمونهم وهم يصيحون بهم.  

أحياناً كان الجنود يضغطون بفوهات بنادقهم الباردة على رؤوسهم، ويهددون بإطلاق النار. ووفقاً لروايات المعتقلين السابقين فإن معظم الذين ألقي القبض عليهم عند نقاط التفتيش حول ماريوبول على يد القوات الروسية وقوات الانفصاليين تعرضوا لهذه المعاملة قبل اقتيادهم في النهاية إلى أولينفكا، حيث أجبروا مجدداً على الخضوع لـ"حفلة ترحيب" أخرى.

ويشرح أوليكسي الذي اعتقل أولاً في 28 مارس عند نقطة تفتيش قرب نيكولسكي، عند المدخل الشمالي الغربي لماريوبول ما حصل، "هي بمثابة استقبال لنا. تناهت إلى مسامعنا أصوات النيران وكانوا يهددوننا بالأسلحة".

ويضيف فيتالي، سائق شاحنة انضم إلى أوليكسي في اليوم السابق لانطلاقهما في رحلتهما المشؤومة "أحياناً كنا نسمع صراخ الآخرين وهم يتعرضون للتعذيب، وقالوا لنا (سنقتلع منكم [سوف نثنيكم عن] الرغبة بالتطوع)".

أما فيليب، الذي عمل في ريادة الأعمال قبل الحرب، فاعتقل على حدة في يوم احتجاز فيتالي وأوليكسي أثناء محاولته مغادرة ماريوبول مع مدنيين أنقذهم. ويصف تعرضه للضرب نفسه من المعاملة.

ويقول إنه بعد مرور شهر على اعتقاله في أولينفكا، وضع في الحبس الانفرادي لمدة ثلاثة أيام في الطابق الأرضي من "ديزو"، وهو مبنى "تأديب" من طابقين يقع في الزاوية الجنوبية الشرقية للمنشأة.

وهناك تعرض فيليب للضرب والتجويع، كما يقول. ويضيف، "يقتادونك إلى هذا المكان لإذلالك وتحطيمك. ظللت أسأل الحراس، ما الذي فعلته؟ أنا لا أعلم لماذا أنا موجود هنا. أنا مدني، لم توجه إليَّ أبداً أي تهمة رسمية باقتراف أي جرم".

 

يروي الرجال الأربعة أنه على الرغم من الاعتداءات التي تعرضوا إليها، تعتبر المعاملة التي تلقوها أفضل بكثير من تلك التي حظي بها الجنود الأوكرانيون.

ويشير أوليكسي، في وصفه الهجمات الشرسة التي كان أسرى الحرب ينهارون على أثرها، "قبل قدوم كتيبة آزوف في مايو كان أسرى الحرب يتعرضون للضرب أمام أعيننا، ورأينا مدى سوء الوضع".

بعد وصول المئات من مقاتلي كتيبة آزوف، نقلت غرف التعذيب إلى ديزو. ويتابع أوليكسي بقوله "أخبرونا بأنهم سيضربونهم بالبنادق والأرجل والعصي الخشبية والقضبان المعدنية، بأي وسيلة توفرت لهم".

أقله عرفت بأنه على قيد الحياة"

ناموا ليلاً وهم محشورون، إذ وضع 20 أو حتى 50 شخصاً أحياناً في زنازين صممت لكي تتسع لستة سجناء ليس إلا. وقال السجناء إنهم كانوا يجلسون القرفصاء على الأرضية الأسمنتية، ويتناوبون على فترات الاستراحة.

وكان في زاوية الغرفة التي لم يطفأ فيها النور مطلقاً مرحاض السجن، لكن بما أن المياه الجارية كانت مقطوعة عن أولينفكا في ذلك الحين، كان المرحاض مجرد حوض صرف صحي مليء يفيض بالقاذورات.

في البداية، قدم لهم ليتران من مياه الشرب فقط وقطعة من الخبز لكي يتشاركوها بينهم، كما يقول أوليكسي، ولذلك اضطروا للجوء إلى الابتكار.

وهو يضيف "استطعنا أن نؤمن قارورة مياه بلاستيكية إضافية. وكلما سنحت لنا الفرصة، عندما نرسل للعمل، كنا نملأها بمياه نسرقها".

يروي السجناء الأربعة بأن أولينفكا كانت خربة مهجورة لدى وصولهم إليها. ويشرح فيليب "عندما وصلنا إلى أولينفكا لم يكن فيها أي أسرة أو أدوات للطبخ، وقلة من المباني كانت فيها نوافذ، أما الجدران فمحطمة والكهرباء مقطوعة. كانت كابوساً في البرد والصقيع".

وتابع بقوله، "جعلنا الحراس عندها ندهن جدران الثكنة ونوافذها، وننظف الزنازين ونصب الأسمنت على الجدران والأرض".

ويقول فيليب إن أول مشروع عملوا عليه هو إصلاح قسم من السجن سمي "الثكنة". وقد زج عناصر كتيبة آزوف لاحقاً في هذا المكان، وهو أيضاً المكان الذي تحدث فيه أوليكسي وفيتالي وفيليب إلى جون هاردينغ لاحقاً.

وتضم "الثكنة" خمسة مبان من طابقين في الجانب الغربي من السجن، وفي كل منها باحة صغيرة ومسيجة للتريض يمكنها أن تتسع لمئات من الأشخاص.

خصصت هذه المباني لأسرى الحرب، ولكن سمح للمدنيين الذين عملوا فيها أن يبقوا هناك حيث ظروف الإقامة أفضل بشكل طفيف من الزنازين في ديزو أو في مبنى مجاور من طابقين يخضع للحراسة المشددة ويسمى "أوك"، حيث احتجزوا على فترات متقطعة.

ويردف أوليكسي بقوله إنه بعد انتقاله إلى الثكنة في أعقاب مرور أسابيع على اعتقاله رأى السماء للمرة الأولى، ولأنه محترف في شؤون تكنولوجيا الاتصالات وقع الخيار عليه لأداء مهام محددة. بعد شهر على اعتقاله استدعي لمساعدة موظفي السجن الإداريين على التعامل مع فيروس ضرب نظامهم، وإذاك أدرك مدى الضائقة المالية التي يمر بها السجن.

ونجح في إبرام اتفاق مع الحراس، أمن لهم بموجبه طابعة وحاسوباً محمولاً، مقابل إجرائه اتصالاً هاتفياً واحداً مع أقربائه.

ويقول، "كنا في منتصف أبريل (نيسان). والرقم الوحيد الذي تذكرته عن ظهر قلب هو رقم هاتف زوجتي السابقة: كانت أول مرة ستتأكد فيها عائلتي بأنني حي أرزق".

وفي هذه الأثناء، تقول تاتيانا، زوجة فيتالي البالغة من العمر 39 سنة، إن آخر مرة تلقت فيها رسالة نصية من زوجها كانت في 24 مارس فيما كان يقود السيارة باتجاه ماريوبول. ولم تتلق اتصالاً بعدها سوى في 30 أبريل، حين هاتفتها فجأة سيدة خرجت قبل ذلك بفترة قصيرة من أولينفكا.

وتقول تاتيانا من بولندا حيث تقيم الآن، "أخبرتني أن فترة احتجاز زوجي بموجب (الفرز) قد مدت أسبوعين وأملت بأن يطلق سراحه في وقت قريب، لكنني علمت في الأقل بأنه كان على قيد الحياة".

"من الصعب أن أفسر إلى أي درجة أشعر بالسوء، لا نعرف كيف نتصرف".

أول سؤال طرحه السجناء السابقون بعد الهجوم هو: لماذا كان المعتقلون موجودين في ذلك القسم من أولينفكا؟ فقد قال كل الرجال الذين شاهدوا فيديوهات نشرت على قنوات "تيليغرام" تابعة لروس وأوكرانيين في أعقاب الانفجار إنها منطقة صناعية تقع شمال الزنازين، ولم يقم فيها أحد. وتتطابق هذه الرواية مع دراسة "اندبندنت" الخاصة للفيديوهات التي نشرت في الفضاء الإلكتروني ولصور الأقمار الاصطناعية.

ويستطرد أركادي قائلاً، "أرغموا السجناء على العمل في هذه المنطقة لكن لم ينم أحد هناك، لم تجهز لهذا الغرض"، كما يضيف أوليكسي أنها لم تكن مجهزة للسكن. ويقول، "أظن أن الروس تعمدوا نقلهم إلى هذا القسم بهدف قتلهم هناك".

ويزعم مسؤولو الاستخبارات والجيش والأمن الأوكرانيون بأن موقع الانفجار جهز لإقامة السجناء قبل يومين فقط من الاعتداء. وبعد ذلك، نقل إليه المعتقلون من أزوفستال على عجل، وهذه نقطة [مسألة] يعتبرونها دليلاً على أن الهجوم مدبر ومتعمد.

يستحيل التثبت من هذا الادعاء، ولكن الخبراء شككوا في رواية سقوط صاروخ أوكراني أدى إلى حادثة القتل الجماعي.

إذ قال ستة خبراء فحصوا الصور المتوفرة عن الحادثة لصحيفة "واشنطن بوست" إن آثار الضربة لا يبدو أنها تتطابق مع هجوم براجمة صواريخ مدفعية عالية الحركة، بسبب غياب آثار الشظايا أو الحفر والضرر القليل اللاحق بالجدران الداخلية.

كما أضافوا أن الآثار الظاهرة على اندلاع حريق كبير تتعارض مع الأضرار التي تتسبب بها رؤوس صواريخ "هيمارس" الشائعة.

وعبر محللون للمعلومات الاستخباراتية المفتوحة المصدر، ومنهم إليوت هيغينز من موقع "بيلينغ كات" للصحافة الاستقصائية والمحلل الدنماركي أوليفر ألكساندر، بدورهم عن مخاوفهم من بعض التغييرات في الميدان التي التقطتها صور الأقمار الاصطناعية قبل عشرة أيام من الانفجار تقريباً، واعتبر ألكساندر أنها قد تكون قبوراً حفرت مسبقاً.

 

وتقع هذه التغييرات التي طالت التربة في منطقة يسميها النزلاء "الحديقة"، إلى جنوب القسم الرئيس للسجن مباشرة. ويبدو أنها فتحت قبل الانفجار مباشرة ثم سترت [هيل عليها التراب] بعد يوم من الهجوم.

أكد السجناء السابقون لـ"اندبندنت" أن الحديقة كانت خالية إلا من مكبات للنفايات، منذ بدء اعتقالهم، وحتى 4 يوليو مع أنه تعذر التأكد من هذه المعلومة.

ومن جهتها، تبذل عائلات معتقلي أزوفستال جهدها داخل أولينفكا في البحث عن أي معلومات تخصهم ونظمت تظاهرات في لفيف للمطالبة بتدخل الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر. وهي تقلق من أنه حتى في حال نجا أقرباؤها من الانفجار، قد تتكرر هذه الحادثة، إن كانت مدبرة.

وتقول كارينا التي يعمل شقيقها البالغ من العمر 31 سنة طبيباً في الجيش، وأرسل إلى أزوفستال خلال المواجهة الصعبة الأخيرة "من الصعب أن أفسر إلى أي درجة أشعر بالسوء، لا نعرف كيف نتصرف [ما العمل]، ولا بمن نتصل".

وطلبت التكتم على هويته خوفاً من الأسوأ: لم يظهر اسمه في عداد الموتى، ولكنها تخشى أن يأتي دوره تالياً. اكتشفت وجود أخيها في أولينفكا في يونيو (حزيران) ثم ظهر للحظة خاطفة في فيديو نشر على صفحات مجموعات روسية على "تيليغرام"، بعد أن التقطته وسيلة إعلامية روسية يبدو أنه سمح لها التجوال في الثكنة.

وتمكنت "اندبندنت" من تزويدها بمعلومات إضافية عن أخيها لأنه التقى لفترة قصيرة بفيتالي وأوليكسي في السجن وتحدث إليهما، كما أكدا أن المكان الذي صور فيه الفيديو يبدو أنه داخل الثكنة.

آخر مرة تكلمت معه كانت قبل أسابيع قليلة من 29 يوليو، عندما أجرى اتصالاً هاتفياً وجيزاً، ربما بتدبير من الصليب الأحمر.

وتقول كارينا بهدوء، "كان يتحدث بهدوء، كما لو أن أحدهم يحاول استراق السمع بالقرب منه. ظل يردد أن السجن مليء بأشخاص مثل نساء حوامل ومصابين وطاقم طبي من ماريوبول".

"وظل يسأل (كيف يجوز في القرن الحادي والعشرين أن تعامل مدنيات حوامل وأطباء معاملة أسرى الحرب في السجن)".

"أنا في العالم وحدي"

بالنسبة إلى عائلات المعتقلين في أولينفكا فقد أثر أحبائهم في أحد الأيام بكل بساطة.

يوم 30 مارس، تلقت لودميلا رسالة نصية كتب فيها سطر واحد من ابنها ديما، يطلب منها أن تدعو له ولصديقته الحميمة مع اقترابهما من ماريوبول، التي أمل بإنقاذ جديهما منها.

فردت عليه السيدة البالغة من العمر 54 سنة بأنها تحبه وأنه "الأغلى" على قلبها. أجابها بأنه متأكد أن الأمور ستسير على ما يرام، وأنهما لن يسعيا لإكمال الطريق إلى ماريوبول إن اعترض طريقهما حاجز.

ثم انقطعت رسائله تماماً، ولم يشغل هاتفه بعدها بتاتاً. وإلى اليوم، لم يصلها أي خبر منه.

مثل كثير من الأهالي، قضت لودميلا الأشهر الماضية في سعي محموم لاكتشاف ما إذا كان وحيدها على قيد الحياة.

"لم أعرف أي شيء طيلة أسبوعين، ثم وردني اتصال من شخص لا أعرفه أخبرني أنهم أوقفوا جميعاً في مانغوش (خارج ماريوبول) واحتجزوا في بلدة دوكوتشيفسك".

يبدو أن المتصل المجهول الهوية أطلق سراحه، ولكنه خشي قول مزيد وأقفل الخط. لاحقاً، أفرج عن صديقة ديما التي حملت معها مزيداً من الأخبار: أنهم اقتيدوا إلى مدينة دونيتسك بعدها لمدة عشرة أيام.

وتقول لودميلا "من الصعب جداً الحصول على أي معلومات، ولهذا السبب يجتمع الأقرباء الذين وقع أولادهم في الأسر ويتبادلون المعلومات إلكترونياً. هكذا علمت بأنه نقل إلى أولينفكا".

خلافاً لفيتالي وأوليكسي وفيليب وأركادي لم يطلق سراح ديما، ولم يظهر مجدداً. وإلى الحين لم يفرج عن أي من زملائه في الزنزانة لكي يجلبوا مزيداً من الأنباء. تفترض لودميلا بأن ديما لا يزال مسجوناً في أولينفكا، لكن لا أحد يعلم وضعه.

وتقول "كما علمنا، اتهم هو وآخرون معه بالإرهاب، وأخطروا بأنه سيحكم عليهم بالسجن 20 عاماً. لا نعلم ما يعني هذا وأنا أشعر بالرعب".

ما توضحه شهادتها هو أن أوليكسي وفيليب وفيتالي وأركادي ينتمون إلى قلة محظوظة من الأشخاص. كان المعتقلون الأربعة من بين 20 شخصاً تقريباً أطلق سراحهم فجأة في الرابع والخامس من يوليو.

ويقول أركادي، "لا أعرف لماذا أفرج عني. قالوا لنا بعد مرور مئة يوم على وجودنا هناك (لستم إرهابيين وأنتم أحرار طلقاء)".

لا يزال المئات، إن لم نقل الآلاف، معتقلين، وربما لم يتصل عديد منهم بأقربائهم حتى الآن.

يتحدث يوري بيلوسوف، المدعي العام الأوكراني الذي يحقق في جرائم حرب مزعومة ارتكبت بحق أوكرانيين، عن وجود 12500 حالة في الأقل لمفقودين أبلغ عن اختفائهم على الخط الساخن للشرطة الوطنية، "إن الرقم الفعلي أعلى بكثير إذ لا يقدم الجميع بلاغات باختفاء أشخاص، بالتالي لا تسجل هذه الحالات في قاعدة البيانات".

ويقول فيليب إن المدنيين في أولينفكا الذين كانوا يعملون في السابق مع الجيش أو مع الشرطة ساورهم القلق بشكل خاص بأنهم لن يخرجوا أبداً من المكان.

ويضيف "شكلنا مجموعة دعم داخل السجن لمساندة بعضنا بعضاً، ولكن بعض الأشخاص عزلوا أنفسهم وغرقوا في اكتئاب شديد. أحد الحراس الشخصيين الذين كنت أعرفهم أصيب بانهيار تام وظل يردد "سوف أقضي 25 عاماً من عمري هنا. انتهت حياتي، انتهت حياتي".

يشرح أوليكسي وفيتالي بأنهما لا يزالان يعالجان الآثار الجسدية والنفسية لاعتقالهما.

ويستطرد أوليكسي قائلاً بأن أسنانه تضررت بسبب الضرب، وسوء العلاج الطبي كما سوء الطعام. ويضيف "أعاني كذلك مشكلات في ضغط الدم. من العسير عليَّ أن أتنقل لمسافات طويلة".

ومن جانبه. يقول فيتالي إنه يعاني آلاماً مبرحة في الرأس ويصعب عليه استخدام الهاتف أو الحاسوب لفترة طويلة. ويضيف "نكابد الإرهاق كل الوقت".

لكن جزءاً من عملية التعافي يكمن في العزم على الاستمرار بالتطوع. ويقول أوليكسي، من بولندا حيث يستعيد عافيته حالياً "قبل القبض عليَّ كنت منسقاً في مركز استقبال يرحب باللاجئين القادمين من ماريوبول، ما زلت أريد أن أواصل هذا العمل. هذه إحدى الطرق التي يمكنني من خلالها الاستفادة من تجربتي، وما مررت به".

وفي هذه الأثناء لا تزال الأسر التي تنتظر أي خبر عن أبنائها عالقة في شكل من أشكال الجحيم [تكابد معاناة كبيرة]، وهي تتصفح وسائل التواصل الاجتماعي بحثاً عن أي لمحة لأحبائها المفقودين.

وتقول لودميلا وهي تنهار في البكاء، "أنا في العالم وحدي ولا أعرف ما عليَّ فعله". تعيش وحدها الآن في كوخ هادئ شمال كييف. وتقضي كل يوم في تفحص صفحات التواصل الاجتماعي بحثاً عن خبر يتعلق بابنها.

"في أحد الأيام، ذهب وحيدي لينقذ جدته ولم يعد. أرجوكم أن تساعدوني في العثور على ابني".

*غيرت الأسماء لحماية هويات الأشخاص

© The Independent

المزيد من تحقيقات ومطولات