Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحكواتي يبحث عن هوية في زمن وسائل التواصل الاجتماعي

يسترجع بعض المؤثرين تجربته من خلال "البودكاست"

ملخص

ارتبطت ذاكرة الأجيال في العالم العربي بشخصية الحكواتي وتولد وعيهم على متن قصصه وأحداث الملاحم التي يسردها. ولكن تطور وسائل الإعلام أدى إلى اندثار الحرفة الأحب إلى المخيلة العامة، وخلال الأعوام الأخيرة، برزت محاولات لإعادة إحياء ما تجسده هذه الظاهرة من تراث شفهي عربي.

في ذاكرة كل واحد من كبار السن زاوية متميزة اسمها "خانة الحكواتي"، مليئة بالبطولات والصراعات الملحمية والأساطير التي تثير المخيلة، والأكلات الشعبية. وتحضر "سيرة الزير سالم" على لسان الحاج الثمانيني أبو محمود. كما كان أبناء القرية يتحلقون حول العم علي الذي كان يتسلح بكتاب أحمر سميك ليقضي على لحظات الملل في ليالي الشتاء الطويلة. وتأخذ تلك المشاهد أبعاداً جديدة في أزقة الخالة أم توفيق في مخيم البداوي (شمال) للاجئين الفلسطينيين، حيث تجتمع فتيات الحي على أخبار "ظريف الطول" الذي تحولت قصته إلى أغنية.

 

الحكواتي في مواجهة "البودكاست"

يحتل الحكواتي جزءاً مهماً من التراث الشفهي للعالم العربي. وأكد الروائي اللبناني عبدالحليم حمود أن "الحكواتي شكل حاجة تاريخية للمجتمعات، بدأ مع نقل المصطلحات البسيطة، قبل استثارة المخيلة، وصولاً إلى نقل الأدب العالمي الأسطوري الذي يمزج بين الحقائق والخيال، والعبر الرمزية التي تمثلت بكعب أخيل، وصخرة سيزيف، وحصان طروادة. ومن ثم شهد هذا النمط الأدبي تنوعاً كبيراً، وبروز جمالية التعبير والقول، ونشأة الشعر والسرد الفلسفي، قبل أن تنتشر الكتب على نطاق واسع بفعل اختراع المطبعة، والبحوث العلمية والطروحات الفكرية. وما لبست أن تطورت وسائل الإعلام مع الراديو ومن ثم التلفاز وعروض الشاشات الكبيرة التي أدت إلى تنوع أشكال الحكاية، وتفرعت عنها آلاف النصوص الأدبية التي تمزج الخيال والحقيقة، وبروز الروايات المتلفزة". وأشار حمود إلى تعدد الأدوار التي لعبها الحكواتي "فإلى جانب العبرة، حضرت التسلية، قبل أن يشهد سلسلة من التحولات، التي جعلت منه جزءاً من فولكلور شهر رمضان، والأنشطة ذات الطابع الشرقي، وصولاً إلى مزج شخصيته بالمسرح، حيث أخرج الحكواتي من مكانه الطبيعي في المقهى الشعبي، والسهرات العائلية، مما أدى إلى إنهاء دوره ووظيفته الاجتماعية، ليصبح رمزاً لحقبة من التاريخ الإنساني القائم على النقل".

 

الحكواتي في عصر الإعلام

يعد الإعلام "طفرة" لعمل الحكواتي في المهنة الخبرية، "إذ تمكنت من تطوير الأدوات الحديثة في خدمة تظهير القصة في إطار جديد، ودمج الوسائط المتعددة، حيث تجتمع الصورة والصوت والموسيقى مع المؤثرات لزيادة الإبهار" بحسب عبدالحليم حمود الذي وضعها في قلب "تطور الوعي البشري". واستمر التطور إلى حقبة "البودكاست" التي انتشرت إلى أقصى حد بفعل وسائل التواصل الاجتماعي، لذا رأى حمود "ألا مجال للبودكاست في استنساخ تجربة الحكواتي، لأن للأخير وظيفة تمتزج فيها فنون السرد مع العرض المسرحي، والتحكم بنبرة الصوت لترجمة مشاعر الفخر والغضب والخوف والهلع والانفعال والرقة وغيرها من المشاعر، حيث تظهر المرجلة في رفع الصوت وتجسيد لحظات الفروسية والمغامرة، فيما يتخذ البودكاست نمطاً واحداً في اللغة البوحية، ويبقى المشترك بينهما هو السرد المفصل على مساحة طويلة".

 

وتحدث حمود عن تحول "البودكاست" إلى تحد في مواجهة حركة العصر الفائقة السرعة، "وهو يسعى إلى تهيئة الجو للتفكير البارد والفن البطيء، وهو أيضاً ما تتسع دائرته في المحيط الروائي، إذ تتمنى دور النشر على كبار الروائيين كتابة نصوص طويلة نوعاً ما، والاستجابة لرغبة شريحة كبيرة من المجتمع والتحرر من سلطة الحياة السريعة"، من هنا، قرأ حمود في "البودكاست" "فعل مقاومة لمسيرة العصر، ويتشارك مع فنون السرد، وإبطاء حركة وإيقاع العصر، والحد من التسريع المبالغ فيه الذي أفقد الإنسان جزءاً من وعيه، وجعله عرضة لفيض هائل من المعلومات، إذ صدم الإنسان بالانتقال المفاجئ من الصبحيات وجلسات المقاهي التي يتشارك فيها الأفراد تجاربهم ويومياتهم، التي كانت تمنح الفرد الشعور بالأمان، واستعادة الذكريات التي تشكل حضوراً مستمراً للإنسان، والتي يحاول بعض البودكاست تقديمها اليوم ومشاركة التجارب".

 

إعادة إحياء الحكواتي

إلى شوارع طرابلس (شمال) القديمة، نزل حكواتيون عرب في محاولة منهم لإعادة إحياء دور الحكواتي في الحياة العامة، واختلطت مشاعر المارة بين الإعجاب والاستغراب، خصوصاً مع تقديم العروض بالملابس التقليدية المغاربية. داخل سوق الصاغة، قدم الحكواتي بلال زيان من الجزائر حكايته عن ملك باحث عن الخلود، مستعيداً بعض العقد النمطية في الرواية العربية، إذ يتقمص الملك شخصية أحد العامة، ليستكشف أوضاع رعيته. أما الحكواتية حياة عبدالخالق من تونس، فقد قدمت في قلب ساحة التل (طرابلس)، عرضاً تربوياً عن العطاء اللامتناهي، وأهمية التربية في تنمية نفوس البشر ومقدراتهم الشخصية.

مهرجان الحكواتي

تمكن مهرجان الحكواتي الذي نظمه "المسرح الوطني اللبناني" في بيروت، وطرابلس من تعريف شريحة من الجيل الجديد على نمط مختلف وجديد من التسلية، يقوم على التفاعل المباشر بين المؤدي والجمهور المتلقي. وأعاد أيضاً إلى الذاكرة الجماعية الدور الذي لعبه الحكواتي عبر التاريخ، ونظر هؤلاء بإعجاب إلى تلك الشخصيات التي تجهد لإبقاء جزء من التراث الشعبي على قيد الحياة. وحضر الحكواتيون من لبنان ودول عربية مختلفة، في ظل حضور نسائي بصورة بارزة.

وعكست الحكواتية اللبنانية رنا غدار تجربتها التربوية التي أسست مشروعاً انطلق من محاولة إحياء مسرح الدمى في صيدا جنوب لبنان، وتعزيز دور الفن في التربية. ووجدت غدار أن الحكواتي هو النموذج المثالي لمحاكاة تجارب الأطفال، إذ تنقلت بين عشرات المدارس لتنظيم 200 نشاط، واستفاد منها أكثر من 4 آلاف طفل، وتمت رواية القصص والحكايات، ودمجها مع تقنيات العلاج في الفن والأشغال اليدوية والمسرح التفاعلي لمساعدة الأطفال من تجاوز الصدمات. ولفتت غدار إلى أنه "ما إن يسمع الجمهور مصطلح الحكواتي حتى يستحضر هؤلاء القصص القديمة أو الجديدة، إذ أنطلق في أي قصة للأولاد بكلمة أنا الحكواتي التي تثير السعادة في النفوس، وتدعوهم لتخيل الصور، ولا بد من إرجاع هذه الثقافة التي لم تعد موجودة". وتابعت، "واجب الحكواتي مجاراة التطورات والظهور عبر المنصات والبودكاست لتقديم الحكايات للأطفال شرط الحفاظ على الطابع الثقافي المطلوب إيصاله إلى الآخرين"، مشددة على ضرورة "اعتماد الأسلوب السلس والمرن، والكاريزما التي تدخل في إطار السهل الممتنع، لأن الحضور الخفيف للحكواتي، هو المدخل لإيصال الحكاية للمتلقي أياً كانت الحكاية، مما يعكس أسلوب وطريقة كل حكواتي وشخصيته الخاصة، إذ يمكن أن يبدأ بتقديم مثل أو حزورة أو أغنية قديمة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من جهتها، استرجعت الحكواتية اللبنانية رجاء بشارة الحكواتي بوصفه جزءاً من تاريخ أبناء بيروت "حيث كان الأهالي يقصدون منزل الحكواتي للعودة والثأر لكرامة عنترة، وإكمال القصة في الليلة نفسها، لأنه لم يعد بمقدرتهم انتظار الأحداث شمس اليوم التالي". ولفتت بشارة إلى حاجة مهنة الحكواتي لموهبة فطرية ومن ثم تنمية المهارات، والإيمان بالدور، إذ يقوم كل إنسان بلعب دور الحكواتي من الأم إلى الزوج، والابن الذي يروي لأمه ما تعترضه من مشكلات وتحديات. وقالت أيضاً إن "عيش القصة هو المفتاح لنجاح الحكواتي، ومن ثم التفاعل مع الأحداث، لإيصال التفاصيل والمشاعر إلى المتلقي. من هنا، تبرز المهارة الشخصية التي يجسدها كل حكواتي في سرده الذي يلعب دور الشاهد على الأحداث، ويحاول أن يبقى دائماً خارج الحكاية، على رغم تأثره فيها من زوايا مختلفة"، وشددت على أن "للحكواتي دوراً أساساً في المجتمع، وفي الحفاظ على السردية المعاشة، والتاريخ الشفوي الذي يتجاوز في صدقيته تلك التواريخ المكتوبة والمنحازة إلى القوى الغالبة".

ذاكرة العالم العربي

داخل مخيم البداوي للاجئين الفلسطينيين في شمال لبنان، يستمر كبار السن بلعب دور الحكواتي لإبقاء الروابط الحية بين أبناء الجيل الثالث وجذورهم في فلسطين. وشدد الحكواتي الفلسطيني سليم السوسي (ابن مدينة غزة) على مكانة الحكواتي في حفظ ونقل التراث الشفهي عن النضال الوطني والشعبي، وإبقاء بعض الشخصيات حاضرة في الذاكرة، إذ تقوم على نقل الحكاية من الآباء إلى الأبناء وهكذا دواليك، واستحضار طقوس الأكل والعيد والزواج، وغيرها من الوقائع التي أحاطت ليالي العائلات، وملأتها بالأغاني الشعبية وشعر البطولة الملحمي. ولفت السوسي إلى أن "كل إنسان منا هو حكواتي في معرض سرده لأحداث ووقائع تعترضه"، ولكن في المقابل، أشار إلى "أهمية الإعداد الشخصي، وتطوير فنون الخطابة، وتدريب الصوت والأداء المسرحي على يد متخصصين، واستخدامه في مجال الدعم النفسي والاجتماعي، وتنمية خيال جيل كامل، وتجسيد القيم الأخلاقية على أرض الواقع خارج إطار الوعظ".

أما الحكواتي الجزائري بلال زيان، فأكد استمرار حضور الحكواتي في الجزائر، مشيراً إلى أن "السبب الكامن وراء تنظيم مهرجانات الحكواتي، الحفاظ على حرفة مهددة بالاندثار بفعل عصر التواصل الاجتماعي والسرعة والإنترنت، وغيرها من الأنشطة التي تحاول التغطية على الحكواتي الذي يحضر في التراث الجزائري، ويسيطر على الحقبة السابقة على انتشار التلفاز، حيث كانت تجتمع الأسرة حول دائرة النار في البيت بانتظار قيام الجد والجدة بسرد الحكايات القديمة، البعض منها كان واقعياً والآخر أسطورياً"، وأكد أن "كل واحد منا هو حكواتي، إذ يمكن للأب أو الأم رواية الحكايات لأبنائهم لبعث الحرفة من جديد". وتطرق زيان إلى اللباس التراثي للحكواتي الذي يجب أن يتناسب مع الحرفة التراثية، ومن أجل التعريف على الجزائري ونشره في العالم، قائلاً "نحن لا ننتظر الجمهور ليأتي إلينا، نحن من يقصد الجمهور لرواية الحكايات، وتعريفه على حكايات مختلفة".

من جهتها، أكدت الحكواتية التونسية حياة عبدالخالق أن "ثمة حاجة إلى إحياء التراث، وانطلاق الأفكار من الواقع والتفاعل مع عصر الصورة المبهرة، التي تبهر الجيل الجديد"، مضيفة "لا بد من تكييف الحكاية مع الجمهور المتلقي، ففي حال كانوا من الأطفال وهناك متسع من الوقت، تكون القصة على هذا المنوال، أما في حال كان سرد الحكاية في الشارع، فإنه يفترض الاختصار ومراعاة التوقيت". وشددت عبدالخالق على أن "الحكواتية كالمدرسة يمكن أن تكون سيدة، وتقدم التجربة التي تعيشها، وتقدمها في إطار تربوي وتعليمي لعكس الخبرة وتقديم العبرة".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات