بدأت القصة وفق بعض رواتها، من القرن ما قبل الماضي وهو عصر الإمبراطوريات والمغامرات، حين كان باستطاعة رجال أثرياء لديهم أحلام كبيرة أن يقهروا قارات بأكملها، ويحركوا بأيديهم عجلة صنع التاريخ. ولم تكن متواضعة أبداً رؤية رجل الأعمال دوايت ديفيس وأصدقاءه الثلاثة في فريق جامعة هارفرد للتنس في 1899، إذ فكّروا في مسابقة تعبر ضفتي المحيط وتتبارى فيها الولايات المتحدة مع الجُزر البريطانية. وبعد أكثر من قرن منذ المرّة الأولى التي رُفِع فيها ذلك الكأس الكبير المصنوع من الفضة الاسترلينية (925 جزءاً من الفضة الخالصة مع 25 جزءاً من النحاس)، الذي سيعرف بعد ذلك بإسم "كأس ديفيس"، في نادي "لونغ وود" ببوسطن، مازالت صامدة تلك الرؤية عن الصداقة والود والمغامرة المشتركة عبر التنافس الفردي الشرس.
بالأحرى، لنقل إن الأمر هو كذلك، لكن بالكاد. وإذا أعرنا اهتماماً كافياً لقرع الأجراس والطقوس الجنائزية، فالأرجح أن يتغيّر الأمر كليّاً مع نهاية السنة الحالية. وعلى الرغم من احتفاظ البطولة بإسمها إلا أن صفتها الجوهرية [التنافس بين ضفتي الأطلسي] ستتغيّر بقوة إلى حدّ أن تصبح نظرياً مسابقة جديدة كلياً. وبداية من العام 2019، يقتصر أمر المسابقة كلها على أسبوع وحيد، مع 18 فريقاً يتوزعون على 6 مجموعات، في مساق واحد، في مدينة واحدة، في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) من السنة.
ويروّج منظموها ذلك التغيير تحت مسمّى "كأس العالم للرجال"، بوصفها نسمة حياة لبنية باتت مُتْعَبَة ومتآكِلَة، إضافة إلى كونها تصنع مشهدية ذرويّة في الخريف. في المقابل، يبدي هجّاؤها حسرة حيال استسلام آخر للتقليد المُذّهَب للأموال الضخمة، إضافة إلى تمديد غير مرغوب فيه لروزنامة منتفخة أصلاً إلى حد الاستغلال. يملك الطرفان كلاهما نقاطاً لمصلحته وعلى طريقته. في الحالين كليهما، ثمة شعور بالوصول إلى نقطة انتقالية في رياضة لا تكف هدناتها الصعبة عن التبدّد سريعاً أمام زوابع الضراوة والعداوات المرّة، بل إن أسسها يعاد تشكيلها أمام أعيننا.
وكما العهد دوماً في ممارسات إعادة صوغ العلامات التجاريّة، ثمة بليونير في القيادة. هناك هيروشي ميكيتاني، الرئيس التنفيذي لشركة "راكوتين" اليابانيّة المختصة بالتجارة الإلكترونيّة؛ التي تشتهر في أوروبا بأنها الراعي لقميص نادي برشلونة لكرة القدم. ويساعد ذلك في فهم السبب الذي يحدو باللاعب جيرار بيكيه، المدافع الشهير في ذلك النادي، على الانخراط في ذلك. والحال أن بيكيه صديق لميكيتاني الذي اشترت مجموعته "كوزموس" الاستثمارية "كوزموس"، مسابقة "كأس ديفيس" من "الاتحاد الدولي للتنس" مقابل ضمان بمردود مالي بقرابة 2.3 بليون جنيه استرليني خلال السنوات الـ25 المقبلة.
إذن، ما زالت تتردد إلى حد الآن، أصداء ذلك القرار الذي أتُّخِذ بأغلبيّة ضيقة في "الاتحاد الدولي للتنس" خلال اجتماع في فلوريدا في أغسطس (آب) 2018. أحسّ كثيرون بالاستبعاد تحت تأثير اليد الثقيلة لتكتيكات "كوزموس" في ممارسة الضغوط. ما زالت الأصوات نفسها مغلّفة بالألغاز، وكذا الحال بالنسبة للاغراءات التي مُنِحَت لتأمين موافقتها. ووفق ملاحظة لرئيس الاتحاد الألماني للتنس: "للأسف، كانت النقاشات أثناء الأيام التي سبقت التصويت، منصبة على الأموال، وليس الرياضة". وبغضب، أدان روجيه فيدرير الذي بات مهدداً لقبه كبطل "كأس لافيه" [وهي مسابقة تجري بين أوروبا وبقية العالم]، اللاعب بيكيه لأنه "يتدخّل في شؤون التنس".
في تلك الأثناء، قررت "رابطة الأبطال المحترفين في التنس" التي تنظم المسابقة الرئيسة للرجال، في خطوة يتوجب القول بأنها خطوة رجوليّة مشهودة، تنظيم مسابقتها المُنافِسة [لـ"كأس العالم للرجال"] كي تشارك فيها الفرق بداية من يناير (كانون الثاني) 2020، أي بعد أسابيع من إجراء المسابقة المُعاد صياغتها من "كأس ديفيس". ثمة تفاصيل أكثر دقّة ما برحت سريّة، لكن الجذر العميق لتلك الشبكة من الولاءات المتشابكة، هناك المصلحة الذاتية المجردة، وسيل من الأكاذيب البيروقراطية، وبعبارة أخرى، هناك في الأساس رياضة دبت فيها النيران. لم يحدث أن أحسّت لعبة التنس للرجال بأنها منقسمة على هذا النحو، منذ الأيام المبكرة للحقبة المفتوحة في سبعينات القرن العشرين، التي كانت سنوات المقاطعات والمسابقات المتنافسة.
هناك انقسام في الاتحادات الوطنية للتنس، إذ صوّت معظمها لمصلحة التغييرات الجارية، لكن بعضاً منها (أبرزها في ألمانيا وأستراليا وبريطانيا)، لم تفعل ذلك. ثمة نزاع بين بعض الاتحادات واللاعبين، خصوصاً في فرنسا التي صوّت اتّحادها لمصلحة التغيير الجاري لكن لاعبيها يعارضونه. هناك لاعبون على خلاف مع "رابطة الأبطال المحترفين". ثمة ضغائن بين "الاتحاد الدولي للتنس" و"رابطة الأبطال المحترفين". وعلى شبكة الانترنت، يتصارع أنصار فيدرير ودجوكوفيتش ونادال. هناك دفق من جمر الغضب وانعدام الثقة، يسري في كل تعاملات لعبة التنس هذه الأيام. وفي القلب من ذلك كله، يبرز السؤال عينه الذي لا يتوافق شخصان حوله تماماً: ما يتوجب أن يكون مستقبل لعبة التنس؟
خلال معظم السنوات الـ15 الماضية، لم يتوجب على أحدٍ الإجابة عن ذلك السؤال. خلقت الحقبة الذهبيّة للمسابقات الأربع الكبرى في تنس الرجال، وهماً بالتوافق، ورياضة تنعم بانسجام كلي؛ فغطى ذلك على أداة تنظيمية باتت متقادمة، وهي لم تبنَ أبداً لتواجه الرياح العاتية للتجارة في الرياضة المعاصرة. مثلاً، كيف أمكن غياب اتّحاد مرجعي مكرس للاعبين؟ كيف يمكن أن يقع في معاناة مالية اللاعب المصنف رقم 250 عالمياً، وهو الهنغاري مييت فالكوزيتش، الذي لم تتجاوز جائزته المالية في 2018 الـ23 ألف جنيه استرليني؟ كيف أمكن بعد 45 سنة من قرار مسابقة الولايات المتحدة المفتوحة للتنس المساواة مالياً بين الرجال والنساء، ما زال الجنسان يخوضان مسابقات منفصلة تديرها هيئات مختلفة، بل تخاض أحياناً بقوانين متباينة؟ وفي ظل الخدر بنشوة لعب نادال وفيدرير، لم يأبه أحد لتلك الأشياء كلها.
لكن اقتراب غروب المسابقات الأربع الكبرى في التنس، وتمازجه مع إدراك أن الجمهور الذي يتدفق على مباراة دجوكوفيتش ضد موراي، ليس بالضرورة أن يمضي بحبور إلى مباراة كارين كاتشانوف ضد ستيفانوس تسيتسباس مثلاً؛ أرغم المدراء على العمل. ووفق كريس كرمود، رئيس "رابطة الأبطال المحترفين"، يقدر متوسط عمر المشاهد العادي للتنس على التلفزيون بقرابة ستين عاماً. خلال السنوات الماضية، جُرُّبَتْ أنواع لا حصر لها من الابتكارات الغرائبيّة على غرار "كأس لافيه" و"نيكست جين" [= "الجيل المقبل"، بترجمة حرفيّة] التي لا تتضمن خطوطاً لحدود اللعب، ولا نقاط تقدّم، ولا حكام خطوط، واللعب بمجموعات رباعية. يستطيع المتفائل أن يصف ذلك بأنه لوحة الكانفاه الخالية المثالية، فيما المتشائم يرى فيها مذبحة لرياضة تسعى إلى إحراق أساسها بالذات في سياق محاولتها البائسة لاكتساب الأهمية.
بذا، يكون النقاش عن "كأس ديفيس" في حقيقته تعبيراً بالوكالة عن شيء أكثر عمقاً: حرب ثقافية بين رؤى متنافسة، ونظرات متضاربة إلى المستقبل، ونزاعات جشعة متصارعة. من الممكن إثارة نقاشات مجدية عن جدوى الروزنامة المكتظة للمسابقات، أفضل ثلاث مجموعات، مستقبل فريق التنس في حقبة تُلِح على اللاعبين كأفراد وبضراوة غير مسبوقة، بل حتى عن هجرة الرياضة من المشاهدة الحيّة في الملاعب إلى الترفيه التلفزيوني، وهو مأدبة من المتعة المتحركة التي ينالها من يدفع أكثر. لكن إثارة تلك النقاشات تستلزم أن يصمت الصراخ المتبادل، ولا أحد يبدو مستعداً لأن يصمت أولاً! ربما توجّب على لعبة تنس الرجال أن تتفتت قبل أن تتحد مع بعضها بعضاً مرّة أخرى.
© The Independent