تعيد تظاهرة الـ 30 من يونيو (حزيران) في السودان ذكراها من عام 2019، حينما جاءت احتجاجاً على أحداث فض اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة التي راح ضحيتها المئات وعشرات المفقودين، ومنذ ذلك الوقت والأحداث تدور وسط الخلافات بين العسكر والمدنيين، مما بين تنافر وتفاوض، ولا يزال التكهن في شأن ما يمكن أن تؤدي إليه غير واضح.
ويظل القلق من عدم الوصول إلى توافق بين الطرفين حاضراً في وسط هذه الأزمة السياسية العميقة، لا يبدو المشهد الحقيقي على أرض الواقع، وإنما تطمينات فقط بثها رئيس بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس) فولكر بيرتس بأن "التوافق بين الفرقاء في البلاد بلغ 80 في المئة على عدد من القضايا السياسية، وأن الخلاف الرئيس بين المجلس المركزي والعسكر حول بقاء الأخير بمؤسسات الدولة"، بينما اعتبر رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان أن "حل أزمة السودان يكون بالتوافق الوطني أو الانتخابات وليس الدعوات للتظاهر والتخريب".
وبهذا يكون الرهان الجماهيري على درجة كبيرة من الانسجام من ناحية إحياء هذا اليوم للتذكير بضرورة الوصول إلى عدالة انتقالية والقصاص الذي يطالب به أهالي ضحايا فض الاعتصام من الجناة، وفي إطار أكبر يبدو الرهان على بناء الدولة نفسها بالتوافق على إجراء الانتخابات وتشكيل مجلس تشريعي وسلطة تشريعية وعدلية مستقلة مع احتمال استفحال الأزمة أو حتى تحولها إلى نزاع سياسي جديد، وهو النزاع الدائر منذ تشكيل مجلس السيادة الانتقالي في أغسطس (آب) 2019 بناء على نص الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية التي صادق عليها مجلسا السيادة والوزراء في الـ 12 من أكتوبر (تشرين الأول) 2020، ثم تمديد الفترة الانتقالية على أن تنتهي في يناير (كانون الثاني) 2024، وتفاقمه بعد تعطيل الوثيقة في الـ 25 من أكتوبر 2021.
صراع حول الأدوار
ظلت الدولة السودانية منذ استقلالها تصارع في أروقة الحكم ما بين حكومة مدنية وعسكرية، وعادة ما كان يظهر في الفترات الانتقالية صراع حول الأدوار، لكنه لم يكن ينتقص من دور أي من المكونين المدني أو العسكري الذي يتنازل عن السلطة مرغماً بواسطة الثورات الشعبية، أو زاهداً فيها كما حدث من المشير عبدالرحمن سوار الذهب الذي تسلم السلطة بالتنسيق مع قادة انتفاضة أبريل (نيسان) 1985 التي أطاحت بجعفر النميري، وعلى رأسهم زعماء الأحزاب ورؤساء النقابات العمالية والمهنية، واختياره وفقاً لرتبته الرفيعة ضمن قادة الجيش رئيساً للمجلس الانتقالي ثم سلمها مباشرة عام 1986.
ولكن هذه الفترة الانتقالية الأخيرة حملت تغييراً جذرياً في العلاقة بين المكون المدني من موظفي الحكومة التنفيذيين وغيرهم، وبين المكون العسكري من القوات المسلحة والقوات الأمنية والشرطة وبين المواطنين تمثل في نظرة كل من هذه المكونات إلى الآخر.
تبدو ظاهرة الانقلاب سمة مميزة للمشهد السياسي السوداني فبعد فترة وجيزة من استقلال السودان حدث انقلاب العام 1958 بقيادة الفريق إبراهيم عبود، وما تلا ذلك من انقلابات قطعت فترات ديمقراطية قصيرة، أما الإجراءات التي طبقها الفريق البرهان في الـ 25 من أكتوبر واتخذت سمة الانقلاب خلال الفترة الانتقالية، فقد سلطت الضوء على بيئة معادية بشكل متزايد للمكون العسكري.
وبمسيرته وتجاربه الطويلة مع الانقلابات يمكن النظر إلى خارج الصندوق الثوري في إمكان لعب الجيش السوداني دوراً يشكل اتجاهاً قريباً مما هو قائم في دول أفريقية أخرى مثل أوغندا وتشاد وغيرهما من دون توفير الفرصة له للانفراد بالسلطة، وبدلاً من التركيز على الانقلاب يمكن قضاء الفترة الانتقالية في سياق دور مدني عسكري مشترك مثلما كان مرسوماً له على أن يكون هذا الدور واضحاً، فرفض الصيغة التعاونية بين المكونين في فترة إعادة بناء الدولة ستمكن الجيش من الانقلاب فعلياً، خصوصاً في ضوء الاتجاه التصاعدي للانقلابات في القارة الأفريقية في السنوات الخمس الأخيرة.
"اللاءات الثلاث"
مع الرفض المستمر من لجان المقاومة السودانية الانخراط في أي حوار مع العسكر والتمسك بالشعار السائد "اللاءات الثلاث" الرافضة للتفاوض والشراكة والتسوية معهم، استطاع المكون العسكري الاستفادة من انقسام "قوى إعلان الحرية والتغيير" مما مكنه من الاتجاه بعيداً حتى اقترب من الانفراد بالسلطة.
وفي خضم تراخي القوى المدنية وعدم إحساسها بتآكل المرحلة الانتقالية من دون التوافق على إجراء انتخابات في نهايتها، مع إحكام العسكر قبضتهم الأمنية التي زعزعتها أخيراً الضغوط الدولية وبدأت في التنازل عنها برفع حال الطوارئ المفروضة منذ إجراءات الـ 25 من أكتوبر التي شملت أيضاً حل مجلسي السيادة والوزراء واعتقال وزراء وسياسيين وإقالة الولاة، تراجع دور "قوى الحرية والتغيير" وظهر ضعف الأحزاب التقليدية مثل الأمة والاتحادي الديمقراطي، وبان تأرجح ولائها ما بين المكونين المدني والعسكري، إضافة إلى تضعضع مكانة الأحزاب الأخرى.
وعلى الرغم من إصدار رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق البرهان مرسوماً برفع حال الطوارئ، إذ أعلن أنها "لتهيئة المناخ لحوار وطني من أجل إنهاء الأزمة السياسية الراهنة"، إلا أننا نجد أن العلاقة بين المدنيين والعسكريين في السودان تحكمها محددات عدة، أولها تنافس القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى والحركات المسلحة على السلطة من جهة، والقوى السياسية من جهة أخرى وسط انكماش وانهيار خدمات الدولة، وثانياً انهيار الخط الفاصل بين رغبتي المكونين المدني والعسكري في التشبث بالسلطة، وثالثاً ربط الانهيار الاقتصادي بالسلطة العسكرية من دون النظر في معضلات النمو الاقتصادي في البلاد والترفع عن محاسبة السلطة المدنية عندما أوكلت إلى "لجنة إزالة تمكين نظام الـ 30 من يونيو" عملية تصفية مؤسسات النظام السابق وما شاب تلك العملية من فساد، ورابعاً مواجهة القوات المسلحة السودانية بيئة جيو-سياسية إقليمية سريعة التغير وكثيرة الاضطراب ومتأثرة بعدوى الانقلابات، مما يشتت تركيزها، وخامساً تعاطي المجتمع الخارجي مع المكون المدني ووضع العراقيل أمام المكون العسكري، فتقسيم الحكومة الانتقالية إلى فئتين وعدم أخذهما كحكومة واحدة أجبر الجمهور على الاتجاه نحو تفضيلات شخصية، فوضع رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك مقابل رئيس مجلس السيادة الفريق البرهان وهكذا.
إجراءات جوهرية
نظراً إلى تزايد نمط التدهور الاقتصادي في السودان، فإن الظروف مواتية لحدوث تطور في إجراءات الـ 25 من أكتوبر، والتي على الرغم من التراجع عن جزء منها إلا أن التأويلات مفتوحة على احتمالين، الأول هو حدوث انقلاب عسكري يطيح بالفريق البرهان وينهي الفترة الانتقالية، ومع تضاؤل هذا الاحتمال في ظل الرفض الداخلي والخارجي لتجربة الانقلاب المغلف في أكتوبر الماضي، وما نتج منه من تركيز دولي على شكل الحكم القادم غير أنه غير مستبعد تماماً.
أما الاحتمال الثاني فهو توافق شريكي الحكم بغرض استكمال مهمات المرحلة الانتقالية، وهو المطلب الأكثر تعقيداً، ويستلزم إجراءات جوهرية تتمثل في قدرتهما على تجاوز الأزمة الاقتصادية التي يعانيها السودانيون، مما أفقدهم القدرة على قبول ما قد تسفر عنه الخطط والترتيبات وانتظارها للخروج من الأزمة. ويحكم كلا الاحتمالين مدى زمني معين، يرتبط فيه الاحتمال الأول بالاستفادة من السخط الشعبي من الوضع الحالي، بينما يرتبط الثاني بالمدة المنصوص عليها لانقضاء الفترة الانتقالية، إذ إن أي تمديد آخر يعني تباطؤاً في إجراءات الإعداد لتسليم السلطة لحكومة منتخبة.
وتلعب الظروف الاقتصادية دوراً متزايداً في النظام السياسي الحالي والمحتمل، باعتماد المكون العسكري على الهياكل التنظيمية والمؤسسات التي طورتها مؤسسة الجيش في ظل النظام السابق، وعندما بدأت لجنة إزالة التمكين في تصفية نشاطات النظام السابق، لم تستطع الاقتراب من مؤسسات الجيش، بخاصة مجمعات الصناعات الحربية، وفي مجال الصناعات الثقيلة الأخرى مثل النقل وغيرها.
ومع غياب استراتيجيات التنمية الاقتصادية في الفترة الانتقالية، فإن اعتماد المكون العسكري سيكون على ما هو قائم أصلاً، لذلك نشب الخلاف بينه وبين المكون المدني حول أن تؤول شركات الجيش لوزارة المالية، وكما هو واضح فإن غياب رؤية اقتصادية محددة دفع بالعسكر إلى تمرير القرارات الاقتصادية، مثل رفع الدعم وتحرير سعر الصرف وغيرها بواسطة القوى المدنية الشريكة في الحكم، مما جعلها في مواجهة مباشرة مع المواطنين وحصدت قدراً كبيراً من الغضب الشعبي.
تقويم السلطة
تركز العلاقة بين المكونين المدني والعسكري في هذه المرحلة على مقدار السلطة الموزعة بينهما، وهي تخضع لقياسات حساسة من خلال التأثير النسبي لكل منهما، ويتم تقويم السلطة العسكرية من خلال قرارات قيادة الجيش في ما يتعلق بالنزاعات الأخيرة في دارفور والنزاع الحدودي مع إثيوبيا.
وقد كشفت حادثة مقتل الجنود السودانيين التي اتهمت فيها السلطات السودانية الجيش الإثيوبي عن تضامن شعبي واسع مع الجيش.
وبالنظر إلى قياس وتقويم نفوذ المكون المدني من خلال الحاجة إلى تعظيم الكفاءة المهنية وحصوله على سلطة تنفيذية واسعة، فإن الأداء الإعلامي للسلطة العسكرية بدا أكثر نشاطاً وسلط الضوء على دور مؤسسة الجيش، فإضافة إلى استعادة أجزاء كبيرة من منطقة الفشقة فهناك دور العسكريين في توقيع اتفاق السلام في جوبا خلال الثالث من أكتوبر 2020، لإنهاء الصراعات المسلحة في إقليم دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق ومفاوضات سد النهضة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي حين ينادي المدنيون بأن يقتصر دور الجيش على الأمن الداخلي وأمن الحدود، فإنه في ظل الوضع الحالي لا يمكن إبعاده من أداء مشاريع تنموية تقع في صميم العمل المدني، مثل بناء الطرق والجسور والمؤسسات الصحية والتعليمية وغيرها. وهو دور درجت على القيام به القوات المسلحة في أغلب البلدان النامية خصوصاً في طور التحول، مما يعظم دور الجيش بالنسبة إلى المواطن العادي عندما يتعلق الأمر بالحصول على الخدمات.
الفصل بين السلطات
في ظل العلاقة المتوترة بين المكونين المدني والعسكري، فإن العودة لشراكة كاملة من دون أن يواجه أي منهما اتهامات الاستئثار بالسلطة وتهميش الآخر تبدو صعبة التحقق، وعليه فإنه للوصول إلى علاقة سليمة توصل الفترة الانتقالية إلى حكومة ديمقراطية ينبغي النظر إلى تصور العلاقات المدنية - العسكرية وفق علاقة دائمة بين مؤسسات الحكم في الدولة، سواء في الحال الانتقالية أو بعد الوصول إلى الديمقراطية.
ولا يمنع ذلك من الاحتفاظ بقوات عسكرية مؤهلة وكبيرة في سياق حكم ديمقراطي وذلك ضمن تدوين قواعد السلوك الذي يجب تحديده وفق وثيقة واضحة بضرورة الفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، ووضع حدود لدور الجيش الرئيس وأنشطته ووظيفة القوى المدنية التنفيذية ووظيفة القضاء، وفي هذا السياق تعد العلاقة المدنية - العسكرية مفيدة ناحية إعادة التنمية وتشكيل مؤسسات الحكم والتفاعل السياسي في بيئة ما بعد الفترة الانتقالية وعقد صيغة سليمة للائتلافات السياسية.