ليست المرة الأولى التي يعمل فيها المخرج سمير عثمان الباش على أحد النصوص المجهولة تقريباً بالنسبة للجمهور السوري، فقد استعان أستاذ مادة التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية غير مرة بنصوص قام بترجمتها وإعدادها بنفسه عن اللغة الروسية كما في عرضه الجديد "أكاديمية الضحك" للكاتب الياباني المعاصر كوكي ميتاني (1961)، وهو ممثل ومخرج مسرحي وكاتب سيناريو.
كعادته يبدأ الباش المسرحية بتمرير إشارات قوية في افتتاحية عروضه التي ما فتئ يقدمها منذ سنوات في محترفه المستقل في مدرسة الفن المسرحي – جرمانا، مكتفياً بكراسي صالتها الصغيرة لضمان انتقاء جمهور خاص لحضور تجاربه، والتي غالباً ما يخوضها الباش مع ممثلين من خريجي أكاديميته. الإشارات الأولى تجلت في الملصق الإعلاني للعرض الذي صممه الفنان يوسف عبدلكي، وفيه قدم عتبة بصرية لافتة بالغ فيها عبدلكي في تكبير حجم مقص أسود على خلفية زرقاء، بينما رسم شخصية الكاتب بين شيفرتي هذا المقص العملاق وهو يتأبط أوراق نصه.
عبدلكي قدم أيضاً مقترحاً خاصاً لديكور العرض، واعتمد مجموعة من أدراج لمصنفات ورقية حملت أرقاماً وأسماء بمحتوياتها، غطت يمين المسرح ويساره وعمقه، مما أسهم في مقاربة مكان كتيم مثل دوائر الرقابة ومكاتب مسؤوليها التي ظهرت هنا كتوابيت منتظمة بعضها فوق بعض، وكقبور متراكبة في هيئة عمودية وأفقية للدلالة على عشرات النصوص التي لقيت مصيراً مشتركاً في دفنها طي الإدراج. وقد ذيلت بعبارة "للتريث"، والتي يستخدمها موظفو تلك الدوائر متذرعين بأن النص جيد، لكنه غير مناسب لتقديمه في الوقت الراهن.
الرقابة المسبقة
يناقش الباش بهدوء وحذر مسألة الرقابة المسبقة على النصوص المسرحية في سوريا، وذلك عبر قصة كاتب (كرم حنون - إيهاب إلياس - دبل كاست) يحضر إلى مكتب رقيب النصوص المسرحية (لجين إسماعيل) لأخذ الموافقة على نصه الذي ينوي الشروع بالتدريبات عليه بعد أسبوع مع فرقة تدعى "أكاديمية الضحك".
الرقيب لا يتورع عن وضع العثرات تلو العثرات أمام نص الكاتب الشاب، مطالباً إياه بقلب العديد من الأحداث والحوارات حتى تتواءم مع التوجه العام للرقابة. وهي هنا "أوامر تأتي من فوق" للدلالة على السلطة والمحاذير التي تفرضها أو تلوح بعدم ملامستها، كالتصرفات التي تخدش الحياء العام، وعلى رأسها شطب القبلات، ولو تلميحاً بين أبطال مسرحية شكسبير الشهيرة "روميو وجولييت"، إذ تصبح في الإعداد الجديد لها بعنوان "جوليو ورومييت". وتتحول من نسختها الرومانسية في مدينة فيرونا شمال إيطاليا، إلى نسختها الكوميدية لفرقة محلية سورية، مما يدفع الرقيب إلى طلب موافقة خطية من الكاتب الأصلي حتى يتمكن من إيجاز النص، وهي موافقة يطلبها بجدية كبيرة، كاشفاً عن ضحالة معرفته وإلمامه بأن مبدع "روميو وجولييت" قد فارق الحياة منذ عام 1616.
ليست هذه سوى توطئة لمفارقات كوميدية صادمة يسوقها مخرج "أكاديمية الضحك" وممثلوه تباعاً. فرقيب النصوص لا يتورع عن طلب إجراء المزيد من التعديلات الجذرية على نص الكاتب، ومنها استبدال شخصية روميو بهاملت، ومن ثم إضافة شخصية شرطي يدعى أبو صقر إلى شخصيات نص المسرحية الكوميدية، وذلك ظناً منه أنه يسهم في ضمان هيبة الدولة، وتقديم صورة مشرقة عن استتباب الأمن، وسريان النظام على كل أفراد الشعب بمن فيهم شخصيات شكسبير. ولا يكون من الكاتب سوى الامتثال لرغبات الرقيب، ومسايرته للحصول على موافقة رسمية على نصه، لكن رغبات الرقيب سرعان ما تتمادى لتفرض إقحامات غير منطقية على بنية نص الكاتب المسرحي، ولعل أبرزها كان في إدخال عبارة "يحيا يحيا... عاش الوطن"، والتي سيحتال الكاتب عليها أيضاً بأن يحور كلمة يحيا إلى فعل "يحيى" كاسم لسايس حصان هاملت، و"الوطن" إلى اسم لحصان هاملت الذي عاش على الرغم من إصابته بسهم مسموم.
مفارقات هزلية
هذه المفارقات الهزلية لا تلبث أن تتدحرج عبر تقنية قلب الأدوار إلى سلسلة من التطورات الدراماتيكية لكل من شخصيتي الكاتب والرقيب. فالأول يذعن لطلب الثاني بتمثيل مقاطع من مسرحيته، فيما يتماهى الثاني معه. وفي نقلة ذكية يتورط الرقيب في أداء دور الكاهن الذي يجلب زجاجة السم لجولييت كي تدخل في غيبوبة شبيهة بالموت تجعلها - كما هو معروف - تظفر بحبيبها روميو بعيداً من حقد عائلتي العاشقين وثاراتهما القديمة.
الكاتب بدوره، يؤدي دور جولييت محاكياً سلوك فتاة عذراء، وردود فعلها بقالب كاريكاتيري، إذ وظف مخرج العرض هذه المشاهد باستخدام أقنعة غرائبية مشتقة من مسرح النو الياباني وملابس مغايرة لشخصيتي الكاتب والرقيب، فأدخل كلاً منهما في مواقف هزلية، قادت إلى "إفيهات" رشيقة وذكية لعبها ممثلو العرض مبرزين مهارات عالية في الانتقال بين الشخصية والدور. فشخصية الكاتب الذي يؤدي دور الكاهن، وشخصية الكاتب الذي يؤدي دور جولييت أبرزت تناقضات كثيرة، وساهمت تقنيتا القلب والتنكر في نقل العرض من مزاج إلى آخر، وتنشيط إيقاع المسرحية التي ناهزت مدتها ساعتين من الزمن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التنكر والتقليد والمبالغات الحركية والجسدية وإبراز العيوب الخلقية واللفظية، جميعها كانت بمثابة مفاتيح لعرض كوميدي ساخر (مؤسسة اتجاهات - ثقافة مستقلة) تمكن من تشريح آلية الرقابة، وصولاً إلى رفض الرقيب للنص بعد موافقة الكاتب على إجراء جميع التعديلات. وحجته هذه المرة أن "الأوامر أتته من فوق" لرفض أعمال كوميدية، والمطالبة بأعمال تمجد الوطن، وأن المرحلة الحرجة التي تمر فيها البلاد لا تسمح بتقديم عروض المساخر والتنكيت، في حين يتم استدعاء الكاتب لأداء الخدمة الإلزامية، مما يثير تعاطف الرقيب معه، ويجعله يبوح بمشاعره إزاء الشرك الذي وقع فيه كموظف في رقابة النصوص، والذي يشبه حال طيور الحساسين الصغيرة التي قام الكاتب بإهدائها له، فمات قسم منها لأنها وضعت في العتمة لوقت طويل. وكذلك الغراب الذي وضعه في قفص أصغر من حجمه، فطار بعد أن نقر صاحبه. فطيور الحسون وقفص الغراب هما الهديتان اللتان قدمهما الكاتب للرقيب كرشوة لانتزاع الموافقة على نصه، وها هي الطيور والقفص يصيران مستوى رمزياً لقراءة أحوال الجلاد والضحية، في تبادل أدوار مرعب يضع كل منهما في موقع الآخر.
استخدم سمير عثمان الباش ستارة المسرح للفصل بين لوحة وأخرى أو فصل وآخر من العرض، مبقياً على إضاءة (مرح العريضي) عامة في الجزء الأول من العرض، فيما ذهب إلى مسرحة هذه الإضاءة في الجزء الثاني من "جامعة الضحك" العنوان الأصلي للنص الياباني، بينما أسهمت المختارات الموسيقية (رغد عزقول) في تأمين نقلات رشيقة بين أحداث المسرحية التي حاولت تقديم كوميديا فلسفية والاكتفاء بالابتسام الأدبي في الكوميديا، والابتعاد عن القهقهة. وهذا ما ذهب بالعرض السوري إلى تفجير طاقات كامنة في أداء شخصيات نمطية لم تكتفِ بمشاعر برانية، بل كانت لها عوالم داخلية ذات ثراء نفسي وعاطفي. وهذا ما جعلها تبدو أكثر قرباً من الجمهور، وأشد التصاقاً بالواقع المسلي الذي يحياه بعيداً من الافتعال والتهريج واستجداء الضحك.