Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حرب كلامية بين روسيا وأوكرانيا تبلغ حد البذاءة

عبارات نابية تروج في وسائل التواصل وروسيا التي منعت كلمة "حرب" أطلقت حرفاً رمزياً جديداً

الشعار الجديد الذي أطلقته روسيا ضد أوكرانيا (أ ف ب)

تعد اللغة الروسية مثالاً صارخاً على التهتك، إذ تسمح مرونتها بالاستفادة من مفردات محدودة وتركيبها مع غيرها لتشكيل كل أنواع الألفاظ النابية. لكن الشتائم تحتل مكانة متناقضة في الثقافة الروسية، فمع حرص الدولة على سن القوانين التي تُجرِّم استخدامها على وجه الإطلاق، وحظر الأفلام والكتب والمسرحيات المحتوية على أي لفظ خادش، هناك من يتباهى باستخدام اللغة الروسية في الشتائم، وبفضل بعض الألعاب الإلكترونية، استقطبت هذه اللغة المتهتكة جمهوراً دولياً عريضاً.

الشعار الوطني لأوكرانيا

لطالما حرصت المجتمعات الناطقة بالروسية على اقتلاع تلك الألفاظ من قاموسها اللغوي. صحيح أن القواعد المفروضة على الرقابة في منتصف الحكم السوفياتي تآكلت تدريجياً، بداية من السبعينيات من خلال الأدب غير المشروع، ومروراً بتخفيف الرقابة وتدفق الثقافة الغربية في الثمانينيات والتسعينيات، وانتهاءً بظهور وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن القواعد الصارمة لا تزال سارية، يضاف إليها بين الحين والآخر تشريعات جديدة في كل من أوكرانيا وروسيا على حد سواء، لعل آخرها كان في العام الماضي.

لكن الملاحظ في الحرب الجارية على أشدها الآن، أن تلك الألفاظ راحت تكتسب المزيد من التأييد الرسمي في أوكرانيا، حد أن أصبحت العبارة الموجهة لسفن الحرب الروسية، "Йди нахуй/ ضاجع نفسك" نوعاً من الشعار الوطني، يظهر على القمصان واللوحات الإعلانية وإشارات الطرق في جميع أنحاء البلاد. حتى أن الحكومة الأوكرانية أصدرت به طابعاً تذكارياً يظهر فيه جندي يشير بإصبعه الأوسط إلى سفينة عابرة. لكن الكاتب والأكاديمي أليكس أبراموفيتش، ذهب في مقال له إلى أن الترجمة الحرفية ليست "ضاجع نفسك"، بل "اجلس على ...".

 

أول من استخدم ذلك التعبير هو رومان هريبوف من حرس الحدود، وكانت فرقته المكونة من 13 رجلاً تتمركز في إحدى الجزر الأوكرانية في البحر الأسود حين دعتهم إحدى السفن الروسية إلى المشاركة في حصار الجزيرة حتى الاستسلام مقابل الأمان، فرفض المدافعون العرض باقتضاب، وردوا بالتعليق السابق.

روسي: "نكرر العرض: ضعوا أسلحتكم واستسلموا وإلا ستقصفون. هل فهمتمونني؟

أوكراني 1 "هذا كل شيء إذن. أم أننا بحاجة إلى مضاجعتكم لتتراجعوا؟"

أوكراني 2: "قد يكون كذلك".

أوكراني 1: "أيتها السفينة الروسية، ضاجعي نفسك".

لكن السفينة الروسية اقتحمت الجزيرة واختفى الجنود الثلاثة عشر الذين دافعوا عنها بضراوة، فظن الجميع أنهم قتلوا وأعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن منحهم "بعد وفاتهم" أعلى وسام أوكراني، "بطل أوكرانيا". وانتشر هذا الحوار على نطاق واسع عبر الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي المختلفة، ومنذ ذلك الحين أصبحت عبارة "هريبوف" صرخة حشد المقاومة الأوكرانية.

 لم ينته فبراير (شباط) حتى أعلنت البحرية الأوكرانية عبر صفحتها أن جميع حرس الحدود على قيد الحياة، تحتجزهم البحرية الروسية. وفي 24 مارس (آذار)، أعيدوا إلى أوكرانيا بمن فيهم قائل العبارة السابقة، في عملية تبادل للأسرى.

بوتين حارس اللغة

 

عرف بوتين باستخدامه التعبيرات الفظة، إلا أنه ظل حريصاً على تجنب الفحش، وتميز عهده بمحاولات متكررة لقمع الألفاظ النابية، كطريقة للإشارة إلى الالتزام بـ"القيم التقليدية" والسيطرة على حرية التعبير. ويمكن القول كذلك إن رغبته في الاختلاف عن الغرب المنحل، كانت من أهم دوافعه لحراسة اللغة.

في عام 2005، بعد أن بدأت الثورة البرتقالية في إضعاف النفوذ الروسي في أوكرانيا، توصلت روسيا إلى سن قانون جديد يعيد التأكيد على مكانة اللغة الروسية كلغة للدولة، واتخذ إجراءات رادعة ضد "الكلمات والعبارات التي لا تتوافق مع معايير الأدب الروسي المعاصر". في مارس 2014، أكملت روسيا ضمها لشبه جزيرة القرم وبدأت في رعاية الجمهوريات الانفصالية في دونباس. وفي الشهر التالي، تم تمديد الحظر الحالي المفروض على الشتائم في وسائل الإعلام المطبوعة والتلفزيون، ليشمل المسرح والسينما والموسيقى. ومنذ فبراير 2021، جرى تطبيق القواعد نفسها على وسائل التواصل الاجتماعي.

هكذا راح الروس يجتهدون في وضع قوانين تستثني المفردات المبتذلة من لغتهم– الجميلة- حفاظاً على نقاوتها، ووصلوا إلى حد حظر تداول الكلمات الأجنبية، بغرض تطهير الروسية من الشوائب، بما يتفق مع نزعة بوتين الأخلاقية في تكوين هوية قومية وروحية لبلده وحماية الثقافة الروسية من أي مؤثرات غريبة. غير أن إصرار الدولة على التحكم في اللغة بهذه الطريقة أدى إلى استفادة المعارضين لها، ومن جانب آخر، أكسب التحريم تلك الكلمات عنفواناً أشد. وها هم الأوكرانيون يقاومون بوتين باللغة التي طالما شن حروباً عليها. أمر ليس بجديد تماماً، فمثلما تعد هذه الحرب جزءاً من صراع ممتد، كانت الشتائم تشق طريقها إلى الخطاب السياسي في أوكرانيا منذ فترة. "بوتين خوي! بوتين العضو..."، الأغنية الشعبية الأوكرانية التي تعد بمثابة صرخة ضد الإمبريالية الروسية عام 2014.

 

اتساع قاموس الكلمات المحظورة

كانت هناك أربع كلمات محظورة في أي مطبوعة روسية لا يجرؤ أحد على التلفظ بها على شاشة التلفاز، تتعلق بالأعضاء التناسلية، وفعل المضاجعة، ومع بداية الغزو أضيفت لها مفردة خمسة، ألا وهي "الحرب".

الغريب أن روسيا تمنع مواطنيها الآن من استخدام كلمة "الحرب"، وتستعيض عنها، بمفهوم "عملية عسكرية خاصة". هذا النوع من التعبير اللطيف شاع في دوائر الترويج للحرب في جميع أنحاء العالم. لكن المفارقة الغريبة المتمثلة في حظر كلمة "الحرب" أثناء استعمالها، أن المحللين اعتبروها دليلاً على الهوس المرضي "البوتيني" تجاه اللغة، وهو أمر له كثير من القواسم المشتركة مع رؤيته الجيوسياسية (تأثير الجغرافيا على السياسة).

لقد أفضى الحظر التام المفروض حتى على الاعتراف بالحرب إلى مقاطعة البعض للقنوات الرسمية في روسيا، وعمل على تحويل شعار "لا للحرب"، إلى مضمون سياسي. في أواخر فبراير، امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي الروسية بالنكات حول رواية ليو تولستوي "الحرب والسلام" بتحوير عنوانها إلى "العملية العسكرية الخاصة والسلام".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبمنطق الاستبدال نفسه، خرج المتظاهرون احتجاجاً على الحرب حاملين لافتات كُتب عليها "كلمتان" بدلاً من "لا للحرب" المحظورة، واكتفى البعض بلافتة بيضاء تماماً، بينما ظهرت بعض اللافتات بسلسلة من النجوم. في الحالة الأخيرة، كان هذا أكثر من مجرد تذكير بالرقابة على الكلمات البذيئة، فالعلامات النجمية الثماني المعنية قد تصلح بديلاً عن "لا للحرب" ولكنها تصلح أن تكون أيضاً "fuck the war".

النتيجة واحدة، سواء اختار المحتجون التمويه باستخدام كلمات مختلفة أو بالإشارة أو حتى قطعة من الورق الأبيض، فقد قام رجال شرطة مكافحة الشغب المجهولو الهوية، بحشرهم في صناديق الشاحنات، ومن ضمنهم امرأة كانت تقف أمام كاتدرائية تحمل لافتة صريحة "لا ينبغي أن تقتل".

الفجوة المتزايدة بين اللغة والواقع

قد يبدو الفحش اللفظي جانباً تافهاً في مثل هذا الصراع المروع، لكن جيمي ران، المحاضر في اللغة الروسية في جامعة غلاسكو، يرى أن فهمها يمثل طريقة لفهم اللغة التي لعبت دوراً كبيراً في كل من دوافع موسكو المعلنة لهذا الغزو وفي استجابة كييف الجريئة. فهذا التلاعب بالمعنى الذي تمارسه كل من المعارضة والحكومة، يُذكرنا بتقليد طويل من الشعارات الساخرة في فن كومار والميلاميد والمفاهيميين في موسكو، الذين لفتوا الانتباه إلى فراغ كبير في البلاغة السوفياتية. استمر هذا الإرث حتى في الأوقات العادية، وفي معرض فني في مدينة نوفوسيبيرسك السيبيرية عام 2004، كان المتظاهرون يلوحون بلافتات تحمل شعارات سريالية وكوميدية لا تتعلق بمشاكل روسيا المباشرة بقدر ما تقصد السخرية من الفجوة المتزايدة بين اللغة والواقع.

على الجانب الآخر، بدأ المؤيدون لبوتين في البحث بدورهم عن رموز. إلى أن توصلوا إلى الحرف "Z" الذي ما لبث أن انتشر انتشاراً واسعاً، بعد أن ظهر لأول مرة على الدبابات المقتحمة لأوكرانيا. ولكن، ما الذي تقصده روسيا تحديداً بهذا الحرف؟ لا أحد يعرف بالضبط، فهو ليس حرفاً في الأبجدية الروسية، ربما لهذا يسهل تأويله على مستويات عدة. وإن كان بروزه في وقت تم فيه حظر الكلمات الروسية الحقيقية مثل "لا للحرب" فهو يلخص مفارقة اللغة في رحى الحرب الدائرة.

ذكرت "واشنطن بوست" أن "أوكرانيا تقاوم بكلمة بذيئة تلو الأخرى". بينما ترى "الغارديان" أن جملة "أيتها السفينة الحربية الروسية، ضاجعي نفسك!" قد تحتوي بالفعل على بذرة مستقبل عالمي مختلف للغة الروسية. لكن الروس لم يتراجعوا، ولكي يفعلوا ذلك، فإن أوكرانيا بحاجة إلى أكثر من مجرد كلمات".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة