Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"عطيل" منح العرب واحدة من أولى سعف مهرجان "كان" الذهبية

أورسون ويلز شكسبيري رغم أنه لم يكن مكثراً في اقتباسه سيد المسرح البريطاني

أورسون ويلز في فيلمه "المواطن كين" (موقع الفيلم)

طالما أن الثقافة السينمائية العالمية تعيش هذه الأيام تحت ظلال استعادة مهرجان "كان" الفرنسي تألقه ومجراه الطبيعي بعد عامين سادتهما الفوضى، سيبدو من المستحب العودة لهذه المناسبة نفسها إلى "لحظة عربية مضيئة" تمكن فيها بيرق دولة عربية من أن يتصدر ختام المهرجان معلناً عن فوز فيلم يمثل تلك الدولة في المسابقة الرسمية للمهرجان بتلك السعفة الذهبية التي تعتبر منذ ذلك الحين الغاية السينمائية الفضلى التي يتطلع إليها كل سينمائيي العالم مهما كانت مشاربهم وانتماءاتهم. وبالتالي يتطلع إليها كل سينمائي عربي على الإطلاق ولم يفز بها من العرب إلا قلة قليلة من مخرجين في مقدمتهم الجزائري محمد الأخضر حامينا عن فيلمه "وقائع سنوات الجمر"، واللبناني الشاب إيلي داغر بعده بعقود طويلة عن فيلم قصير عنوانه "عام 1982". وصحيح في هذا السياق أن هناك سعفة ذهبية أخرى فاز بها المخرج المصري الكبير يوسف شاهين عام 1997 لكنها كانت سعفة خاصة تدعى "سعفة الخمسينية" منحت لشاهين ليس عن فيلمه المشارك في المسابقة الرسمية عامذاك، بل عن مجمل أعماله؛ ومن هنا سيكون من الأفضل وضعها خارج السياق. وبالتالي يظل الحصول على سعفة المسابقة الرسمية حلماً عربياً يتكرر في كل عام ويبدو عصياً على سينمائيي منطقتنا. وهنا قد يتساءل القارئ: فماذا إذن عن السعفة التي افتتحنا بها هذا الكلام؟

سعفة بالواسطة

سنوضح: هي سعفة منحت لفيلم قدم يومها باسم دولة المغرب التي كان في إمكانها أن تفخر حقاً بذلك الفوز لولا أنه في الحقيقة لم يكن متوقعاً ولا مستحقاً حتى ولو أن الفيلم حمل توقيع واحد من كبار السينمائيين في تاريخ الفن السابع: أورسون ويلز. وذلك مع أن الفيلم صور في الصويرة بالمغرب ويحمل عنواناً جرى التوافق على أنه "عربي". ونتحدث هنا طبعاً عن فيلم "عطيل" المقتبس من مسرحية شكسبير الخالدة، والذي قدم في مسابقة "كان" يومها، وكان ذلك في عام 1952 باسم المغرب لأسباب.... لا علاقة للمغرب بها. وهنا يكمن بالطبع الجانب الطريف من الحكاية، الحكاية "الغريبة" التي جعلت المغرب يدخل تاريخ أكبر مهرجان سينمائي في العالم من دون أن يكون عارفاً عن الموضوع شيئاً. والحكاية أن الأميركي أورسون ويلز صور "عطيل" كإنتاج أوروبي، فرنسي – إيطالي على الأرجح وصور مشاهد منه في قبرص وأخرى في إيطاليا ليختتم التصوير في المغرب. ولكن بما أنه كان ثمة مشاكل قضائية تتعلق بحقوق مؤلفين ونقابات كاد الفيلم يكون من دون هوية محددة، لولا أن المنتجين توافقوا في نهاية الأمر على تسجيله كفيلم مغربي، في وقت لم تكن فيه في المغرب بنى تشريعية ورقابية تحول دون ذلك، خصوصاً أن الفيلم كان قد نال رخصة بأن يصور في الصويرة. وهكذا اكتملت الدائرة وحين منح محكمو "كان" أورسون ويلز سعفتهم لم يكن ثمة مانع في أن يعتبر الفوز فوزاً مغربياً!

 

تكوين مرتبط بسيد المسرح

وهنا تكتمل بالنسبة إلينا في هذا السياق حكاية "الفوز العربي" الأول بسعفة "كان"، وهو فوز جرت العادة على أي حال على عدم احتسابه فهو أولاً وأخيراً فوز لأورسون ويلز الذي ظل طوال حياته فخوراً بتلك القيمة الكبيرة التي أسبغته عليه يومها شكسبيريته. ونعرف بالطبع أن تلك الشكسبيرية تعتبر دائماً من المكونات الرئيسة لفن ويلز إلى درجة يعتقد فيها البعض أنه ما توقف طوال حياته عن تحقيق أفلام شكسبيرية. لكن هذا الاعتقاد خطأ فادح، والحقيقة التي أشرنا إليها هنا قبل يومين، هي أن شكسبير كان، من ناحية الكم الإنتاجي، الأقل دنواً من شكسبير من بين كل الذين توغلوا في تحقيق أفلام شكسبيرية. فهو لم يحقق للشاشة الكبيرة من بين مسرحيات شكسبير سوى اقتباسين واحد يتعلق بـ"عطيل" الذي تحدثنا هنا عنه وأعطاه واحدة من سعف كان الأكثر استحقاقاً في تاريخ المهرجان، وقبله بأربع سنوات أي في عام 1948 تلك التحفة التي اقتبسها عن "ماكبث"، وهي ثنائية يمكننا على أي حال أن نضيف إليها عملين يدنوان من شكسبير، ولكن بشكل موارب، أولهما فيلم "فالستاف" (1966) الذي لا يمكننا العثور على أصله الشكسبيري إلا من خلال التدقيق في أربع من مسرحيات لشكسبير ظهرت فيها شخصية فالستاف من دون أن يكرس له الكاتب مسرحية خاصة به؛ ومن ثم بعد ذلك الفيلم الوثائقي "تصوير عطيل" الذي سيكون في عام 1979 آخر ما حققه ويلز قبل أعوام قليلة من وفاته.

ضآلة كمية وكثافة نوعية

واضح هنا إذاً أن حصيلة أورسون ويلز الشكسبيرية ليست بالشيء الذي يعتد به من الناحية الكمية. ولكن هل يحق لنا يا ترى أن نؤكد هذا ونختم قولنا؟ على الإطلاق وذلك لأن صاحب "لمسة الشر" و"السيد آركادان" و"المواطن كين" و"سيدة من شانغهاي" وسواها من تلك الأفلام التي تشكل علامات أساسية في تاريخ السينما، إنما أنتجها كتحف إبداعية تحققت تحت ظل شكسبير وفنه؛ بل أكثر من ذلك في بوتقة المماهاة التي أقامها ويلز دائماً بينه وبين سيد المسرح الإليزابيتي البريطاني الذي كان يعتبره أستاذه الأكبر بل ربما اعتبره في سره المعلم الذي إنما يتقمصه هو الآن في العصور الحديثة. بل ولعل في إمكاننا هنا أن نقول إنه لئن كان من عادة كبار السينمائيين الشكسبيريين بمن فيهم لورانس أوليفييه وكينيث براناه والسوفياتي كوزنتسيف وصولاً حتى إلى جوزف إل مانكيفيتش الذي سوف يقضي فشله في تحقيق ذلك الفيلم الذي سيضحى أيقونياً عن "كليوباترا" في اقتباس عن المسرحية الشكسبيرية عنها وعن علاقتها بأنطوني، سوف يقضي على مساره المهني الذي كان يعد بأن يكون بدوره شكسبيرياً إلى أبعد الحدود، لئن كان من عادتهم أن يحققوا أعمالهم عن شكسبير ثم ما إن ينجزوها حتى يعيشوا حياتهم بشكلها الطبيعي، فإن أورسون ويلز كان على العكس منهم: كان يواصل حياة شكسبيرية أخاذة خلال عمله على سينماه، شكسبيرية كانت أم لم تكن، وخارج عمله على تلك السينما. كان شكسبيرياً في حركاته وسكناته كما في طريقته في الكلام، تلك الطريقة التي أمنت له على أي حال مقومات العيش حين كان يبقى سنوات من دون عمل إخراجي فيستعان به كراو لأفلام متنوعة وثائقية أو روائية وقد طلب منه أن يقوم بعمله بشكل "طبيعي" وهي الكلمة– المفتاح طبعاً التي تعنى في حالته: بصورة شكسبيرية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

شكسبير القرن العشرين

ثم إذ نشير إلى هذا كله فلا بد لنا من أن نتساءل في استنكار طريف، لكنه صائب في نهاية المطاف: ترى من ذا الذي يجرؤ على القول إن أورسون ويلز (1915 – 1985) لم يخض السينما الشكسبيرية إلا عبر تلك الحفنة القليلة من الأفلام المنتمية مباشرة إلى مسرحيات شاعر الإنجليز الأكبر؟ فالحقيقة أن كل ما حققه وكتبه أورسون ويلز من أفلام أتى شكسبيرياً في عمق أعماقه، يدنو من مفهوم الشر دنواً شكسبيرياً، ومن مسألة السلطة بشكل شكسبيري ومن الحب والعلاقات بين البشر كما من مسائل المال والمرأة والعلاقات العائلية وإلى آخر ما هنالك من قضايا وتصورات ومفاهيم ازدحمت بها سينماه ازدحاماً مدهشاً، يدنو من ذلك كله دنواً شكسبيرياً خالصاً ودائماً بشكل يبدو معه هذا السينمائي العملاق، والذي كان دائماً ما يفضل أوروبا وفنونها على وطنه الأميركي، وكأنه إنما جعل من نفسه مكملاً لحياة شكسبير ومستطرداً لأفكاره متابعاً لمساره الإبداعي أكثر كثيرا مما يبدو مفسراً لتلك الأعمال راوياً لتلك الحياة مستورداً لتلك الأفكار أو ناقلاً لها. ففي نهاية الأمر لم يكن أورسون ويلز في حاجة لأن يقتبس شكسبير في مزيد من الأفلام. بل كان في حاجة لأن يعيشه ويستلهمه وهذا كله فعله ونجح فيه فكان شكسبير القرن العشرين لا أكثر ولا أقل.

المزيد من ثقافة