Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حصة شكسبير المهدورة بين السينمائي المشاكس والكاتب الغاضب

يوم حوّل غودار "الملك لير" إلى فيلم يبحث في شؤون السينما وجعل نورمان ميلر يشخّص نفسه

ربما صُدم شكسبير نفسه أكثر من أي شخص آخر لو عاد من قبره وشاهد "الملك لير" الغوداري (موقع فيلم)

من الناحية العددية، لم تحظَ مسرحية "الملك لير" لشاعر الإنجليز الأكبر شكسبير باقتباسات سينمائية تصل إلى ما حصلت عليه "هاملت" أو "روميو وجولييت" أو "عطيل" أو حتى "ماكبث"، ففي مقابل ما لا يقل عن 100 فيلم نقلت حكايات كل من هذه المسرحيات الشكسبيرية، لم يكن من نصيب "الملك لير" أكثر من 15 اقتباساً معلناً، هذا إذا نحينا جانباً عشرات الأفلام التي تابعت الموضوع نفسه، إنما من دون أن تفصح عن شكسبيريته. ومع ذلك لا شك أن فيلموغرافيا "لير" قادرة على أن تفخر بأن عدداً من كبار السينمائيين قد تعاقبوا على أفلمتها من الياباني كوروساوا في "ران" إلى الروسي كوزنتسيف والبريطاني بيتر بروك والأميركي إدوارد دمتريك والفرنسي لوي فوياد... واللائحة تطول. غير أن الأغرب، وبالتالي الأقل نجاحاً كما سوف نرى، يبقى شريط "الملك لير" الذي حققه الفرنسي/ السويسري جان لوك غودار عام 1987، والذي لن يكون متفرجه على خطأ إن هو وقف مدهوشاً بعد انتهاء عرضه يتساءل "... ولكن أين هو لير؟ وأين شكسبير؟".

بعيداً جداً من شكسبير

فالحقيقة أن ليس في تاريخ السينما فيلم يبدو كهذا الفيلم بعيداً كل البعد من موضوعه المفترض، حتى وإن كان لن يفوت الناقد الأميركي ريتشارد برودي، صاحب الكتاب الذي يعتبر أفضل ما صدر عن غودار حتى اليوم، "كل شيء سينما: حياة غودار العاملة"، أن يعلن في مقال نشره في "نيويوركر" أن هذا الفيلم "هو أعظم فيلم سينمائي حقق في تاريخ الفن السابع"! ومن المؤكد أن المبالغة هنا كبيرة لكنها تستحق أن تذكر. ومهما يكن من أمر فإن برودي نفسه هو الذي يمعن تفصيلاً في حكاية تحقيق هذا الفيلم الذي لعل من أهم مزاياه أنه جمع بين نورمان ميلر وشكسبير، بين وودي آلن وبيتر سيلرز وليو كاراكس، وغيرهم من كبار تلك المرحلة، في عمل واحد لا شك أنهم جميعاً تساءلوا عما تبقى فيه من حصة لشكسبير نفسه. وينطلق برودي في حكايته من المنتجين الإسرائيليين غولان وغلوبوس، اللذين كونا في ثمانينيات القرن العشرين شركة "كانون" وهجما بها على السينما العالمية بأموال طائلة قصد غزوها بأفلام بعضها ينبغي أن يكون تجارياً خالصاً وأخرى لا بأس أن تكون فنية وتنتمي إلى سينما المؤلف. وطبعاً لم يسأل أحد يومها عن مصدر تلك الأموال، فالسؤال تأجل إلى زمن تلا إفلاس الشركة كما تقتضي الحال عادة. لكن الشركة وفي عز ازدهارها أحبت أن تضم غودار إلى لائحة مبدعيها. يومها تردد غودار أول الأمر، مبدياً شكوكه في جذور الشركة وأهدافها، لكنه وبشيء من الدبلوماسية لم يرفض تماماً حين جرى الاتصال به، بل اكتفى باقتراح مشروع بدا له أن الشريكين الإسرائيليين سيرفضانه بالتأكيد، وهو مشروع أفلمة "الملك لير"، لكنهما وافقا بسرعة مدهشة ليتبين لاحقاً، وبعد إنجاز الفيلم الذي كلف أكثر كثيراً من ميزانية المليون دولار التي رصدت له، أنهما لم يقرآ السيناريو الذي أرسله إليهما مرفقاً باقتراحه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سرور منتج "مغفل"

بل إنهما أبديا سروراً فائقاً حين طلب غودار قبل الشروع بتصوير الفيلم مده بميزانية إضافية تمكنه من تصوير حوار طويل في "نيويورك يجريه" مع وودي آلن كنوع من إغراء هذا الأخير للعمل في "الملك لير". ولقد صور غودار الحوار بالفعل ليتخذ ذلك التصوير شكل فيلم مستقل سيقول النقاد إن غودار تكلم فيه أضعاف ما تكلم وودي، الذي ما إن يفتح فمه ليجيب عن سؤال من أسئلة غودار حتى يقطع هذا على لوحة لإدوارد هوبر، أو على مشهد لمسلسل تلفزيوني، أو على موسيقى جاز، أو أغنية من تلحين جورج غرشوين، بحيث بات السؤال هنا "أين وودي في فيلم غودار؟" نوعاً من الاستباق للسؤال الآخر اللاحق حول "أين شكسبير في فيلم (الملك لير) الغوداري؟"، كما سنرى بعد سطور، وإن كان لا بأس أن نذكر منذ الآن أنه لئن كان هذا الفيلم لن يعرض في فرنسا حتى 2002، بسبب غضب منتجيه وطرحهما السؤال نفسه ما إن شاهداه منجزاً على يد "المخرج الطليعي الأكبر في العالم"، بحسب التعبير الذي صاغه المنتج غولان وهو يعلن بداية عن تعاقده مع غودار لإنتاج "الملك لير"، فما هذا لأن الفيلم شكل مفاجأة بل صدمة، ربما كان من شأن شكسبير نفسه أن يشعر بها أكثر من أي شخص آخر لو عاد من قبره وشاهد الفيلم.

هموم غودارية مشروعة

فالحال أن ما هم غودار هنا لم يكن المسرحية الإليزابيتية الشهيرة، ولا حكاية الملك الذي غدرت به بناته والناس أجمعون بعدما قسم أملاكه بين البنات، ولا حتى حديث الشيخوخة والغدر الذي لا يتوقف الملك عن ترداده وهو يعيش نهايته الكئيبة غير واجد عزاء له إلا لدى صغيرته كورديليا. فكل هذا لا يمكن العثور عليه في الفيلم الذي تدور "أحداثه" في الزمن الراهن من دون أن يبدو في حبكته ولو عصرنة من البعيد للحكاية العتيقة. كان من الواضح لمن قرأ السيناريو– ولكن هل قرأه أحد أصلاً؟- أن هم غودار يتحرك في موقعين: من ناحية مصير فن السينما نفسه أمام هجمة التلفزيون، والعلاقة المحرمة بين الأب وابنته من ناحية أخرى. ولنا هنا أن نتخيل وجه الكاتب الكبير نورمان ميلر، الذي تعاقد معه غودار ليلعب دور "الملك لير" أمام ابنته الفعلية بيغي، التي وجدت في القيام بدور كورديليا هنا مدخلاً لعمل سينمائي كانت تحلم بدخوله، فإذا بوالدها يكتشف أن غودار يطلب منه أن يرتجل حوارات تنم عن شغفه بها! ولنا أن نتخيل زوجة الكاتب ميلر وهي تصرخ به بعدما علمت بشكل تلك الحوارات، أن عليه أن يوقف العمل في هذا الفيلم الموبوء ويطرد هذا المخرج المنحرف من حياته. ونعرف في الأقل أن غودار قد ألغى تلك الحوارات وهذا المشهد برمته، وإن كان قد أبقى على بنية الفيلم وموضوعه كما هما، كما بدل من وظيفة نورمان ميلر في الفيلم، فبدلاً من أن يجعله أنا/ آخر لشكسبير، جعله يلعب دور الكاتب نورمان ميلر نفسه، علماً بأن هذا الأخير كان قد شارك أصلاً في كتابة السيناريو الذي سيروي برودي أن غودار لن يستخدم منه أشياء كثيرة عند التصوير، الذي جاء في معظمه مرتجلاً. لكن هذا لم يكن أكثر ما في الفيلم انحرافاً.

35 ألف متفرج في أوروبا

كان هناك أيضاً أن غودار أصر على تصوير الفيلم باللغة الإنجليزية الشكسبيرية من دون أن يرفق ذلك بترجمة إلى الفرنسية أو إلى أية لغة، مصراً في المشاهد التي أداها بنفسه بلهجة إنجليزية– سويسرية على أن ينطق نطق أورسون ويلز في أفلام هذا الأخير الشكسبيرية، وأنه لعب بنفسه دور معلم سينمائي محاط بتلاميذ ومريدين يبجلونه وهو يسعى معهم للبحث عن وسيلة لإنقاذ الفن السينمائي من المخاطر التلفزيونية. ولعل المشهد الذي يجمعه بشكسبير جونيور (ويلعب دوره الفكاهي الكبير في ذلك الحين بيتر سيلرز)، أو بوودي آلن وهو يلعب دور "مستر آلين" الذي يكاد يكون دوره الخاص، يعبر عن غودارية الفيلم بأكثر مما يعبر أي مشهد آخر عن ذلك.

وبعد هذا هل يمكننا أن نستغرب من منتج كان هو من أنتج بعض أقبح أفلام "الأكشن" في السينما الأوروبية والأميركية في ذلك الحين، والذي كان يريد من جان لوك غودار أن يسبغ على شركته مقابل مليون دولار بعض سمعة ثقافية، أن يذهل أمام شريط لم يفهم منه شيئاً، وقدر أن الجمهور بدوره لن يفهم منه شيئاً، فيقرر التريث في عرضه وهو يكظم غضبه؟ وهل يمكننا في نهاية هذا الكلام أن نلوم المنتج إذ نعرف أن "الملك لير" كما حققه غودار كان أقل أفلام غودار نفسه نجاحاً، وأن ما لا يزيد على 35 ألف متفرج قد شاهدوه في طول أوروبا وعرضها خلال عروضه الأولى، على الرغم من إعجاب مؤرخ السينما ريتشارد برودي الهائل به؟.

المزيد من ثقافة