Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الليلة الثانية عشرة" مسرحية شكسبير التي أضحكت إليزابيث الأولى

حين يقارن المؤرخون شاعر الإنجليز الأكبر بزعيم الهزليين الفرنسيين

لوحة تصور مشهدا من المسرحية بريشة دانييل ماكليز (1806 ـ 1870) (تايت غاليري)

في كثير من الحالات يكون هناك في لائحة الأعمال الإبداعية التي تعود إلى واحد من المبدعين الكبار، أعمال قد تكون قليلة العدد، وتظهر في أزمنة متفرقة، ويكون من ميزاتها أنها قد لا تعتبر من الأعمال الكبرى لهذا الفنان، وإنما هي أعمال تلخص مرحلة من مراحل إبداعه أو نوعاً خاضه، أو دنا منه في مرحلة أو أخرى. ونعرف أن في مسيرة شاعر الإنجليز ومسرحييهم الأكبر ويليام شكسبير أعمالاً عديدة يمكن أن تنطبق عليها هذه المقولة، ولكن في هذا السياق تحديداً يمكن التوقف بخاصة عند تلك المسرحية التي تعرف باسمين حيّر أمرهما النقاد والمؤرخين: "الليلة الثانية عشرة"، أو "ليلة الملوك". وهي مسرحية رومانطيقية كوميدية أنجزها شكسبير بين عامي 1599 و1600، ويعتبرها مؤرخو عمله من أفضل كوميدياته على الإطلاق.

توليفة موفقة

ومع ذلك يعترف هؤلاء المؤرخون بأن هذه المسرحية تكاد تكون "اجتراراً" لمسرحيات كوميدية سابقة، بل ربما لاحقة أيضاً، لصاحب "روميو وجولييت"، و"ترويض الشرسة"، نهلت من مواضيعها، وولفت بين أساليبها لتقدم ما يمكن اعتباره نوعاً من التنويع على تلك الأعمال، ومن أبرزها "كما سيحلو لك"، و"كوميديا الأخطاء" و"حلم ليلة صيف" و"أسمع جعجعة..."، ولكن هنا في إعادة استخدام باهرة جعلت عدداً من النقاد يقولون إن شكسبير بهذه المسرحية قد أوجد للمبدع الكوميدي فيه مكانة لا تقل عن مكانته كمسرحي تراجيدي أو كمبدع في كتابة المسرحيات التاريخية، بيد أن هذا الحكم لا ينبغي أن يُكتفى به من خلال قراءة نص المسرحية، أو حتى من خلال قراءة ما كتب من حولها أو من تلخيص لها، على يد الزوجين لامب مثلاً، اللذين عرفا عموم القراء على الأعمال الشكسبيرية دون أن يحتاجوا إلى مشاهدتها على المسرح! مع "الليلة الثانية عشرة" تتبدل الحال وتصبح مشاهدة المسرحية على الخشبة ضرورة حتمية للتعرف عليها كحال الأعمال الأوبرالية. ومهما يكن من أمر لا بد من الإشارة هنا إلى أن هذا البعد الأوبرالي في الحديث عن "الليلة الثانية عشرة" لا يمكن اعتباره صدفة.

ميلودراما وهزل

فالحال أن سياق المسرحية نفسه، بل موضوعها الذي يتراوح بين الميلودراما و"الكوميديا ديل آرتي"، كان يمكن أن يلفت إليها نظر أقطاب هذا النوع الأوبرالي لتحويل المسرحية إلى عمل من هذا النوع، لكن الغريب في الأمر أن السينما والتلفزة اهتمتا بها في القرن العشرين، بينما لم يفعل الموسيقيون ذلك، باستثناء افتتاحية لها كتبها موسيقي روسي في ثلاثينيات القرن العشرين نفسه، ولم تلفت الأنظار حقاً. المهم إذاً أن مصير هذه المسرحية وإن بدا مجيداً على الخشبة، ولا يزال كذلك حتى اليوم، حيث لا يمضي موسم مسرحي إلا ويشهد تقديماً جديداً لها يحاول دائماً أن يجدد في أشكالها إلى درجة قد يقترب بها أحياناً من الأوبرا الكوميدية باستخدامات موسيقية وحتى غنائية متنوعة، لم يكن ذا حظ مع الموسيقى. وهنا قد يكون من المفيد أن نذكر أن المؤرخ الفني جون مانيغهام يحكي في يومياته أنه قد شاهد تقديماً للمسرحية في عام 1602، وأنه كان من السهل له أن يقارنها مع مسرحية إيطالية هزلية عنوانها "الأخطاء" لم يذكر اسم مؤلفها، ولكن من المعتقد أنه أراد أن يتحدث عن مسرحية "المخدوعون" التي تعود إلى عام 1537، والتي نعرف أن كثيراً من المؤلفين الأوروبيين قد نهلوا منها قبل شكسبير، ولا سيما فيما يخص استخدام شخصية الفتاة التي تتنكر في ثياب رجل لظرف من الظروف جاعلة الحابل يختلط بالنابل في لعبة كوميدية لا شك أن في مقدورنا القول إن شكسبير قد أوصلها إلى الذروة من خلال استخدامها نقطة مركزية في هذه المسرحية، ولكن مع تنويعات مبتكرة على أية حال.

من سفينة غارقة إلى قصر حاكم مغرم

تدور المسرحية الشكسبيرية التي نحن في صددها هنا من حول الدوق أورسينو الذي يحكم إمارة إيطالية صغيرة، ويجد نفسه عالقاً ذات يوم في هوى أوليفيا الأرملة الحسناء والثرية التي تتذرع لرفضه بكونها تعيش فترة حداد على أبيها وأخيها اللذين ماتا لتوّهما. في الوقت نفسه تغرق سفينة بركابها غير بعيد من الإمارة ولا ينجو من بين ركابها سوى أخ وأخت توأمين هما سيباستيانو وفيولا، اللذان لا يتنبه أي منها لنجاة الآخر، وتكون فيولا أول الظاهرين من بينهما لتجد نفسه في قصر الدوق، وقد تنكرت في زي وصيف لهذا الأخير مطلقة على نفسها اسم سيزاريو، والذي يحدث أن أوليفيا ما إن تلتقي بـ"سيزاريو" هذا إذ بعث به الدوق لكي يقنع الحسناء بقبول عروض الدوق عليها، حتى تقع في هواه لكياسته ووسامته معتقدة أنها إنما التقت هنا بأجمل شاب شاهدته في حياتها. وفي تلك الأثناء يكون سيباستيانو توأم فيولا قد نجا من الموت بدوره كما أشرنا والتحق بدوره بقصر الدوق. ولنا هنا أن نتخيل مجموع الأحداث والمصادفات والقلبات المسرحية التي لا بد ستنشأ عن وجود هذين التوأمين في مدينة واحدة وفي أماكن متقاربة علماً بأن الشبه بينهما يصل إلى حدود التطابق التام، ناهيك بجملة من ألاعيب تقوم دائماً هنا من حول أوليفيا التي سرعان ما سندرك أن الدوق ليس هو وحده من يهيم بها يجتذبه إلى ذلك جمالها ولكن كذلك ثروتها الطائلة... فالراغبون فيها كُثر، لكنها هي الآن لا تريد عن "سيزاريو" بديلاً، اللهم إلا حين ستجعلها مصادفة من النوع الذي يكثر عادة في المسرحيات الهزلية، ولا سيما في ما هو ميلودرامي منها، تلتقي سيباستيانو معتقدة أنه نفس الفتى سيزاريو الذي بات محط غرامها الوحيد. وطبعاً تكون نتيجة ذلك اللقاء أن أوليفيا تركز غرامها على التوأم الذكر في الوقت الذي كانت فيه فيولا قد ركزت اهتمامها على الدوق، وراحت تهيم به سراً، بينما هو يعتقدها ذكراً، ويُدهش لجمالها الأخاذ.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قسمة عادلة

في نهاية الأمر سيحصل ما لا بد من حصوله، سينتهي الأمر بالاتحاد بين أوليفيا وسيباستيانو، في الوقت الذي تختتم به فيولا معاناتها ومغامرتها الغريبة بالزواج من الدوق الذي كانت في الحقيقة مغرمة به منذ زمن، ولكن قبل الوصول إلى ذلك، كان لا بد من مشاهد عديدة عرف فيها شكسبير كيف يوصل حسه الإبداعي في المجال الكوميدي إلى ذروة غير مسبوقة. ومن ذلك مثلاً ذلك المشهد البديع في الفصل الثاني، حيث نبدأ بجو رومانطيقي يصل فيه هيام فيولا بسيزاريو إلى حد مُدهش، ونكاد نصل إلى ذلك "الحب المستحيل" بين سيدتين أولاهما تعتقد أن محبوبها شاب جميل فيما الثانية تعرف الحقيقة، لكنها تريد الإفلات دون أن تفقد عملها وثقة "سيدها" الدوق بها. طبعاً سينتهي المشهد على خير، ولكن في قفزة كوميدية أوصلتها عبقرية شكسبير إلى نهاية غير متوقعة، لكنها عرفت كيف تجعل منها لحظة مسرحية نادرة. ولم يكن غريباً أن يقارن المؤرخون بين إبداع شكسبير هنا وبين مشاهد مماثلة في أجمل أعمال موليير الكوميدية التي اشتهرت بكونها تنطلق من الرومانطيقية لتصب في هزل يجعل المتفرجين، لا القراء وليس ثمة مفر هنا من أن نكرر هذا القول بالنظر إلى أن الجزء الجوهري من مثل هذه المشاهد يأتي لدى شكسبير بصرياً أكثر منه لغويا، يجعلهم ينقلبون على قفاهم من الضحك، وربما يكون هذا قد حدث للملكة اليزابيث الأولى التي يقول لنا تاريخ المسرح الشكسبيري أنها حضرت العرض الأول لهذه المسرحية (ولذا سميت أيضاً "ليلة الملوك"!) بل كتبت من أجلها أصلاً لمناسبة استقبالها الدوق الإيطالي أورسينو، الذي من الواضح أن شكسبير استخدم اسمه اسماً للشحصية الرئيسة في مسرحيته كنوع من التحية له، وسيقال إنه كان ينقلب على قفاه بدوره من الضحك ويصفق منتشياً أمام كل مشهد يسليه وكانت تلك المشاهد كثيرة على أية حال في تلك التي تعتبر واحدة من أكثر مسرحيات شكسبير، بل المسرح الإنجليزي، هزلاً.

المزيد من ثقافة