بعد أكثر من عقد على رحيله، يعود يوسف شاهين إلى الشاشات التي يبدو وكأنه لم يغادرها يوماً. حيناً كان شاهين نزيل السينماتك الفرنسية في باريس، أي في البلد الذي أحبّه وتحدّث بلغته وأقام معه علاقات من الند للند، وحيناً آخر حلّ ضيفاً في تشيكيا التي عرضت له مجموعة أفلام في إطار مهرجانها كارلوفي فاري الشهير. وبين المحطتين، جال طيفه في دول أوروبية كثيرة (ألمانيا وسويسرا وإيطاليا)، متحدّثاً من خلال سينماه، ومفتعلاً حواراً خفيّاً بين الأمس واليوم. في كلّ هذه العروض، كان شاهين الغائب الحاضر، لعل غيابه جعله أكثر حضوراً في الوجدان، ليبلغ أخيراً ما يطمح اليه كلّ فنان: أن ينوب عنه فنّه!
كان شاهين طوال حياته حريصاً على أن يشاهد الجمهور أعماله في أفضل شروط، صوتاً وصورة. وها إن التكنولوجيا الرقمية الحديثة سمحت بترميم عدد من أعماله، وهذا ما أتاح للموعد أن يتجدد. إلاّ أن هذا لا يحدث من دون ترتيبات وجهد كبير. فهناك ناس يحمون الإرث الكبير لصاحب "باب الحديد" من الاندثار في عالم يتطور بإيقاع سريع ويميل إلى إهمال كلّ ما هو قديم. ابنة أخت شاهين، المخرجة والمنتجة ماريان خوري، من الذين كرّسوا جلّ وقتهم لصون إرث المعلم. فهي أمضت آخر أشهر من حياتها، تحاول وضع سينماه في ضوء متطلبات العصر، وذلك عبر السعي إلى ترميم عدد من أعماله.
عوالم سينمائية
ففي نهاية العام الماضي، نظّمت السينماتك الفرنسية احتفالية لشاهين حملت عنوان "رحلة في عوالم يوسف شاهين"، بمناسبة مرور عشرة أعوام على رحيل هذا الذي يسمّونه في مصر "المخرج العالمي". وتضمّن المعرض المرافق للاحتفالية عدداً من مقتنيات شاهين ومخطوطات وديكوباج أفلامه وآلاته الموسيقية، هذا كله مأخوذ من أرشيفه الخاص الذي فتحه للجمهور. إن فتح أبواب حديقة الفنّان السرية للجمهور العريض، وعرض مقتنياته أمام عيون المتلصصين الفضوليين، تقليد غربي عريق تكرّس وتمأسس على الرغم ممّا ينطوي عليه من فيتيشية. عدد لا يُحصى من المعارض والاستعادات يُقام سنوياً في العواصم الغربية الكبرى، للتعريف عن مخرج والاحتفاء بأعمال ممثّل. أما إعادة الطرح في الصالات للأفلام القديمة كي تشاهدها الأجيال التي لا تعرفها أو لهؤلاء الذين يريدون اكتشافها في ضوء النضج الذي بلغوه، فهذا أيضاً وظيفة مؤسسات ثقافية تحمل فكراً تنويرياً وبيداغوجياً، وهذا تقليد للأسف شبه غائب في العالم العربي.
"زاوية" القاهرة
مع عملية ترميم أفلام شاهين وعرضها على الجمهور منذ أواخر العام الماضي إلى اليوم، لمس بعض العرب أهمية الذاكرة السينمائية. بعض الشباب العربي أدرك ماذا يعني بالنسبة إلى الجيل الذي ينتمي إليه أن يتخطى حاجز الزمن ويتابع على الشاشة الكبيرة أعمالاً كان سمع عنها من دون أن يشاهدها. وبعيداً من المحطتين في باريس وكارلوفي فاري، فإن العروض التي جرت لأفلام شاهين المرممة في القاهرة في نهاية العام الماضي، كانت حاسمة للانتباه لأهمية هذا الموضوع. فطوال أيام، طوابير طويلة تكدّست أمام سينما "زاوية" في وسط القاهرة. استطاع الجمهور القاهري من الأعمار كافة، العودة إلى زمن شاهين والأزمنة التي صوّرها، من خلال ٢١ فيلماً مرمماً، وفي المكان الشرعي للمشاهدة السينمائية، أقصد الصالة.
مع التطور التكنولوجي الذي شهده العالم أخيراً، باتت مهمة الترميم الرقمي للأفلام أسهل. وهذا ما شجّع شركة "مصر العالمية" على ترميم الأفلام التي تمتلك حقوقها، علماً أنّ شاهين أنجز أفلاماً من إنتاح شركات أوروبية أخرى، وبالتالي تعود مهمة ترميمها إلى الشركات تلك. ولكن ماريان خوري تسعى إلى ترميم كلّ أفلامه، وهذه عملية صعبة ومكلفة، تطلّب الفصل الأول منها حتى الآن نحو عشر سنوات.
بعض أفلام شاهين التي تحطّمت على شبّاك التذاكر في حينها، منها "الناصر صلاح الدين"، لاقت مجداً غير مسبوق أثناء عرضه بعد الترميم. صحيح أن الفيلم عُرض مرات عدة في المحطات المصرية، إلاّ أنها كانت عروض لا تفي العمل الطموح حقّه. غالب الظن أن شاهين لم يُشاهد مثل هذا الإقبال على أفلامه عندما كان على قيد الحياة.
نقاش عربي - غربي
في كارلوفي فاري، المهرجان الذي شهد حضوراً مقبولاً من حيث العدد للسينما العربية بعد الربيع العربي (كان المهرجان قليل الاهتمام بالمنطقة العربية قبل الانتفاضات الشعبية)، أسهمت أفلام شاهين في فتح النقاش بين العرب والأجانب. صحافي من دولة أوروبية كان يجلس قربي خلال أحد العروض بدا مندهشاً بـ"اسكندرية ليه؟". أُعجب بلغته العصرية وقلقه السينمائي، وظل يرشقني بالأسئلة عن شاهين بعد خروجنا من الصالة. أما المدير الفني للمهرجان، كاريل أوخ، فاعترف بأن أوروبا الشرقية عموماً وتشيكيا خصوصاً، لطالما كانت مقصّرة في التعريف بشاهين للجمهور المحلي، وجاءت التحية له بمنزلة تعويض. انطلاقاً من هذا، اختير ١١ فيلماً مرمماً لشاهين شقّت طريقها إلى شاشات المهرجان التشيكي.
تروي ماريان خوري أن شاهين نفسه كان بدأ في مشروع ترميم أفلامه، إلاّ أنّ وفاته حالت دون أن يحقق ما في باله. تقول: "كان صاحب وعي كبير في مسألة الحفاظ على الأفلام. وحتى إنه كان بدأ يشتري الأفلام التي لم يكن منتجاً لها. وكان باشر في تنظيم أرشيفه. وبعد وفاته، أردنا مواصلة ما بدأه. إلى الآن، رممنا 21 فيلماً، ساعدنا فيها الفرنسيون، خصوصاً في ما يتعلّق بالأفلام التي أُنتجت بالاشتراك مع جهات فرنسية، أما مختبر بولونيا في إيطاليا فتولى ترميم "الناصر صلاح الدين". ونحن عائلة شاهين رممنا البقية. مناهج الترميم تختلف: الإيطاليون لا يرممون مثل الفرنسيين، إلخ. تعلمنا الكثير عن الترميم خلال هذه العملية، أكان من الناحية القانونية أو الفنية. في القاهرة، لم نتوقع هذا التفاعل مع أفلامه. الإقبال كان رهيباً. بعض المشاهدين كانوا يغنون خلال العروض، خصوصاً في "عودة الابن الضال". الفيلم أعاد تحريك مشاعر جيل السبعينيات. فيلم "فجر يوم جديد" حتى أنا لم أكن أعرفه جيداً، فاكتشفته بعد الترميم. والجمهور كلما كان يكتشف فيلماً، يعود في اليوم التالي ليكتشف فيلماً آخر. الأفلام غير المعروفة هي التي شهدت إقبالاً كبيراً. أفلام شاهين الأولى، مثل "بابا أمين" أو "صراع في الوادي". كانت هذه مفاجأة لنا".
تبدو ماريان خوري متفائلة عندما أحدّثها عن غياب ثقافة استعادات الأعمال القديمة في المنطقة العربية، سواء مع ترميم أو من دونه. تقول إن الامور بدأت تتغير، وإن هناك استعادتَيْن لشاهين في الأشهر المقبلة، في كلّ من بريطانيا والولايات المتحدة (موما)، على الرغم من أنه من الواضح أن الاهتمام أجنبي أكثر منه عربي. وإذا كان من الممكن الخروج بنتيجة، فينبغي المطالبة بتعميم هذه التجربة لتشمل أرشيف السينما العربية ككلّ. هذا الأمر يبدو أكثر من ملحّ اليوم في زمن يغلب عليه النسيان. فالسينما، على غرار الأدب والرسم، جزء من حياة بشر مروا من هنا وتركوا آثاراً لا تُمحى، والأمانة تقتضي نقل حكاياتهم من جيل إلى جيل. ولأن شاهين كان طليعياً ورؤيوياً في معظم ما صنعه، لا بد من أن نسأل: هل يمهّد الطريق للآخرين؟
كلام الصور: