Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف صار اللبنانيون ناخبين ومتى؟

منذ البداية ارتبط التمثيلان الطائفي والمناطقي والحركات النسائية انتزعت حق اقتراع المرأة في 1953

شُيِّد مبنى البرلمان في بيروت عام 1934 (غيتي)

لم يولد اللبنانيون ناخبين في جنة الديمقراطية، بل باتوا ناخبين في التاسع من يونيو (حزيران) 1861. فقد اكتسبوا مبدأ الانتخاب بعد ثورة وحرب دامية وتدخلات دولية "عظمى". وهذا المبدأ، الذي بات الآن حقاً إنسانياً، لم يكن كاملاً ولم يشمل اللبنانيين واللبنانيات كافة، وقد بدأ انتخاباً غير مباشر وعلى مرحلتين.

ومذاك، في مسيرة الديمقراطية الشاقة، وكل مكسب حققه اللبنانيون وتشبثوا به كان مكلفاً. ولم تكتمل بعد دورة حياة مبدأ الانتخاب ونموه، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الديمقراطية غالية الثمن في هذه البلاد ذات الطبيعة الساحرة والوعرة في آن معاً.

وبعد قرن ويزيد على نصف القرن بسنين قليلة، جميل أن نسأل "كيف صار اللبنانيون ناخبين ومتى؟"، وهم يحيون كرنفال الانتخاب ويمارسون طقوسه لإنتاج المجلس النيابي الثامن منذ الحرب (1975- 1990)، والـ 24 منذ إعلان دولة لبنان الكبير (1920) التي باتت بعد دستور 1926 الجمهورية اللبنانية.

المعركة

رفعت الانتفاضة التي اندلعت في كسروان عشية عيد الميلاد عام 1858، مطلب المشاركة في انتخاب حاكم المنطقة والمساواة بين المشايخ والعامة وإلغاء الامتيازات السياسية والقضائية التي يتمتع بها المقاطعجية، وإنشاء محكمة من المشايخ والعامة للنظر في النزاعات بين الطرفين، وإلغاء الفروض الأخرى والمظلمات كمثل الهدايا الإلزامية (مثل البن والسكر والصابون) والسخرة وسواها من "الاحتقارات" مثل التمييز في الملبس وإجبار أبناء العامة على تقبيل أيدي المشايخ وسواها ("تاريخ لبنان الحديث"، فواز طرابلسي، 56).

ولم يكن مطلب الانتخاب السلاح الوحيد في المعركة بين العامة والمقاطعجية في قائمقامية جبل لبنان الشمالي، فقد شكل انتخاب العامة طانيوس شاهين "وكيلاً أول" لهم حدثاً اتخذت الانتفاضة معه "منحى أكثر جذرية"، ويكمن البعد الثوري والجذري لهذا الحدث في فعل الانتخاب نفسه، وفي اختيار العامة واحداً منهم وليس مقاطعجياً وكيلاً لهم، ولا يقل عن ذلك أهمية ترشح شاهين، وهو بيطري من بلدة ريفون، إلى القيادة في مواجهة المقاطعجية.

ومع عامية كسروان التي طردت المقاطعجية من بيوتهم اندلعت "حوادث" 1860 الدموية بين المسيحيين والدروز، وقد وصلت ارتجاجات هذه "الحوادث" إلى الآستانة والعواصم الأوروبية.

وفيما هبت فرنسا لنجدة المسيحيين فأرسلت حملة عسكرية لـ "إنقاذ حيوات بشرية مهددة بالقتل"، تحركت هي وإنجلترا وروسيا والنمسا وبروسيا دبلوماسياً.

مبدأ الانتخاب بين الطوائف والنفوذ الدولي

وتألفت، انطلاقاً من اتفاق عقد في باريس، لجنة دولية برئاسة وزير الخارجية العثماني فؤاد باشا وعضوية مندوبي تلك الدول.

ويروي إدمون رباط: "استهلت اللجنة أعمالها في بيروت، في الـ 24 سبتمبر (أيلول) 1860، ولم تنته منه إلا في الرابع من مايو من العام التالي. وظهرت بين أعضائها اختلافات كثيرة في شأن تحديد المسؤولين عن الأحداث والعقوبات التي يجب إنزالها بهم، إذ بقيت كل دولة من الدول المذكورة وفية، بهذا الصدد، لصداقاتها المحلية ومهتمة بتمهيد السبل أمام تحقيق مآربها السياسية.

غير أن اللجنة تمكنت بصدد النظام المتعلق بلبنان، من وضع مشروعين مختلفين واتفقت على عرضهما على سفرائها لدى الباب ليختاروا واحداً منهما" ("التكوين التاريخي للبنان السياسي والدستوري"، 346).

وأخيراً اتفق في الآستانة على المشروع الذي يبقي جبل لبنان موحداً، و"أفدح ظلم ألحقه هذا النظام بلبنان موافقة واضعيه فؤاد باشا على أن تضيق حدود لبنان وتُسلخ عنه تلك المقاطعات التي كانت له في عهد أمرائه، والتي حبته إياها الطبيعة مثل بيروت وطرابلس وصيدا وصور ووادي التيم، وعلى الخصوص البقاع وعكار أهم مورد لمعيشته، وأن يحصر ضمن نطاق ضيق هو عبارة عن جبال صخرية جرداء" ("عهد المتصرفين في لبنان 1861- 1918"، لحد خاطر، 25).

عندئذٍ، ووسط تلك الأجواء "الدولية"، سعى المفاوضون، وعلى رأسهم فؤاد باشا "الداهية" وفق مراجع تاريخية عديدة، إلى تكريس أدوار بلدانهم و"تمثيلها".

وإذ اتفقوا على أن يختار الباب العالي الحاكم من مسيحيي السلطنة، من خارج لبنان، ابتدعوا فكرة أن يُقام مجلس إدارة "تقتصر مهمته على ما يستشيره به الحاكم في شؤون الإدارة، وأخص ما أُسند إليه توزيع التكاليف وضبط واردات الحكومة ونفقاتها" (خاطر، 14).

وهنا يكمن سر اللعبة الدولية. لقد بحث المندوبون عن صيغة تضمن "حقوق المجموعات الطائفية" وفي الوقت نفسه تضمن نفوذ تلك الدول و"تمثيلها" "وصداقاتها" في لبنان. وكانت النتيجة ذاك المجلس الذي تالف من 12 مقعداً، أربعة للموارنة وثلاثة للدروز واثنان للأرثوذكس، ومقعد واحد لكل من الروم الكاثوليك والسنة والشيعة.

 

إلغاء امتيازات المقاطعجيين والانتخاب

وإذ اعتبرت اللجنة والمحاكم التي أقيمت في المناطق أن المقاطعجيين من المسؤولين عن الأحداث الدموية في 1860، جاء في المادة الخامسة من النظام الجديد، "تقرر أمر المساواة بين جميع أفراد الرعية في شمول أحكام القانون ونسخ وإلغاء كل الامتيازات العائدة إلى أعيان البلاد خصوصاً أصحاب المقاطعات".

ومع إلغاء امتيازات المقاطعجيين وفي ظل التغيرات الاقتصادية والاجتماعية نحو الرأسمالية التي أنتجت نخباً جديدة اقتصادية وثقافية دخل مبدأ الانتخاب، إذ لم يكن ممكناً إحلال هذا المبدأ واعتماده في ظل امتيازات المقاطعجيين الذين يحتكرون التمثيل. وعبر هذا المبدأ المستورد من أوروبا وثقافاتها الحديثة آنذاك، تُنتخب قيادات تحل بدل القديمة أو تنافسها.

وهكذا تكرس مبدأ الانتخاب الذي يشارك فيه الأهالي، وكان بنسخته تلك غير مباشر وعلى مرحلتين، فالأهالي ينتخبون واحداً منهم مما يرفعه إلى مرتبة "شيخ القرية" أو "شيخ الصلح"، ثم "يجتمع المشايخ المنتخبون في مركز القضاء حيث ينتخبون مندوباً أو أكثر عن القضاء ليمثله في مجلس الإدارة، ويتم ذلك بالطبع تحت إشراف القائمقام أو بإيجاء منه" (رباط، 353).

ومن هنا، وبناء على قاعدة الانتخاب غير المباشر بدأ المسار الديمقراطي في لبنان، الذي يجمع ما بين تمثيل الطوائف وتمثيل المناطق، وليس غريباً أن يخضع مبدأ الانتخاب لثقافة تلك المرحلة، فمثلاً "الشيخ" الذي ينتخب من الأهالي يورث لقبه إلى سائر أفراد عائلته، وهكذا انتشر لقب "الشيخ" في لبنان بعدما كان ينعم به الأمراء في ما مضى.

المشايخ الجدد و"الأهالي"

ويصف النظام الأساسي للمتصرفية الجديدة مشايخ القرى بأنهم "يقومون بوظيفة حاكم الصلح في الدعاوى التي لا يتجاوز قدرها 200 قرش حكماً غير مستأنف". بينما يحصي هيام جورج ملاط مهمات "شيخ الصلح" كالآتي، "تدخله في حال اقتراف غريب جريمة في محلته، ولم يعاقب عليها أو يلاحق بسببها. إعادة تعبيد الطرق وتنظيم مجاري المياه في البلدة. استيفاء الضرائب. إعلام مدير الناحية بإجراء ملاحقات ضد الأشخاص، والتحرك فوراً عند وقوع جريمة، وملاحقة مهربي الدخان (التبغ). في حال وجود مرض معد، إقامة حجر صحي وإعلام الإدارة المركزية بذلك. عند ملاحقة السلطة مواطناً في المحلة متورطاً في مشكلة، وفي حال غياب المتهم يُعلم شيخ الصلح أو المختار الضبطية بالأمر. تطبيق القانون بدون تمييز بين المواطنين. السهر على ألا يعكر أي حادث الجو في القرية، وفي حال حدوث إضطراب الاحتكام إلى المرجع القانوني. إعطاء المثل الصالح بتطبيق القانون وإعلام السلطة المعنية بالمخالفات الحاصلة. الامتناع شخصياً كما مدير الناحية، عن قبول الهدايا، تحت طائلة التغريم. تعرض شيخ الصلح للحبس في حال تمنعه عن سجن من يستحق السجن. فرض غرامة على كل صاحب مبادرة لدى مدير الناحية يسعى لعدم تطبيق القانون. قيام شيخ الصلح والمختار بمساعدة الضبطية عند القيام بواجبهم" ("لبنان نشأة الحرية والديمقراطية في الشرق الأدنى"، 202).

ويؤرخ أسامة المقدسي دخول "الأهالي" الحلبة السياسية عشية إقرار مبدأ الانتخاب بالآتي، "وفي فترة بلا هيمنة ترك الباب مفتوحاً من غير قصد أمام دخول الأهالي إلى الحلبة السياسية الطائفية دخولاً غير متحكم به، فقد كان هنالك مواطن عامي يمتلك من الجرأة ما يكفي لأن يعبر ذلك الباب. إذ جسد صعود طانيوس شاهين نوعاً من الاجتياح الطائفي الشعبي لميدان سياسي كان مقتصراً على النخبة وحدها. فهذا البيطار من ريفون مثل المحاولة الأشد جذرية في تاريخ جبل لبنان لإعادة تحديد العلاقة بين المعرفة والقوة. وبفعله هذا، نشر في صفوف النخب رعباً شديداً مستديماً" (155).

يضيف، "كان ثمة في كسروان، قلب جبل لبنان الماروني، فكرة سجالية حول من يستطيع أن يتكلم باسم الموارنة، فآل الخازن ألحوا على أنهم يحكمون وبذا يمثلون كسروان، أما شاهين وأتباعه فقد قدموا عدالة قضيتهم بلغة المصالح والحقوق الشعبية في كسروان، ولقد ترددت بين النخبة في جبل لبنان أصداء الجرأة المطلقة التي أبداها أهالي كسروان، سواء في تمردهم على وجهائهم سنة 1858 أو في طردهم غالبية عائلة الخازن في يناير (كانون الثاني) 1859. ولم يقتصر الصراع في كسروان على الصراع المادي من أجل السيطرة على الأرض بل كان ثمة نزاع على إعادة تحديد ما يعنيه مصطلح ’الأهالي‘، وهي في تواريخ النظام القديم واحدة من الكلمات المجازية الأساس، فهذه المقولة الشاملة التي لا تميز بين الأهالي بل تعدهم كلهم طائعين راضخين، كانت واحداً من أسس تلك التواريخ، إذ كانت مصدراً لشرعية أولئك الحكام الذين ضمنوا هدوء عامة الشعب وحافظوا على نظام اجتماعي ثابت ومستقر. وعلى هذا الأساس، فإن مصطلح ’الأهالي‘ سواء عند آل الخازن أو الكنيسة المارونية أو الدولة العثمانية كان ينطوي على فكرة مفادها وجود سكان هادئين ومسالمين سياسياً، كما يُلمح إلى جماعة خاملة يمثل الآخرون حاجاتها الشرعية والقانونية (التي لم يكن ثمة إجماع عليها). ولقد استخدمت هذه الأطراف مصطلح ’الأهالي الخاملين‘ والطائعين لكي تعمل في المقام الأول على عزل المتمردين ونزع الشرعية عنهم واتهامهم بأنهم في طليعة مؤامرة غايتها قلب نظام الأمور وإثارة الجهل الفطري لدى طبقة العوام" ("ثقافة الطائفية"، 173).

 

مصير المقاطعجيين وصعود طبقة جديدة

لكن مع حلول مبدأ الانتخاب ودخول الأهالي المسرح السياسي وإلغاء الامتيازات الإقطاعية، ماذا جرى بالمقاطعجيين؟

يجيب طرابلسي، "غير أن أبناء الأسر المقاطعجية السابقة (جنبلاط، أرسلان، خازن، حبيش، دحداح، بللمع وسواهم) ممن حرم الامتيازات القضائية والضريبية والسياسية، أعيد توظيفهم بكثافة في المراكز الإدارية. وقد اضطر المتصرف واصا باشا (1883- 1892) إلى الاعتراف بأن هذا الوضع يشكل خرقاً للسياسة العثمانية الرسمية القاضية بتفكيك النظام الإقطاعي، فقال يجب أن نبرهن أن ما من عائلة وما من مجموعة تتمتع بامتياز أو بأي مقام اجتماعي أعلى من العائلات أو المجموعات الأخرى. إن التعيين في الوظائف الإدارية يخضع لمقياس الإخلاص والنزاهة والكفاءة ولهذا المقياس وحده، لكن ما أسهل الكلام وأصعب التنفيذ، وبمشقة كبيرة كان الموظفون ذوو الأصول العامية يصلون إلى الوظائف الإدارية، فيما ظلت المتصرفية تعتمد لفترة طويلة على أسر المقاطعجيين السابقين وقد أعيد تدويرهم في الإدارة مثلما ظلت تدعم ملاك الأراضي ضد المطالب الفلاحية".

ويتابع، "غير أن الوجه الأبرز للحياة الاجتماعية والسياسية في المتصرفية هو صعود طبقة اجتماعية وسياسية جديدة مرتبطة بنمو اقتصاد الحرير وتغلغل رأس المال الكولونيالي والهجرة. هي طبقة متكونة من أبناء أسر المدبرين وملاك الأراضي المتوسطين والموظفين وأبناء المهن الحرة إضافة إلى التجار والمرتبطين مباشرة باقتصاد الحرير. لكنها كانت تتضخم إذ تستقبل المغتربين العائدين ينضمون إلى صفوفها. ونقول إن هذه القوة الاجتماعية- السياسية كانت ’متوسطة‘ بمعنيين، أولهما أنها تقع بين المرتبتين اللتين تقعان في أساس الترتيب الاجتماعي، المشايخ والعامة. وثانيهما أنها تتموضع سياسياً بين قطبي سياسة جبل لبنان، بكركي وبيت الدين. من حيث التعبير الأيديولوجي، يمكن النظر إلى تلك الفئة على أنها وطنية وإصلاحية معاً".

ويجمل طرابلسي الصورة بالآتي، "شكل مجلس الإدارة معقل تلك الفئة. من أعضائه حبيب باشا السعد، سليل أسرة من المدبرين وأحد كبار ملاك الأرض في منطقة عاليه، شغل منصب رئيس مجلس الإدارة، فيما سعد الله الحويك، ممثل البترون وشقيق البطريرك الياس الحويك (الذي سيم بطريركاً عام 1897) شغل منصب نائب الرئيس وقائد المجموعة الإصلاحية. تحلق ممثلو كسروان حول الجبهة الشعبية‘ المناهضة لآل الخازن: جرجس زوين، الذي فاز في الانتخابات عام 1907 ضد مرشح آل حبيش المدعوم من الكنيسة، وحبيب بيطار ونعوم باخوس، وكلاهما ينتمي إلى أسرة من وجهاء التجار وملاك الأرض. وحده محمد الحاج حسن كان عامياً شيعياً. أما شديد عقل، العضو الماروني عن المتن، فصاحب حلالة حرير، وكان الياس شويري هو المندوب الأرثوذكسي عن المتن، وسليمان كنعان المندوب الماروني عن جزين، وهو عصامي أثري بعدما عمل وسيطاً في بيع أراضي آل جنبلاط في جزين إلى الأهالي. إلى هؤلاء يضاف موظفو القضاء ومكاتب المتصرفية والمثقفون الفرنسيو الهوى أمثال خيرالله خيرالله وبولس نجم (المعروف ببول جوبلان) مدير ’المكتب الخارجي‘ في إدارة المتصرفية، وبشارة خليل الخوري الذي ينتمي إلى أسرة من حلالي الحرير في رشميا وكان والده حليل مدير ’المكتب العربي‘ المعني بالشؤون الداخلية. وكان المتصرفون الإصلاحيون والمركزيون دائمي السعي إلى كسب ود هذه القوة الجديدة المتحلقة حول مجلس الإدارة والمستقلة عن الكنيسة المارونية.

غير أن أعضاء مجلس الإدارة غالباً ما عارضوا ميل المتصرفين إلى زيادة الضرائب، مطالبين بالاستقلال المالي عن اسطنبول وبمزيد من الدعم المالي منها، فيما كانوا في الآن ذاته يستنكرون احتكار الأسر المقاطعجية السابقة للمناصب الإدارية. ومهما يكن من أمر ففي وسط تلك القوة نمت وترعرعت أفكار الاستقلال اللبناني والقومية اللبنانية" (85).

نهاية مجلس ناطق بلسان الرأي العام

استمر مجلس إدارة المتصرفية (هيئة تمثيلية للأهالي اللبنانيين موزعة على طوائفهم الست) وفق رباط، ويصفه بأنه "جمعية استشارية بحتة في المجال الإداري، تتداول وتتدارس كل ما يتعلق بتوزيع الضرائب وبالإشراف على مداخيل المتصرفية ونفقاتها" (355). والتعديلان اللذان طرآ على تنظيمه عامي 1912 و1914، لم يغيرا في وظيفته إنما أُضافا في الأول مقعداً مارونياً لدير القمر التي تكرست مركزاً للمتصرفية، وفي الثاني مقعداً درزياً في الشوف. والتعديل الأول بدعم من فرنسا، والثاني من إنجلترا. وهكذا، بقي هذا المجلس إدارياً واستشارياً. وإذ "لم يتمكن من التحول إلى سلطة تشريعية"، يقول رباط، "كان على الأقل نواة تمثيل سياسي، وتوصل بحكم قوة الأمور إلى أن يكون عبر تاريخه الطويل ناطقاً بلسان الرأي العام ومعبراً عنه" (355).

ويكتب فريد الخازن، "كانت الانتخابات آنذاك تخضع لشتى أنواع التدخلات والضغوط من السلطة التي يمثلها المتصرف، ولم تكن طبعاً انتخابات نزيهة أو تنافسية. لكن الإنجاز الأهم الذي نتج من حقبة المتصرفية تمثل في إقرار مبدأ الانتخاب من الشعب" (انتخابات لبنان ما بعد الحرب ديمقراطية بلا خيار"، 240).

ويعتبر ملاط أن "إجراء الانتخابات بطريقة منظمة" منذ 1868، تاريخ أول انتخاب شيوخ الصلح ممثلين عن السكان للمجلس الإداري الكبير، حتى 1915، "مكسب مهم".

وما إن اندلعت الحرب العالمية الأولى (1914- 1918)، التي دخلتها تركيا في 31 أكتوبر (تشرين الأول) إلى جانب ألمانيا والنمسا - المجر، حتى اعتبرت الدولة العثمانية أن الفرصة واتتها للتخلص من العبء الذي يمثله الحكم الذاتي لجبل لبنان. فأرسلت قوة عسكرية كبيرة إليه، وحولت عالية، مركز الاصطياف المعروف، مقراً لقيادتها في لبنان وولاية بيروت، وأنشأت فيها محكمة عرفية ما لبثت أن اشتهرت من جراء أحكام الإعدام. وفي 23 مارس 1915، أمر جمال باشا بحل المجلس الإداري الذي تعطلت أعماله منذ بداية الحرب، و"اتُهم أعضاؤه بأنهم كانوا يقيمون في ما مضى علاقات دائمة مع قناصل الدول العدوة" (رباط، 362).

"هكذا، عاش جبل لبنان حياته الخاصة ضمن هذا التنظيم الأساسي الضيق وتحت الإدارة الأبوية لمتصرفيه الثمانية. فخلت تلك الحياة من المتاعب بالقياس على المآسي التي عرفتها الفترة السابقة. فقد كان الوضع الجديد دولياً من حيث مرجعيته، وطائفياً من حيث بنيته، وتعاقبت مراحله في جو من الطمأنينة والحرية ما زال رواة اليوم يتحدثون عنها بشيء من الحنين" (رباط، 360).

 

من لبنان الكبير إلى الجمهورية

في ما يخص مجلس الإدارة والانتخاب، استعاد الانتداب الفرنسي للبنان، بعد الحرب العالمية الأولى، بعض عناصر تجربة المتصرفية. ففي الثامن من مارس (آذار) 1922، أي بعد نحو سنة ونصف السنة من إعلان دولة لبنان الكبير في الأول من سبتمبر 1920، أصدر المفوض السامي بالوكالة روبير دي كي قرارين قضى الأول بـ "تسريح لجنة لبنان الكبير الإدارية"، وينص الثاني على "إنشاء المجلس التمثيلي لدولة لبنان الكبير وتنظيم طريقة اشتغاله".

وتتشابه صلاحيات المجلس التمثيلي، التي أقرها الحاكم الفرنسي، مع صلاحيات مجلس إدارة المتصرفية. فقد قُصرت الصلاحيات على الشؤون الإدارية والمالية، وتحت رقابة المبعوث الانتدابي وبموافقة المفوض السامي. ولم يتمتع المجلس بأي صلاحية تشريعية.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى قانون الانتخاب، فقد استعيدت من النظام القديم قاعدة الاقتراع غير المباشر على دورتين، فيكون هناك ناخبون أولون وناخبون ثانيون، ودائماً ضمن إطار توزيع المقاعد على الطوائف. ويُدعى الناخبون في الدورتين إلى التصويت للمرشحين من دون تمييز بين طوائفهم. فيشاركون بهذه الطريقة معاً في اختيار جميع أعضاء المجلس دفعة واحدة.

وكما وزعت مقاعد مجلس إدارة المتصرفية على أساس طائفي، كذلك حفظ المجلس المولود فرنسياً "تمثيل الطوائف اللبنانية"، فتألف من 17 للمسيحيين (10 للموارنة وأربعة للأرثوذكس واثنان للكاثوليك وواحد للأقليات) و13 للمسلمين (ستة للسنة وخمسة للشيعة واثنان للدروز).

ومثلما هي الحال أيام المتصرفية، توزعت مقاعد المجلس التمثيلي على مناطق لبنان الكبير، وجاءت كالآتي: بيروت خمسة مقاعد، طرابلس مقعد واحد، لواء جبل لبنان ثمانية، لواء لبنان الشمالي أربعة، لواء لبنان الجنوبي ستة، لواء البقاع ستة.

تسريع الخطى نحو الدستور

يروي فيغان العلم، "مع المفوض السامي الجديد دي جوفنيل، تسرعت الخطى باتجاه إقرار الدستور. فقد طلب بعد يومين من وصوله إلى بيروت من الحاكم الفرنسي كايلا ’افتتاح جلسة استثنائية للمجلس التمثيلي ليضع بين يديه مسألة النقاش ودرس الدستور، والمجلس بدوره يدعو لاحقاً الوجهاء وممثلين عن الطوائف والاختصاصات لمساندته في اللجان المشتركة، وهكذا يستطيعون تكريس الاستقلال الوطني للبنان الكبير‘. وفي الفترة اللاحقة دأب المجلس على تنفيذ المهمة التي حددها له دي جوفنيل، ففي 15 ديسمبر (كانون الأول) 1925 وخلال اجتماع المجلس في دورته الاستثنائية، أكد المندوب الفرنسي أمام النواب ’حق المجلس بوضع الدستور بغض النظر عن المس بسلطة الانتداب‘ ولهذه الغاية انتخب المجلس لجنة خاصة من 12 عضواً لوضع القانون الأساسي للبلاد، اختير شبل دموس رئيساً وانبثقت عنها لجنة فرعية لتستأنس بآراء الفعاليات. قررت اللجنة إرسال أسئلة إلى ممثلي مختلف المناطق والطوائف والوجهاء البارزين وأصحاب الاختصاص وكبار الموظفين".

يتابع: "بتحليل الأجوبة وجدت اللجنة أن أكثرية الذين استُشيروا يفضلون نظاماً جمهورياً برلمانياً مؤلفاً من مجلسين يكون الوزراء مسؤولين إفرادياً أمام البرلمان، وكذلك أيدوا وبدون استثناء نظاماً سياسياً قائماً على التمثيل الطائفي... وعقد المجلس في 18 مايو سلسلة اجتماعات مفتوحة مستمعاً إلى تقرير شبل دموس حول عمل اللجنة وناقش المجلس مسودة الدستور ووافق عليها وأقرها في الـ 22 من مايو 1926. وأعلن دي جوفنيل بدء العمل بالدستور الجديد فوراً على الرغم من أنه لم ينشر وفقاً للأصول إلا عهد خلفه المفوض السامي بونسو في الرابع من مايو 1930 وهذه سابقة لا مثيل لها في دساتير الأمم في التاريخ الحديث" ("دولة لبنان الكبير 1920- 1996" مجموعة مؤلفين، ص 89).

وقبل نهاية العام الذي أقر فيه الدستور، 1926، وبعد أشهر من تأسيس مجلس الشيوخ، تفاقمت المشكلات في شأن الصلاحيات والسياسات ما بينه وبين مجلس النواب. كذلك توالت المناوشات ما بين مجلسي النواب والشيوخ والحكومة. وراحت الدولة المنتدبة تفكر في تعديل الدستور، الأمر الذي كان في الـ 17 من أكتوبر 1927، مع دمج المجلسين تحت قبة البرلمان. وقد أُضيف أعضاء مجلس الشيوخ الـ 16 إلى مجلس النواب، وكانت ولايتهم تمتد لست سنوات ويُعين رئيس الدولة سبعة منهم، بينما ينتخب التسعة الباقون وفقاً لشروط انتخاب النواب.

 

الانتخاب المباشر وإيجابيات أخرى

بعد ذلك، هدأت الحياة السياسية نوعاً ما. ولم تكن رئاسات الدولة والبرلمان والحكومة مخصصة للطوائف، فقد خلف الشيخ محمد الجسر موسى نمور في رئاسة برلمان 1929- 1932، الذي انتُخب ثلثا أعضائه (30) على درجتين بينما عين ثلثه (15). وكاد المجلس نفسه أن ينتخب الشيخ الجسر رئيساً للجمهورية، مع تأييد واسع من نواب مسيحيين في مقدمهم ميشال زخور وروكز أبو ناضر ويوسف الخازن وسامي كنعان وتردد اسم زعيم الكتلة الوطنية إميل إده بين هؤلاء، إلا أن المفوض السامي حل المجلس وعلق الدستور، في التاسع من مايو 1932.

استمر لبنان حتى مطلع 1934 من دون برلمان وحكومة، تحت إدارة المفوض السامي ومجلس المديرين. وعلى الرغم من ذلك شهدت تلك الفترة أموراً إيجابية منها أولاً: إحصاء 1932 الذي عد 793396 لبنانياً ولبنانية.

ثانياً: استمرار العمل في بناء مجلس النواب في ساحة النجمة في بيروت، وهذا المبنى ذو القاعة الواسعة والقبة العالية من تصميم المعماري الأرمني مارديروس ألتونيان. وقبل الانتقال إليه في 1934 كان المجلس يعقد جلساته في السراي الصغير في ساحة البرج وسط العاصمة.

ثالثاً: قرار المفوض السامي (1934) إجراء انتخابات نيابية للمرة الأولى مباشرة ومن دون العبور بالمندوبين الثانويين أو "شيوخ القرى". ولم يعكر الفرحة في هذا إلا منح المفوض السامي نفسه حق تعيين سبعة نواب من أصل الـ 25 أعضاء البرلمان (الـ 18 الآخرون ينتخبون)، وفي أي دائرة شاء. ومذذاك، صار النائب ممثل الأمة. وفي مجمل الأحوال، لم يتمتع هذا المجلس بأي سلطة تشريعية ولم يكن بوسعه أن يؤثر على تشكيل الحكومات ولا على إقالتها.

ولم يتغير في برلمان 1937 إلا عدد النواب الذي صار 63 ثلثه من حصة التعيين.

واستمر العمل بقاعدة الانتخاب والتعيين في المجلس الواحد حتى حل البرلمان في الـ 21 من سبتمبر 1939، إثر اندلاع الحرب العالمية الثانية. وبعد ذلك في الـ 18 مارس انتخب اللبنانيون 55 نائباً هم كامل أعضاء البرلمان الذي توزع على قاعدة ستة للمسيحيين وخمسة للمسلمين.

دخول المرأة

حتى العام 1953 مر نحو قرن من عهد الانتخاب في لبنان، وعلى الرغم من ذلك كانت المرأة خارج الإطار. وقد انتزعت الحركات النسائية الحق في الاقتراع، بعد تعديل قانون الانتخاب في 1953 نتيجة جهود استمرت لسنوات.

بيد أن المرأة لم تدخل المجلس النيابي إلا نادراً، ففي 1963 انتخبت ميرنا البستاني خلفاً لوالدها إميل البستاني بعد وفاته، وبقيت في البرلمان لثمانية أشهر فقط. وفي 1991 عينت نائلة معوض خلفاً لزوجها النائب رينيه معوض الذي اغتيل في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 بعد 18 يوماً من انتخابه رئيساً للجمهورية إثر توقيع اتفاق الطائف.

وما بين 1953 و1972 تاريخ الانتخابات الأخيرة قبل الحرب في 1975، ترشح نحو تسع نساء، ومنهن من خاضت المعركة لأكثر من مرة.

وفي انتخابات 1992 فازت ثلاث مرشحات "في ظروف خاصة ودخول تقليدي"، وفق مرغريت الحلو ("الانتخابات النيابية 1996 وأزمة الديمقراطية في لبنان"، لمجموعة باحثين).

وفي دورة 1996 عادت إلى المجلس بهية الحريري ونايلة معوض وفازت نهاد سعيد، على الرغم من ترشح نحو 10 نساء.

وتجد الحلو، في ما يتعلق بالمشاركة في الحملات الانتخابية، أن "المرأة اللبنانية لم تتلكأ يوماً عن المشاركة بها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وحتى قبل نيلها حقوقها السياسية، ولم تقتصر مشاركة المرأة على المدن، بل كانت موجودة في الأرياف. لكن نوعية المشاركة وطبيعتها كانتا تختلفان بين المناطق والطوائف تبعاً للعادات والتقاليد والأعراف السائدة ودرجة الحرية المسموح بها وأنواع القيود التي كان المجتمع يفرضها. وكان للتطور النسبي الذي شهده المجتمع ومظاهر الحداثة التي تجلت فيه في الخمسينيات والستينيات ونيل المرأة حقوقها السياسية الأثر المهم في تحديد كمية المشاركة النسائية ونوعيتها في الحملات الانتخابية" (415).

وتلاحظ الحلو أن "حملة بهية الحريري عام 1996 شهدت بروز عصبية نسائية لدى المشاركات لم تكن موجودة بالزخم نفسه عام 1992، حين عارضها بعض الفئات (حتى من النساء) على أساس كونها امرأة. وقد مثلت النساء نسبة 57 في المئة من 5300 مشارك في حملتها عام 1996 وكانت نسبة 60 في المئة منهن بين عمر الـ 18 والـ 21 سنة. كذلك تجاوزت نسبة النساء اللواتي انتخبن بهية الحريري عتبة الـ 50 في المئة من مجموع الناخبين بحسب تقدير مدير حملتها" (416).

وتضيف الحلو، "ساد التطوع النسائي حملة المرشحة ليندا مطر، إذ مثل النساء 92 في المئة من مجموع المشاركين، ولم يقتصر الدعم النسائي هنا على العمل، بل امتد إلى الدعم المادي للحملة من جانب أفراد أو هيئات أو جمعيات نسائية، ولكنه لم يتجل في أصوات نسائية كافية في صناديق الاقتراع".

وتتابع الحلو، "وشهدت حملة المرشحة نهاد سعيد عام 1996 تزايداً ملحوظاً في عدد النساء المشاركات فيها مقارنة بحملاتها السابقة منذ عام 1964. ولحظت سعيد تطوراً إيجابياً في موقف الناخب من كونها امرأة" (417).

 

المرشحة العربية الأولى

وتروي إميلي فارس إبراهيم، المرشحة العربية الأولى للنيابة، في مقابلة خاصة أُجريت معها في نوفمبر 2002، "انطلق النضال لتعديل قانون الانتخاب منذ 1934، وكانت سنة 1952 المحطة الأبرز. وقد سبقتها تحركات كثيفة وعمل منظم بقيادة لجنة حقوق المرأة، وكان طلبنا المساواة. واعترضنا على قانون الانتخاب الصادر في 10 أغسطس (آب) 1950، فاللبنانيات محرومات من المساواة السياسية التي ينصها الدستور اللبناني بسبب عدم ورود أسمائهن في القوائم الانتخابية، فهدف اللجنة التي تكونت من هيئات نسائية متنوعة، كان تعديل قانون الانتخاب، بحيث تشتمل اللوائح الانتخابية على أسماء اللبنانيين واللبنانيات. وقد اعترضنا عندما أصدرت الحكومة مرسوماً اشتراعياً جعل القوائم الانتخابية تشمل أسماء اللبنانيين واللبنانيات، لكنه اشترط لقيد أسماء الإناث في القوائم الانتخابية أن يكن حائزات شهادة التعليم الابتدائي على الأقل. هنا، قصدتُ البرلمان في ساحة النجمة واعتصمت عن الطعام. ولم يتركوني، بل تدخلوا وحاولوا ثنيي عن ذلك، فيطعمونني عنوة، ولكني صمدت وقلت لن أتراجع قبل تراجع السلطة عن تمييزها ضد المرأة، ونجحت".

تتابع، "بعد نيل المراد، خاب ظني بسبب تردد الزعيمات في خوض الانتخابات. هذه تستحي من عدم الفوز، والثانية تقول حصلنا على حقنا وكفى. خاب ظني من الزعيمات وليس من المرأة العادية. فالزعيمات، أو البعض منهن، رضين بالمرسوم الاشتراعي الذي حرم غير المتعلمات، والذي اعترضت أنا عليه، مع أخريات في 1952. وقد ترشحت أنا، وكنت أتوقع أن تبادر الزعيمات إلى خوض الانتخابات. وقمنا بحملة انتخابية ناجحة استغربها كثيرون. وكان بين المشاركين رجال تحمسوا ليكونوا إلى جانب المرأة العربية الأولى التي تخوض الانتخابات".

سمعة البرلمان والديمقراطية

بعد نحو ثمانية عقود من الديمقراطية واعتماد مبدأ الانتخاب، وتحديداً في 1946، أعلن ميشال شيحا أن الشعب وتربيته، "بوجهيها المدني والخلقي"، مسؤولان عن "الحصول على مجلس (نواب) أفضل حالاً". ويلاحظ أن مجلس النواب، الذي يعتبره "مؤسسة ضرورية"، "يُجادَل في سمعته دائماً والأدلة على ضعف شعبيته كثيراً ما تُقام، وكثيرون من أعضائه يبرزون للعيان في صورة تاعسة هي صورة التهاون والفوضى" ("في السياسة الداخلية"، 96).

وبهذا إقرار، من أحد واضعي الدستور وأبرز منظري لبنان وصيغته، بأن الديمقراطية ومؤسساتها في لبنان لم تنضجا وتكتملا بعد. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المواطن وتربيته.

والغريب هو أن حكم شيحا على مجلس النواب جاء بعد ثلاث سنوات من التهليل للدور البطولي والمحوري لـ "المؤسسة الضرورية" في استقلال لبنان.

وبعد 10 سنوات، 1956، انهال غسان تويني على "الأوضاع الانتخابية". وقد وجد أن "عملية التمثيل الشعبي في لبنان ليست إلا عملية تزوير ضخمة تسلط على الشعب، على مجموعة المواطنين، إرادات معروفة، معينة، وكأنها تتآمر لتقتسم غنيمة التمثيل".

ويعدد تويني تلك الإرادات، "السلطة الحاكمة نفسها، المفروض فيها أن تنبثق من العملية الانتخابية، فإذا بها تصنع هذه العملية... والقوى الاقتصادية الموروثة، إقطاعية كانت أم رأسمالية، أو نقابية... والعصبية القبلية، وأبرز أشكالها الطائفية الدينية البعيدة كل البعد عن جوهر الدين. ويُضاف إلى هذه الإرادات العوامل المفسدة للذهنية السياسية عندنا من الرشوة إلى اللامبالاة مروراً بالجهل واللامسؤولية".

ويذهب تويني إلى أن "الديمقراطية اللبنانية، متى وضعت على المحك، نجدها أبعد ما تكون عن أصل الديمقراطية الأول: سيادة الشعب" ("عهد الندوة اللبنانية"، 331).

 

لكل انتخابات طابعها ووظيفتها

انطلاقاً من خلاصة تويني هذه، لا نجد باحثاً يسم دورة انتخابية في لبنان بأنها انتخابات الناخبين أو المواطنين أو الشعب. فقوانين الانتخابات، التي تصادر مبدأ الانتخاب وتجعل اللبناني ابن طائفة أكثر مما هو مواطن، قوانين غايات تخص القوى السياسية. وهي كما بات شائعاً في لبنان "معلبة" وتحسم المعارك الانتخابية قبل يوم الاقتراع، إذ تفصلها القوى الممسكة بالسلطة على مقاساتها. وغالباً ما تسبب ذلك بانفجارات وحوادث أمنية وسياسية.

يكتب فريد الخازن المتخصص في الشأن الانتخابي، "لكل انتخابات نيابية في لبنان طابعها المميز ووظيفتها السياسية، فانتخابات مرحلة الانتداب كانت عملياً انتخابات المفوض السامي الفرنسي. وانتخابات 1943 كانت الانتخابات الفاصلة للمرحلة الانتقالية من الانتداب إلى الاستقلال. وفي عهد الرئيس بشارة الخوري أُجريت ’انتخابات 25 مايو‘ 1947 الشهيرة، تلتها عام 1951، انتخابات ’السلطان سليم‘، شقيق الرئيس الذائع الصيت (بالفساد). وبدأ عهد الرئيس كميل شمعون بانتخابات ’الثورة البيضاء‘ عام 1953، وانتهى بالانتخابات ’الثورة‘ المفصلة على قياس الرئيس الحاكم قبل ’ثورة 1958‘ بسنة واحدة. أما الانتخابات النيابية في العهد الشهابي فكانت انتخابات ’المكتب الثاني‘ (الاستخبارات) بين 1960 و1964، كما وصفها المعارضون الذين خاضوا معركتهم المضادة للنهج الشهابي في انتخابات ’الحلف الثلاثي‘ عام 1968. ولعل الميزة الأولى للانتخابات الأخيرة قبل الحرب، عام 1972، هي أنها أنتجت ’برلمان الحرب‘، المنتخب في زمن السلم. والسمة الأساسية لانتخابات 1992، أنها تطرح مسألة علاقة الدولة بالمجتمع، ومنه الناخب المقترع والمقاطع والمعارض، وعلاقة الدولة بسلطتها وقدرتها على اتخاذ القرار، وانتخابات 1996 جاءت لتثبت الخلل القائم في الحياة السياسية في لبنان، نظاماً وممارسة، ولتؤكد أن السقف الذي يحكم الخيارات السياسية هو هو لا يتغير ولا يتبدل... وانتخابات 2000 لم تكن معلبة بالكامل، إلا أنها لم تكن بلا تعليب. ولم تُحدث انقلاباً سياسياً، إلا أنها لم تخلُ من بعض المفاجآت".

أزمة

وسط هذا ووسط تكرار عبارتي "أزمة الديمقراطية في لبنان" و"أزمة لبنان"، طرح "القانون الأرثوذكسي" (2013)، الذي ينص على أن "تنتخب كل طائفة نوابها". وقد بات له أنصار ومؤيدون، مثل الفيدرالية التي يرتفع صوت دعاتها. وبمعزل عن صوابية هذه الطروحات وإمكانات تحققها، هي من دلائل "الأزمة" التي يعيشها لبنان واللبنانيون واهتزاز مبدأ الانتخاب الذي عرفه أبناء هذه البلاد منذ 1861، ويقوم على انتخاب اللبناني في منطقته، مهما كانت طائفته، المرشحين مهما كانت طوائفهم.

ولا يخفى إحباط كثيرين من اللبنانيين من التجربة الانتخابية وعدم رهانهم على إحداث تغيير أو استقامة الأمور عبر الانتخابات. وهذا صوت منهم، هو المتخصص في شؤون الانتخابات، أنطوان ساروفيم، يكتب بسوداوية، بعد بحثه في "وظيفة الانتخابات النيابية في لبنان": "الانتخاب، كمفهوم، هو فعل عصيان، إنه تمرد على الذات من أجل الارتقاء. فالورقة التي تسقط في صندوق الاقتراع، تحمل في أبعادها عظمة الممانعة. أدركت النخب السياسية قوة سلاح الاقتراع، دجنته وحورت مفاصله، جعلته طيعاً بفعل استئثارها بالسلطة. فإذا بالمفهوم القائم على ركائز التحرر، يستعبد الجماهير من جديد بقوة التشريع. فتحول الانتخاب إلى استلاب لإرادة الناس. ومع كل دورة انتخابية نيابية، كانت النخب تسحق قوة الممانعة. فإذا بالانتخابات فعل ضبط المجتمع وفق إيقاع النخب نفسها. لقد تحولت الانتخابات إلى لعبة كبار، من أجل الكبار، فتجسدت السلطة في النخب، خارج المؤسسات وخارج الحدود. الانتخاب هو حلقة من حلقات الاستثمار السياسي للبشر".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات