يحجب الفجور المتنامي للحملات الانتخابية بين المتنافسين على كسب أكبر عدد من النواب الـ128 في مجلس النواب اللبناني، القضايا الرئيسة والجوهرية التي تقف وراء حسابات الفرقاء حيال وظيفة البرلمان الجديد الذي سيولد بعد عمليات الاقتراع المحددة في 15 مايو (أيار) المقبل.
ويتوقع أن يتصاعد التراشق الإعلامي بعد إقفال باب الترشح للانتخابات النيابية وانقضاء المهلة الرسمية لإعلان اللوائح في 4 أبريل (نيسان) المقبل، إذ إن قانون الانتخاب الذي يرذله معظم الفرقاء، بحجة أنه يكرس الطائفية ويعمقها لاعتماده الصوت التفضيلي على أساس الدائرة الصغرى، يفرض إبلاغ وزارة الداخلية بهذه اللوائح كي تتولى هي طباعتها. وعلى الرغم من أنه يقوم على مبدأ النسبية فإن الفريقين الوحيدين اللذين يعتبران هذا القانون هو الأفضل، هما الأكثر تنافساً وخصومة أي "التيار الوطني الحر" الذي يرأسه النائب جبران باسيل، وحزب "القوات اللبنانية" برئاسة سمير جعجع، اللذين يعتقدان أنه يتيح انتخاب المسيحيين لنوابهم في مناطقهم، بدلاً من أن يخضعوا لتصويت الأكثرية الإسلامية في بعض المناطق المختلطة.
استطلاعات الرأي مبكرة قبل إعلان اللوائح
وفي انتظار اختبار شعبية الفرقاء ومدى نجاعة التحالفات التي ينسجونها، والتكتيكات التعبوية التي يتبعونها، فإن حالة من عدم اليقين تسود التوقعات، على الرغم من استطلاعات الرأي التي تجري كالعادة، وتتراوح نتائجها بين عدم توقع تغيير أساسي في تركيبة الـ128 نائباً وتوزع ولاءاتهم، وعدم استبعاد حصول قوى التغيير المنبثقة عن ثورة "17 تشرين" (نوفمبر 2019) على 10 أو 12 نائباً ليعلو الصوت ضد المنظومة الحاكمة الفاسدة، مع وجود انطباع بأن تشرذم قواها سيخفض هذا العدد، وبين تقدير ثالث بأن "حزب الله" سيجدد حصوله مع حلفائه على الأكثرية التي تسهل له التحكم في القرار السياسي في الندوة النيابية وبالاستحقاقات أي تشكيل الحكومة وانتخاب رئيس جديد للجمهورية... لا سيما بعد عزوف رؤساء الحكومات السابقين، فؤاد السنيورة وتمام سلام وخصوصاً زعيم تيار "المستقبل" سعد الحريري وحزبه عن الترشح، إضافة إلى عزوف رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي أيضاً. فانكفاء السُنة الأربعة الكبار يرجح اعتكاف الناخبين السُنة عن الاقتراع، الأمر الذي يستفيد منه "حزب الله" وحلفاؤه.
كافة الذين عزفوا عن الترشح (عدد من النواب حذوا حذو رؤساء الحكومات الأربعة، أقطاب السُنة) طرحوا مبررات وحججاً وتقاطعوا عند القول بإفساح المجال أمام القيادات الشابة، و"الحاجة إلى تجديد الدماء السياسية ودعم الوجوه الواعدة، وتسهيل الطريق أمام الخبرات التي لم تتح لها فرصة الخدمة الوطنية".
وفيما يعتبر بعض المراقبين وحتى السياسيين المنخرطين في العملية الانتخابية، أنه لا يمكن الركون إلى الاستطلاعات لأن الصورة ما زالت ضبابية قبل إعلان اللوائح المتنافسة، فإن ذلك لم يمنع بعض الأوساط المنخرطة بقوة في منازلة 15 مايو الانتخابية، من أن يحددوا للبرلمان وظيفته المقبلة التي تدفعهم إلى خوض المعركة بشراسة، ومنهم "حزب الله" الذي دأب قادته على الترويج لاستطلاعات الرأي التي تتوقع أن يتمكن من الاحتفاظ بالأكثرية، بعد أن كانت توقعت قبل شهرين أن يخسرها بحكم انخفاض شعبية حليفه، رئيس الجمهورية ميشال عون والحزب الذي أسسه "التيار الوطني الحر" الذي يتزعمه صهره، النائب جبران باسيل.
وظيفة انتخاب الرئيس
في 14 مارس (آذار) الحالي، حدد رئيس كتلة نواب "حزب الله"، النائب محمد رعد وظيفة البرلمان كما يراها، إضافة إلى الحملة التي يشنها قادته على معارضيهم الذين يطلقون عليهم تسمية "مجموعات السفارات" التي يزعمون أن السفارة الأميركية تمولها. ورد رعد على ارتفاع أصوات القوى التي تطرح مسألة سلاحه وتبعيته لإيران، بالقول، إن "العصبية الطائفية البغيضة التي يراد استنفارها عند كل استحقاق من أجل شد العصب هي لكي ينسى ما قدمته المقاومة وينسوا حمايتها للبنان ودفاعها عنه وتقديمها شهداء من أجل أن يحتفظ لبنان بسيادته وبعزته وكرامته، وهذا مطلوب أجنبياً وأميركياً".
وشدد رعد على أنه، "في الماضي أرادوا المجيء برئيس يوقع صلحاً مع الكيان الإسرائيلي، والآن سيعاودون الكرَّة، ويحاولون أن يأتوا بأكثرية نيابية حتى يأتوا برئيس جمهورية ينفذ السياسة الأميركية في البلد". وقال، "نحن ضد ذلك، وسنمنع هذا الأمر، وإذا حصل بعض التغييرات، نائب زائد أو ناقص عند غيرنا، فهذا لا يقلب الطاولة، لكن نحن 27 نائباً شيعياً، سنقول نعم للمقاومة وأولويتنا على هذا الأساس".
فالحزب يراهن على أن حصوله بتحالفه مع حركة "أمل" ورئيس البرلمان نبيه بري على النواب الشيعة كافة في البرلمان، يعطيه حق الفيتو إزاء انتخاب أي رئيس لا يوافق عليه، إذا لم يحصل على الأكثرية.
ولفت النائب رعد إلى "أنهم خلال أربع سنوات وهم يحرضون حركة أمل على حزب الله والعكس، والهدف زرع الفتنة (بينهما)"، لكنه رأى أن "من نعم الله أن لدينا قيادة حكيمة"، مشيراً إلى أن الأمين العام للحزب حسن نصر الله ورئيس البرلمان نبيه بري (زعيم حركة أمل)، "على تفاهم تام وتنسيق دائم بالتفاصيل".
الرئيس حصيلة توافق خارجي والنواب يصوتون
ليس "حزب الله" وحده من يعتقد أن الوظيفة الأساسية للبرلمان الجديد أن يحدد هوية رئيس الجمهورية الجديد. وعدا عن أن الحزب اعتاد أن يكون موقع الرئاسة الأولى إلى جانبه ويراعي خياراته الإقليمية إلى جانب المشروع الإيراني في المنطقة، فإنه راهن على الدوام على أن يشكل الموقع المسيحي الأول في الدولة غطاء له في سياساته وفي تموضعه الإقليمي. فهكذا كانت رئاسة عون في تغطيتها لتدخل الحزب العسكري في سوريا منذ عام 2011 إلى جانب النظام السوري بحجة محاربة الإرهاب المتطرف، فاعتمد عون و"التيار الوطني الحر" مقولة، أن "الإرهاب في سوريا سيستهدف أول ما يستهدف المسيحيين"، وأن قتال الحزب فيها "دفاع عن لبنان وعن المسيحيين".
ولذلك يحرص الحزب على إبقاء تحالفه مع "التيار الوطني الحر" في الانتخابات في وجه حزب "القوات اللبنانية" ويركز في دعايته الانتخابية على دغدغة شعور المسيحيين الرافض للعودة إلى التوترات العسكرية، عبر اتهام رئيس "القوات" سمير جعجع بالسعي إلى الحرب الأهلية، منذ المواجهة التي حصلت بين أنصار "الحزب" و"حركة أمل" المسلحين وبين مسلحين آخرين من بينهم مناصرون لـ"القوات اللبنانية" في منطقة عين الرمانة المسيحية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. ويسعى الحزب إلى دعم مرشحي "التيار الوطني الحر" في العديد من المناطق للحيلولة دون انخفاض كبير في عدد حلفائه من النواب المسيحيين، للاستعانة بثقلهم التمثيلي في انتخاب رئيس للجمهورية غير معاد له.
ومن المعروف أن النائب جبران باسيل يطمح لوراثة عمه في الرئاسة ويجهد لرفع العقوبات الأميركية عنه لهذا الغرض. كما يسعى إلى استبعاد ترشيح خصمه الحالي، حليفه السابق، سليمان فرنجية، للرئاسة، والتقليل من فرص قائد الجيش العماد جوزيف عون الذي يطرح اسمه في الكواليس.
نحو رئيس غير حزبي لتجنب تجربة عون
وفيما حجة معظم القيادات السياسية اللبنانية أن الأكثرية النيابية ليست هي التي تقرر اسم وهوية رئيس الجمهورية في لبنان تاريخياً، فإنه على الرغم من صحة ذلك، فإن القوى الخارجية المعنية باختيار الشخصية المناسبة للرئاسة، تأخذ في الاعتبار موازين القوى داخل البرلمان وأحجام الكتل النيابية التي يمكن أن تصوت لهذا الاسم أو ذاك، قبل أن يفرض أي توافق إقليمي ودولي على الكتل أن تصب أصوات نوابها لمصلحة من يقع عليه الخيار. وفي وقت يرى أحد النواب المخضرمين أن رئيس الجمهورية المقبل لن يكون حزبياً ومنحازاً في شكل فاضح نظراً إلى التجربة السلبية للرئيس عون، والتي تسببت من بين ما أفضت إليه، بما يشبه القطيعة بين لبنان ودول الخليج العربي، بحكم انحيازه إلى المحور الإيراني.
وفي رأي النائب نفسه، أنه إذا كانت السياسة الأميركية في عام 2016 سلمت بأن نفوذ "حزب الله" الذي أبقى على الفراغ الرئاسي زهاء سنتين ونصف السنة من أجل ضمان رئاسة عون للجمهورية، فدعت بعض أصدقائها في لبنان إلى مغامرة عقد تسوية مع الأخير من أجل إنهاء الفراغ القاتل للبلد، فإن المواقف الخارجية ليست ملائمة راهناً لما يريد الحزب، إلا إذا كررت الدول الغربية منطق التسوية مع "حزب الله".
وظيفة التسوية الجديدة والمؤتمر الوطني
إلا أن هناك من يرى وظيفة أخرى للبرلمان المقبل في لبنان، وهي إرساء تسوية سياسية جديدة على طبيعة النظام السياسي، يطرحها البعض، في ظل الأزمة السياسية والاقتصادية والمالية الخانقة التي يعيشها البلد، فيما يقلل البعض الآخر من أهميتها، معتبراً أنه إذا كان هناك وظيفة للبرلمان المقبل، فهي الانسجام مع التحولات والتسويات الإقليمية المنتظرة ولو الظرفية بعد اتضاح صورة الحرب في أوكرانيا والمفاوضات الأميركية- الإيرانية في فيينا، من أجل تركيب طاقم سياسي جديد في السلطة التنفيذية يضع البلد على سكة التعافي الاقتصادي.
وفي رأي أحد النواب العائدين حديثاً من أوروبا، فإن البلد مقبل على عقد مؤتمر وطني برعاية خارجية من أجل التوصل إلى تسوية للأزمة اللبنانية. وهو معطى يتناغم مع تسريبات أفادت بأن فرنسا قد تتولى الدعوة إلى مؤتمر كهذا بتأييد أميركي وعربي وتحديداً خليجي، لمحاولة دفع الفرقاء اللبنانيين بعد الانتخابات نحو تفاهم على صيغة للحكم تنطلق من "اتفاق الطائف"، على الرغم من محاولة الفريق الحاكم الحالي تغييره "بالممارسة" عبر استعادة صلاحيات رئيس الجمهورية التي كان اتفاق الطائف شذبها لمصلحة مجلس الوزراء مجتمعاً. كما أن على جدول أعمال أي مؤتمر، تعديل بعض المواد الدستورية لجهة صلاحيات الرئاسة الأولى التي تبين أن فيها ثغرات، إضافة إلى مهلة تأليف الحكومة وغيرها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعتبر النائب نفسه، أن حصيلة الانتخابات النيابية مهمة جداً لهذه الناحية. فالأطراف المتنافسة على الأوزان والأحجام في البرلمان الجديد تبذل كل جهدها كي تحتفظ بالقدرة على أن تكون الأكثر قوة في طوائفها، إما كي تحتكر تمثيلها في المؤتمر الوطني المفترض، أو أن تكون أقوى من منافسها أو منافسيها على طاولة المؤتمر الوطني، بنتيجة العملية الانتخابية.
طرح برامج تعديل للنظام بحجة "استكمال" الطائف
ورصد مراقبون استباق بعض الفرقاء الانتخابات من أجل طرح برنامجها على شكل مطالب من المؤتمر الوطني المفترض، ضمن الحملات الدعائية والسياسية لكسب الناخبين. فعدا عن أن معظم المتنافسين يطرحون عناوين براقة تفترض معالجة الهم الأول للبنانيين، أي الوضع المعيشي المتردي ومحاربة الفساد، واستعادة أموال المودعين من المصارف المفلسة وتأمين الطبابة والاستشفاء وضبط أسعار المحروقات إلخ، فإن بعض هؤلاء طرح أيضاً عناوين سياسية على الرغم من أن هموم اللبنانيين تنحصر في لقمة العيش. هذا مع أن تكرار بعض الفرقاء عناوين الحلول للأزمة الاقتصادية، بات ممجوجاً من الرأي العام، بعد مضي سنتين ونصف السنة من انهيار الاقتصاد، من دون حصول المعالجات الموعودة بفعل الخلافات السياسية.
أما ما يطرح على صعيد البرامج السياسية فيعكس نسبياً جانباً من الصراعات والتباينات حيال نظام الحكم. فالنائب باسيل عدد سلسلة عناوين عند إعلان مرشحي تياره في 13 مارس (آذار) الحالي. وقال، "تصورنا للنظام جهزناه وكتبناه وهو منبثق من نظام الطائف وسد ثغراته واستكمال تنفيذه، وقائم على إنشاء الدولة المدنية وقانون أحوال شخصية موحد، على أن تكون الدولة مركزية بجيشها وسياستها الخارجية وعملتها الوطنية، ولا مركزية موسعة مالياً وإدارياً، ويكون هناك صندوق سيادي يدير أملاك الدولة ومرافقها ويؤمن لها المداخيل اللازمة حتى تقدم للناس الخدمة العادلة وفيها مجلس شيوخ كياني وقانون انتخاب بدائرة موسعة".
لكن الأهم اقتراح باسيل أن تعطي الانتخابات "إشارة واضحة للمسيحي والمسلم إذا أرادا أن يحافظا على الشراكة المتوازنة، وعلى أهمية الوجود المسيحي، في لبنان والشرق، وعلى رمزية رئاسة الجمهورية، بأن يكون على رأس الجمهورية شخص منتخب مباشرة من اللبنانيين على دورتين، الأولى عند المسيحيين، والثانية عند كل اللبنانيين. عندئذ يكون للرئيس صفة تمثيلية لمكونه ولكل اللبنانيين؛ وهكذا لا خوف من فراغ في الرئاسة، ولا تأجيل ولا تمديد".
وهو اقتراح قريب من صيغة النظام الرئاسي الذي يعارضه فرقاء مسلمون، طالما يتوخى انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب، لكن على مرحلتين.
اللامركزية وقانون الانتخاب بين بري وباسيل
في المقابل، أعلن رئيس البرلمان نبيه بري في بيان، أسماء مرشحي "حركة أمل"، إضافة إلى جملة أفكار تناقض طروحات باسيل، أهمها "التخلص من القوانين الانتخابية التي لا تضمن شراكة الجميع والعمل على إقرار قانون انتخاب عصري، خارج القيد الطائفي على أساس النسبية مع دوائر موسعة، وإنشاء مجلس للشيوخ تتمثل فيه الطوائف". وبدا أنه يرد على طرح باسيل اللامركزية المالية، فقال بإقرار قانون اللامركزية الإدارية الموسعة وفقاً لما جاء في اتفاق الطائف "لا زيادة حبة ولا ناقص حبتين". وأكد بري "رفض أي شكل أو طرح يهدد وحدة لبنان سواء بالفدرلة أو أي شكل تقسيمي مقنع تحت أي مسمى".
واللافت في طرح البرامج أيضاً، أن "حزب الله" سعى على لسان النائب رعد، إلى التمايز عن حليفه باسيل بالقول، "لا نريد أن نغير شيئاً في تسويتنا السياسية، وليس لنا أي مطلب بأن نغير ونمس بشيء لا في دستورنا ولا في وثيقتنا (الطائف)، وليس لدينا أي استعداد حتى نسمح بأي مس بأي بند أو مادة في الوثيقة أو في الدستور إذا لم يكن هناك إجماع وطني على ذلك". فهل يهدف هذا الموقف إلى طمأنة فرقاء آخرين على الساحة الإسلامية، خصوصاً على الساحة السنية، إزاء التقديرات بأن الحزب يسعى إلى تغيير في "اتفاق الطائف"، لانتزاع صلاحيات جديدة للطائفة الشيعية، قبل الانتخابات؟