قببل أسابيع قليلة من الآن عرف وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، كيف يوصل العالم بأسره إلى حافة الرعب النووي لمجرد تصريحات أدلى بها في صدد حرب بلاده على أوكرانيا المجاورة وأشارته إلى إمكانية أن تتحول تلك الحرب إلى حرب نووية أكد أن بلاده مستعدة لخوضها، صحيح أن الوزير الروسي عاد وتراجع في كلامه مخففاً منه بعد أيام قليلة، لكن الرسالة كانت قد وصلت، وفي ركابها استعاد العالم ذكرى مرة سابقة كانت البشرية قد وجدت نفسها فيها على حافة الكارثة النووية، وكان ذلك بالطبع خلال تلك الأيام الرهيبة من عام 1962 في عهد الرئيسين جون كينيدي ونيكيتا خروتشوف حين اندلع ما يسمى عادة "أزمة الصواريخ الكوبية".
يومها، وجد العالم نفسه خلال 13 يوماً يعيش على حافة الكارثة والنهاية، وهو ما عبرت عنه لاحقاً روايات وأفلام إلى جانب أعداد لا تحصى من دراسات وتحليلات، ووجد كثر أنفسهم يعيشون أجواء يوم الحشر التي ظلت مخيمة على الرغم من انحسار الأزمة بتراجع طرفيها، السوفياتي والأميركي والوصول إلى نوع من حلول وسطى.
بين صفوف الأدباء المخبرين
وفي مقدورنا اليوم أن نقول إن العالم لم يعرف تهديداً نووياً حربياً من بعد ذلك، حتى اندلاع حرب الروس على أوكرانيا والموقف الذي عبر عنه لافروف، غير أن الذاكرة العامة التي توقفت عند تاريخي المرة الأولى والمرة الجديدة، عرفت في الوقت نفسه كيف تعود بعض الشيء إلى الوراء لتصل إلى بضع سنوات سبقت أزمة الصواريخ الكوبية متوقفة عند رواية صدرت حينها فبدت لاحقاً بالنسبة إلى كثر من القراء أشبه بعمل يتنبأ تنبؤاً إبداعياً على أية حال بما حصل في عام 1962.
وكان العمل رواية من توقيع الكاتب الإنجليزي غراهام غرين. ولنعد هنا إلى غرين قبل الوصول إلى روايته تلك، فحين تذكر أسماء الكتاب الإنجليز الذين نشطوا بخاصة خلال النصف الأول من القرن الـ20 والعقد الأول من نصفه الثاني في صفوف أجهزة الاستخبارات البريطانية، وكانوا كثراً على أية حال، يؤتى عادة على ذكر غراهام غرين، الذي يضاهى في هذا النشاط بجون لوكاريه وسومرست موم ولورانس داريل، والحقيقة أن غراهام غرين اشتغل بين الحين والآخر لصالح جهازي "أم 5" و"أم 6"، لكنه لم يكن عميلاً منتظماً، وكان بالأحرى رجل فكر غاضباً، وبخاصة على الوجود الأميركي في العالم، من دون أن يسحب غضبه ليشمل الوجود الإنجليزي الاستعماري، ومن هنا نجده في القسم الأكبر من رواياته يفضح الوجود الأميركي ومناصرة الأميركيين للديكتاتوريين، أما دنوه من العمل الجاسوسي، فكان خجولاً، على الرغم من أن عشرات الرحلات التي قام بها حول العالم، ولا سيما في بلدان العواصف السياسية قد توحي بالعكس، أما هو فسوف يقول بين الحين والآخر إنه يتجول ويسافر، كصحافي، من أجل الحصول على مواضيع رواياته المقبلة، والدنو من شخصيات، حاكمة أو معارضة، تصلح لأن يستعير منها شخصيات رواياته. فهل كان هذا صحيحاً؟
أدب وجاسوسية وغضب
إلى حد كبير أجل، وفي حياة وكتابات غرين ما يؤكد هذا، غير أن ثمة في المقابل ما يؤكد اهتمامه الفائق بالجاسوسية التي جعل منها موضوع عدد لا بأس به من رواياته وقصصه، وجزءاً من الموضوع حين لا تكون الجاسوسية موضوع الرواية، وهو نفسه كان يقسم رواياته قسمين: أحدهما درامي (كاثوليكي غالباً) يبحث في قضايا إنسانية ومفهوم الخطيئة والغفران وما إلى ذلك، والثاني ترفيهي، ولئن كان في المستطاع اعتبار معظم رواياته التجسسية أعمالاً ترفيهية فإنه يجب ألا يسهى عن بالنا أن الطابع الإنساني الدرامي يبرز حتى في قلب روايات الترفيه هذه، وحسبنا أن نقرأ روايته "العامل الإنساني" للتيقن من هذا.
الحياة تقلد الفن
لكن هناك، في الوقت نفسه، بُعداً آخر في أدب غرين الترفيهي، يتعلق بطابعه السياسي البحت، وحول العلاقة بين أدبه والسياسة ومسألة التجسس، كفعل سياسي بخاصة، صدر قبل سنوات كتاب إنجليزي عنوانه "كتب المخدة الجاسوسية"، يشرح ويحلل هذه العلاقة، ويمكن التوقف هنا عند ما ذكر به الكتاب من سمة مدهشة تطبع بعض أعمال غرين، وهي عمق الوعي السياسي الذي يجعله يضع في بعض هذه الروايات أحداثاً متخيلة، سرعان ما تصبح بعد سنوات قليلة واقعاً. ولعل خير مثال على هذا رواية "عميلنا في هافانا" التي نشرها غرين عام 1958، أي قبل أشهر قليلة من انتصار الثورة الكوبية، ثورة كاسترو – غيفارا، فهذه الرواية التي تعتبر الأكثر ترفيهية في أدب غراهام غرين، تحدثت، في عام 1958 (أي في وقت كان الديكتاتور باتيستا، عميل الأميركيين ومحميهم، في كوبا، لا يزال في الحكم)، عن وضعية تشبه كثيراً وضعية أزمة الصواريخ التي اندلعت بين واشنطن وموسكو، من حول كوبا عام 1962.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هنا قلدت الحياة الفن، وخرج غراهام غرين بوصفه، المنتصر الأكبر! غير أن المسألة لم تكن، طبعاً، على مثل هذه البراءة، ذلك أن للأمر خلفية تعود إلى عام 1941، حين انضم غراهام غرين إلى الاستخبارات السرية البريطانية "أم أي 6"، وكان في خلفية اهتمام غرين في ذلك الحين عميل يدعى غاربو، يقيم في لشبونة، وكان عميلاً مزدوجاً أقنع الألمان بأنه يملك شبكة مخبرين في طول بريطانيا وعرضها، ثم راح يتخيل أحداثاً وحركات مسلحة ويخبر النازيين عنها.
بائع أدوات التنظيف
إذاً، استوحى غرين من شخصية غاربو هذا، حكاية "عميلنا في هافانا"، التي جعل مسرح أحداثها أيام حكم باتيستا (الذي سيطيح به كاسترو)، وجعل الشخصية المحورية هنا جيمس وورمولد، وهو بائع أدوات تنظيف، يلتقي المدعو هاوثورن، الذي يعرض عليه عملاً مع الاستخبارات الإنجليزية، ويقبل وورمولد العمل بسبب ضيق ذات يده بعد أن تركته زوجته من أجل عشيق لها، وبقي هو يعيش مع ابنته المراهقة غير قادر على تلبية طلباتها، لكنه، ولأن ليس لديه في الحقيقة معلومات حقيقية يرسلها إلى الإنجليز، راح يخترع الحكايات زاعماً أن لديه، من جراء عمله المتجول، شبكة مخبرين في كوبا، ولقد وصل إلى ذروة المخادعة حين أرسل صوراً للأجهزة التي يبيعها زاعماً أنها تتعلق بمنشآت عسكرية سرية.
وفي لندن صدقه الجميع، ما عدا هاوثورن الذي فهم اللعبة تماماً. أما لندن فأرسلت إلى وورمولد سكرتيرة ومساعداً لدعمه في عمله، وإذ تصل السكرتيرة وتحاول الاتصال "بعميل" لوورمولد يدعى راؤول، يخشى وورمولد الفضيحة ويزعم أن راؤول في مهمة تصوير جوي، وهكذا تتوالى أحداث هذه الرواية، وتتزاحم الشخصيات و"الأسرار" حتى اللحظة التي يفتضح فيها كل شيء وتعلم الاستخبارات الإنجليزية بالحقيقة. فكيف تتصرف؟ ببساطة تفضل السكوت عن الأمر وإلا، لفقدت مصداقيتها، وهكذا ينجو وورمولد بفعلته، بل إنه يتزوج من السكرتيرة بعد أن يكون قد وقع في هواها.
المنشآت الوهمية تتجسد
ليس ما يهمنا من أحداث هذه الرواية هنا جانبها العاطفي ولا الشخصي، بل ما هو متداول من أن مزاعم وورمولد حول المنشآت السرية، تشبه إلى حد بعيد، وجغرافياً حتى، ما سوف ينكشف بعد سنوات، من منشآت حقيقية أقامها الروس في كوبا (كاسترو)، لإقامة قواعد صاروخية تهدد أمن الولايات المتحدة. ومن هنا يبقى السؤال: هل أنشأ السوفيات والكوبيون تلك القواعد انطلاقاً من قراءتهم لـ"عميلنا في هافانا" واعتقادهم أن الأميركيين لن يتنبهوا إلى ذلك، لأنه لن يخطر في بالهم أبداً أن الواقع يمكن أن يقلد الفن إلى هذه الدرجة؟ مهما يكن لا بد أن نذكر هنا أن جون لوكاريه، كتب عام 2001 روايته "خياط باناما" مستوحاة مباشرة من "عميلنا في هافانا".
كما ان هذه الأخيرة حولت بعد نجاح ثورة كاسترو إلى فيلم، صور بإذن من كاسترو في كوبا نفسها، حتى وإن كان الثوريون الكوبيون قد لاموا غرين والفيلم على كونهما لم يصورا بشاعة عصر باتيستا كما يجب، وطبعاً كان رد غرين، أن هذا الأمر لم يكن لا موضوع الرواية ولا هدفها.