ملخص
يعيش آلاف الرجال في تونس حالاً من الكر والفر بينهم وبين طليقاتهن اللاتي يهددنهم بتقديم شكاوى ضدهم في حال عدم خلاص النفقة، هذا الوضع جعل عديداً من المهتمين بالشأن المجتمعي في تونس يرون أن الأمر أصبح غير طبيعي وفيه نوع من الاضطهاد للرجل. وطالب كثر بتعديل القوانين حتى تتلاءم والواقع.
في مجتمع يشهد تحولات اجتماعية واقتصادية متسارعة، أصبحت "النفقة" التي يلزم بها الرجل بعد الطلاق لمصلحة أبنائه وطليقته، محل جدل واسع في تونس، بين من يعدها حقاً مشروعاً لإعالة الأبناء بعد الانفصال ليضمن لهم عيشاً كريماً، ومن يراها نوعاً من اضطهاد الرجل وابتزازه بعد الطلاق باعتبارها عبئاً قانونياً ومادياً يثقل كاهله، فينفر في بعض الأحيان من فكرة الزواج نفسها، خصوصاً في ظل تنامي حالات الطلاق وتدهور القدرة الشرائية للتونسيين.
وبين تباين الآراء، لا يزال المشرع التونسي يبحث عن حل عادل لهذه القضية الاجتماعية، خصوصاً أن سلب حرية الرجل الذي يمتنع أو الذي لا يستطيع دفع النفقة، أصبح أمراً غير مقبول لعديد من الأطراف، مما جعلهم يطالبون بتغيير القانون وإيجاد حلول أكثر عدلاً.
ويبلغ عدد المحكوم عليهم بالنفقة في تونس لهذه السنة ومعظمهم مودعون في السجون، نحو 265 ألفاً وهو رقم يعكس أزمة انتشار ظاهرة الطلاق ويظهر مدى صعوبة مرحلة ما بعد الطلاق، إذ يجد غالب المطلقين أنفسهم أمام مواجهة ذلك السيف المسلط على رقابهم بخاصة ذوو الدخل المحدود.
حالات الكر والفر
يقول منجي، رجل أربعيني مطلق وأب لطفلين، إن حياته أصبحت جحيماً بسبب حكم النفقة الذي سلط عليه. وأضاف الرجل بحزن واضح على تعابير وجهه، "أنا عامل في مصنع لا تزيد جرايتي الشهرية على 300 دولار شهرياً، مع العلم أنني لا أملك منزلاً وأعاني من مرض مزمن. وعلى رغم كل هذا حكم عليّ بمبلغ لطليقتي كنفقة لها ولأطفالنا لا يمكنني توفيره شهرياً". وتنهد منجي وقال بحسرة، "لو كنت أعرف أن الزواج سيوصلني إلى هذه الحال التي أصبحت فيها مختفياً من البوليس حتى لا يقبض عليّ بتهمة عدم تسديد المبلغ، لما فكرت فيه".
أما مراد وهو أب لثلاثة أطفال ومطلق منذ أربعة أعوام يقول إنه يعيش معاناة حقيقة، وإنه سجن مرتين بسبب النفقة لأنه لم يقدر على تسديد المبلغ لطليقته. ويضيف الرجل التونسي بكثير من الحزن والغضب، "نحن نعيش في حال هرب دائم من الشرطة ومن زوجتي السابقة التي تهددني دائماً بالسجن إن لم أسدد لها النفقة التي حددها القاضي بعد الطلاق والتي أصبحت عبئاً كبيراً لم أستطع بسببها مواصلة حياتي بأمان ولا إعادة تجربة الزواج". ويقول مراد، إنه منع حتى من السفر بسبب بطاقة تفتيش ضده لم يكن يعلم بها.
من جانبه يقول مهدي، وهو شاب عازب، "للأسف مشروع الزواج في تونس أصبح مشروعاً تجارياً بحتاً بالنسبة إلى المرأة"، موضحاً أن "هدف بعض النساء أصبح إنجاب طفل أو اثنين وبعدها تطلق بكل سهولة لأن القانون التونسي يساندها في هذا" بحسب رأيه، مواصلاً "بعد الطلاق تضمن دخلاً شهرياً وهو النفقة التي يدفعها طليقها لإعالتها وإعالة أطفالها، وإذا لم يدفع يسجن". ويعتقد مهدي أن "الرجل التونسي أهين بسبب مجلة الأحوال الشخصية التي دمرت العائلات التونسية بسبب انحيازها التام للمرأة وإذلالها للرجل التونسي".
ويعيش آلاف الرجال في تونس في حال من الكر والفر بينهم وبين طليقاتهن اللاتي يهددنهم بتقديم شكاوى ضدهم في حال عدم خلاص النفقة، هذا الوضع جعل عديداً من المهتمين بالشأن المجتمعي في تونس يرون أن الأمر أصبح غير طبيعي وفيه نوع من الاضطهاد للرجل. وطالب كثر بتعديل القوانين حتى تتلاءم والواقع.
اضطهاد الرجل
في هذا الصدد يرى النائب عن المجلس الوطني للجهات والأقاليم، منصور صمايري أنه" بعد الطلاق، لا تنتهي القصة، بل تبدأ معركة جديدة حول النفقة. وبحسب القانون التونسي، فإن الزوج ملزم بتوفير نفقة أبنائه، وفق قانون النفقة". ويرى الصمايري أن "النفقة أصبحت نوعاً من الاضطهاد ضد الرجل"، بمراجعة الآلية التقديرية للنفقة واستبدال العقوبة السجنية بالخدمة الاجتماعية وإحداث وساطة أسرية داخل المحاكم للصلح والتسوية قبل اللجوء إلى العقوبات البدنية التي ليست في صالح لا الرجل ولا العائلة".
وقال الصمايري، إن "هناك رجالاً من ذوي الحاجات الخاصة مطالبين بدفع نفقة لطليقاتهم، وهناك آخرون مطالبون بدفع 150 دولاراً في الشهر، في حين أن دخلهم لا يتجاوز 50 دولاراً إعانة اجتماعية، مما يجعلهم على قائمة الملاحقين من طرف الأمن".
وبين الصمايري أن "قانون النفقة يحمي الأطفال والزوجة ويضع الرجل أمام أوضاع قاسية ومهينة"، وذلك "بسبب تحديد الأحكام من دون تقييم للدخل الحقيقي للرجل وبسبب العقوبات السجنية غير المنصفة وتراكم الديون وتعطل مصالح الرجل بمنعه من السفر". وطالب النائب بـ"إصلاح شجاع لقانون النفقة في تونس يحقق العدالة للجميع"، مضيفاً أن "مئات الآباء يقبعون في السجون التونسية بسبب عجزهم عن دفع النفقة، مما يفتح باب التساؤل في شأن جدوى العقوبات الزجرية كوسيلة لحل الأزمة".
من جهتها أكدت وزيرة العدل التونسية ليلى جفال أن "191 مودعاً في السجون بسبب قضايا النفقة، موزعين بين 184 ذكراً وسبع إناث"، معتبرة أن "هذا الرقم ليس كبيراً، إلا أنه يستدعي البحث عن حلول"، مشددة على أن ''العقوبة السجنية في هذه الحالة ليست حلاً".
وفي معرض إجابتها عن تساؤلات واستفسارات أعضاء مجلس نواب الشعب والمجلس الوطني للجهات، خلال الجلسة العامة المخصصة لعرض ومناقشة مهمة وزارة العدل في مشروع موازنة الدولة لعام 2026، أشارت جفال إلى أن "الوزارة تتعاون مع وزارة المرأة والأسرة ووزارة الشؤون الاجتماعية لإعداد دراسة تهدف إلى تنقيح صندوق النفقة ومراجعة بعض النصوص المتعلقة بالعقوبات في قضايا النفقة".
واجب شرعي
ويعد القانون التونسي، النفقة واجباً شرعياً على الزوج لإعالة زوجته وأبنائه. ويعتمد تقدير مبلغ النفقة على قدرة الزوج المادية وحالة المحكوم عليهم من حيث العمر والصحة والدراسة ومستوى العيش. ويشمل ذلك كل ما هو ضروري من مأكل وملبس ومسكن وتعليم وعلاج، بحسب العرف والعادة. ويمكن رفع دعوى قضائية في حال عدم الالتزام بالدفع، مع وجود صندوق ضمان النفقة كآلية لدعم تنفيذ الأحكام. وتستحق الزوجة النفقة ما دامت متمكنة من الزوج، وتسقط عنها إذا امتنعت عن الانتقال إلى بيت الزوجية أو رفضت العودة إليه (النشوز)، إلا إذا كان هناك مبرر شرعي كالإيذاء.
وتستمر النفقة أيضاً على الأبناء حتى بلوغ سن الرشد، أو نهاية مرحلة التعليم الجامعي، إذا كان الابن يزاول تعليمه ولم يتجاوز سن الـ25.
وتستحق الأنثى النفقة حتى تتوفر لها موارد رزق أو تتزوج وتجب نفقتها على زوجها.
أيضاً الأبناء ذوو الإعاقة العاجزون عن الكسب يستحقون النفقة بغض النظر عن أعمارهم.
وتقدر النفقة وفق القانون التونسي، بحسب الإمكانات المادية للمنفق، ويأخذ القاضي في الاعتبار دخل الزوج وأملاكه.
وفي حال الامتناع عن الدفع يمكن رفع شكوى قضائية على الزوج بتهمة "إهمال عيال"، وتراوح العقوبة بين السجن والغرامة.
وتسجل تونس أرقاماً وصفت بالمفزعة في نسب الطلاق، إذ بلغت عام 2023 نحو 14 ألف حالة طلاق، بمعدل يفوق 38 حالة يومياً.
هل المرأة فوق المحاسبة؟
ومن الآراء التي تنتقد بشدة قانون النفقة في تونس، بين المتخصص في مجال القانون حاتم الميناوي "وجهاً من أوجه انحياز قانون الأحوال الشخصية إلى المرأة في القضاء التونسي"، معتبراً ذلك "خرقاً واضحاً لمبدأي المواطنة، والمساواة أمام القانون. وهو ما يجعل من إصلاح القضاء ومراجعة مجلة الأحوال الشخصية من أهم الأولويات في هذه المرحلة، تحقيقاً للعدالة الأسرية ودعماً للاستقرار المجتمعي".
ولمزيد من التوضيح يتساءل المنياوي، "كيف يعقل أن يسمح القانون لزوجة بأن تطالب بالنفقة، والحال أن وضعيتها المادية قد تكون أفضل من وضعية زوجها؟ وقد يكون راتبها أكبر من راتبه، ودخلها أكبر من دخله، ومكاسبها أكبر من مكاسبه، وثروتها أكبر من ثروته"، مواصلاً "ألا يعد ذلك إثراء على حساب الغير أو إثراء من دون موجب، يمكن أيضاً اعتباره اعتداء على حقوق الآخرين، وعلى حق الملكية الذي يكفله الدستور". وسأل الميناوي، "ألا يمس ذلك باستقرار المعاملات المالية داخل المجتمع ومن ثم يمس بالنظام العام، وبالحق العام، أم إن المرأة التونسية فوق المحاسبة، وفوق القانون، وفوق الحق العام، وفوق النظام العام؟ إني أتحدى كل المحاكم والقضاة في تونس أن يثبتوا لنا المقاييس الموضوعية أو المعادلات الرياضية العلمية التي استندوا إليها، لتقدير مبلغ النفقة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تفكك وهشاشة
وحذر المتخصص في مجال القانون من النتائج السلبية لهذه السياسات الخطأ بحسب تعبيره، ذاكراً ارتفاع مظاهر العنف والقتل بسبب قضايا النفقة، إضافة إلى العدد الكبير من المساجين والهاربين خارج البلاد بسببها. وأضاف متسائلاً "إلى متى يتواصل مسلسل رفع قضايا إهمال العيال ضد أزواج معدمين، أو عاطلين من العمل، أو عمال يوميين، أو عمال موسميين؟ إلى متى سيتواصل مسلسل رفع قضايا إهمال العيال ضد أزواج ظلوا لأعوام طويلة يعيشون في ظل الحياة الزوجية المستقرة إلى حين أن تغدر بهم زوجاتهم وترفع ضدهم قضايا في إهمال العيال؟".
من جهته يعد الباحث في علم الاجتماع طارق السعيدي أن "وجود النفقة في القانون التونسي يعبر عن حرص الدولة على حماية مؤسسة العائلة من التفكك والهشاشة". غير أنه يرى في المقابل أن "النفقة، باعتبارها مقابلاً مادياً، قد حولت طبيعة العلاقة داخل الأسرة من رابطة قائمة على التضامن والعشرة إلى علاقة مادية بحتة". ويضيف أن" التفكير في الزواج أصبح منذ البداية قائماً على الجوانب المادية، وكذلك الانفصال ينظر إليه من ذات المنظور".
ويرى السعيدي أن هذا التوجه يندرج ضمن ما يسميه "سلعنة" العلاقات الإنسانية، حيث "باتت مؤسسة العائلة تخضع لمنطق السوق أكثر من منطق بناء أسري سليم، مما قد يؤدي إلى عزوف الشباب عن الزواج وتفكك أسري مبكر وضرب قيم التضامن الاجتماعي على رغم من نية المشرع في الأصل الحفاظ على الأسرة".
ضرب مكتسبات المرأة التونسية
من جانب معاكس تعالت أصوات نسوية من بينها رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية راضية الجربي التي عدت أن "تواتر المبادرات في الأسابيع الأخيرة ذات العلاقة بحقوق النساء ومكتسباتهن التشريعية والمتمثلة في مشروع قانون حول العفو التشريعي العام على المطالبين بتسديد ديون أحكام النفقة، وتنقيح الفصل 32 من مجلة الأحوال الشخصية، وغيرها هي مبادرات تمس بمكتسبات المرأة التونسية التشريعية وحقوقها الإنسانية كمواطنة، التي يكفلها الدستور والمواثيق الدولية، وتستبطن الرغبة بضرب مكتسبات جعلت من تونس نموذجاً في مجال حقوق النساء، ومن مجلة الأحوال الشخصية مكسباً يكرس الاستقرار الأسري تمت دسترتها بعد نضالات طويلة لنساء ورجال يؤمنون بمبادئ الجمهورية وقيم العدالة والحرية والمساواة".
وواصلت، "لعل ما ورد في آخر هذه المبادرات، لتعبير صريح على نية المس بمجلة الأحوال الشخصية باقتراح تعديل الفصل 32 منها وهي تتمة لمبادرة العفو التشريعي في مادة النفقة بحجة المساهمة في الحد من ضغط قضايا الطلاق على المحاكم والحد منها"، موضحة أنه "في حين أن هذه المبادرات إلى جانب خطورتها على التماسك الأسري والمصلحة الفضلى للأطفال والمحضونين، فإنها تتعامل مع الزواج على أنه عقد لا مؤسسة، يمكن إنهاؤه بمجرد تحرير وثيقة لا تختلف كثيراً عن صيغة 'أنت طالق'. وتجاربنا الميدانية والتصاقنا بالنساء والرجال على حد سواء أثبت لنا محاولة كثيرين رفع دعاوى طلاق 'بالتراضي' من دون أن يحصل التراضي الفعلي بينهما، وإنما يصدر كرهاً لحجج مختلفة".
وأكدت الجربي أن "الاتحاد الوطني للمرأة التونسية يحذر من أي تراجع على مكتسبات النساء، ويواصل دعمه لحقوقهن وسعيه لتحقيق مزيد منها، ويؤكد رفضه القطعي لهذا المشروع لما يشكله من تهديد حقيقي لمكتسبات النساء التونسيات، وما قد يسببه من ظلم لهن وتعد صارخ على كرامتهن، خصوصاً في ظل بعض العلاقات غير المتكافئة بناء على الوضع الاقتصادي والاجتماعي لغالبهن، ومس بالضمانات القانونية التي تنبني على مبدأ المواجهة وتكفلها المحاكمات العادلة لضمان السلم الاجتماعي وتحقيق النظام العام".