Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غراهام غرين يعصرن بطل ثيربانتس ويسيّسه

حين أقحم "كيشوت" نفسه في الكهنوت ورافق العمدة الشيوعي حتى النهاية

غراهام غرين (الموسوعة البريطانية)

على رغم أن رواية "مونسنيور كيشوت" التي كانت واحدة من آخر رواياته كانت كذلك أقصرها على الإطلاق، من الواضح أن الكاتب الإنجليزي غراهام غرين حرص على أن يحمّل تلك الرواية جملة من أفكار أتت أشبه بوصية سياسية له، ناهيك بأنها أتت مليئة بحوارات لا شك أن معظمها مستقى من حوارات كان غرين يقيمها في الواقع مع كثر من رجال دين ورجال سياسة عرفهم بل حتى ارتبط معهم بصداقات في بلدان مختلفة وفي أزمنة متنوعة. ومن هنا لئن كانت هذه الرواية التي لا يزيد عدد صفحاتها على 200 صفحة، قد تبدت رواية حوارية، فإنها أتت أيضاً على شكل تصفية حسابات فكرية بل سياسية ليس فقط مع آخرين عبروا وعبرت أفكارهم في بعض أفضل رواياته، بل مع نفسه أيضاً هو الذي لم يتورع في تلك الروايات عن وضع ذاته وأفكاره موضع التساؤل، والنقد أيضاً. وفي هذا الإطار، لن يكون من المغالاة القول إننا إذا كنا نوافق مع غرين على تقسيم رواياته جميعاً بين "ترفيهية" و"سجالية" فإننا نرى دائماً أن هذه الأخيرة أتت غالبية الأوقات نوعاً من إعادة نظر فكرية متواصلة. أما روايته التي نحن هنا في صددها، فقد جمعت في نهاية الأمر بين البعدين: الترفيهي والفكري بشكل لا لبس فيه.

حفيد لبطل ثيربانتس

ومن الواضح أن اختيار غرين للاشتغال هنا انطلاقاً من البطل الإسباني الشهير دون كيشوت، والتي عرف ثيربانتس مؤلف الرواية الإنسانية التأسيسية التي حملت مغامراته قبل عدة قرون من الزمن واعتبرت دائماً مفتتح الفن الروائي بالمعنى المعاصر للكلمة، عرف كيف يخلق عبره وعبر مغامراته ما يعتبر أول بطل روائي إشكالي في التاريخ، اشتغال غرين هذا لم يكن صدفة ولا يقتصر على كونه البعد الترفيهي في هذه الرواية التي تدور في زمننا هذا لتناقش أموراً وأفكاراً وممارسات لا يبدو واضحاً مدى علاقتها بكيشوت القديم. فالبعد الترفيهي هذا والذي يهيمن على أسلوب غرين في كتابة روايته وفي كون الرواية رواية طريق كما حال رواية ثيربانتس الفريدة، وصولاً حتى إلى استخدام غرين لنفس أسلوب العنونة الذي اتبعه الكاتب الكلاسيكي الإسباني، بل يتجاوز ذلك إلى اللغة الساخرة المرحة والمواربة في الحوارات بين من سنفترض أنه رجل دين وبين العمدة الذي تقدمه لنا الرواية العصرية بوصفه عمدة شيوعياً لبلدة ريفية في إسبانيا المعاصرة. ويقيناً أن تلك الحوارات الثاقبة والذكية بين ممثل "الفكر الروحي" وممثل "الفكر المادي" هي التي حملت البعد الفكري الذي يشكل "وصية" غراهام غرين، ما يشبه في نهاية الأمر تلك الطروحات المدهشة التي حملتها خلال الربع الثالث من القرن العشرين سلسلة أفلام "دون كاميلو" الإيطالية التي دارت من حول رجل دين كاثوليكي (غالباً ما لعب دوره الممثل الهزلي الفرنسي فرنانديل) وعمدة شيوعي ارتبط معه بصداقة تحمل من المناكفة قدر ما تحمل من الندّية.

رغبة والتباس

ولكن إذا كان قدر كبير من العداء البدائي للشيوعية قد هيمن على سلسلة الأفلام المذكورة، فإن رواية غراهام غرين تبدو أكثر ذكاء وعمقاً، وعلى الأقل من خلال رغبة الكاتب في إيجاد نوع من المصالحة بين الفكرين. والحقيقة أن تجلي هذه الرغبة هنا ولو بأشكال تحمل قدراً ما من الالتباس، هو ما عبرنا عنه في السطور السابقة بكونه يحمل في طياته تلك الوصية من دون أن يفوتنا أن غرين كان دائماً ما يدنو من تلك الفكرة في رواياته الأكثر عمقاً، بل حتى في تلك التي بدت مفرطة في كاثوليكيتها، مثل "السلطة والمجد" أو في أيديولوجيتها مثل "الأميركي الهادئ" وكأن لسان حال غرين كان وبقي دائماً أن في هذا العالم متسعاً للجميع!

المونسنيور والشيوعي العتيق

تدور رواية غرين من حول قسيس أبرشية كاثوليكي في بلدة تدعى إيل تاباسو في منطقة المانش الشمالية الغربية الإسبانية وهو "الأب كيشوت" الذي ينظر إلى نفسه بوصفه متحدراً من دون كيشوت الشهير. وهو لا يريد أن يتخلى عن هذه الفكرة حتى ولو أكد له أبناء رعيته ليلاً ونهاراً بأن دون كيشوت القديم ليس شخصاً حقيقياً بل هو شخصية أدبية اخترعها الكاتب ثيربانتس. ذات يوم يحدث لهذا القسيس، أن يقدم عوناً لمطران إيطالي من جماعة البابا تتعطل سيارته في رحلة يقوم بها إلى المنطقة، فلا يكون من سلطات الفاتيكان إلا أن تكافئه على العون والتفاني بأن تمنحه على الفور لقب "مطران" غير عابئة بغضب مطران المنطقة الذي لم يكن أبداً راضياً عن نشاطات القسيس "المشبوهة". وهذا المنطلق يرويه لنا غرين في فصول متتالية حمّلها، على طريقة ثيربانتس نفسه عناوين "تفسيرية" مثل "كيف أصبح الأب كيشوت مطراناً" أو "بأية طريقة انطلق المونسنيور كيشوت في رحلاته" أو "حيث يلقي سانشو أضواء جديدة على معتقد قديم"... وسانشو هذا، والذي يحمل اسم رفيق دون كيشوت القديم، ما هو هنا سوى العمدة السابق للبلدة التي ينطلق منها المونسنيور الذي طرده مطرانه القديم فانطلق في جولته للوصول إلى أبرشية جديدة بالسيارة المتهالكة التي تحمل، بالطبع، اسم حصان دون كيشوت القديم "روتشينانتي" كي تكتمل الدائرة على أحسن وجه. أما "المعتقد القديم" الذي يلقي عليه رفيقه في رحلته سانشو أضواء جديدة فليس في الواقع سوى الفكر الشيوعي الذي بعدما كان محظوراً في إسبانيا خلال عهد الدكتاتور فرانكو بات علنياً الآن وله حزبه المشروع ونوابه في المجالس المحلية والوطنية وصراعاته، بعد زوال الدكتاتورية الفاشية. ومن الواضح أن سانشو الشيوعي التقليدي لا يتوقف خلال تجواله بالسيارة عن معالجة النمط الإسباني من الشيوعية "الأوروبية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سانشو ضد الانفتاح

ولسوف نكتشف بالتدريج عداء سانشو لتلك الشيوعية التي لا يوافق عن "انفتاحيتها" حيث يقول ذات لحظة في معرض نقاشه مع رفيقه المطران وقد وصلا قرب الحدود البرتغالية بعد تركهما جبال توليدو: "لو كنت تحمل جواز سفرك، لكان من شأننا أن نمر ببراغانسا البرتغالية فهي أأمن لنا" لماذا؟ "لأنني أفضل رفاقي هناك على الرفاق الشيوعيين الإسبان. فكونيال أفضل لدي مئة مرة عن كاريّو" يقول سانشو مشيراً إلى الزعيمين الشيوعيين البرتغالي والإسباني. وهنا يسأله المطران عما إذا كان يعتبر نفسه ستالينيا فيجيبه العمدة الشيوعي السابق أنه ليس ستالينياً "ولكن مع الستالينيين نعرف على الأقل على أية أرضية نقف. هم ليسوا يسوعيين يتحولون بمقدار ما تتحول الريح بهم. فإن كانوا قساة، لا شك أنهم قساة تجاه أنفسهم أكثر مما هم قساة تجاه الآخرين...".

توازيات حتى النهاية

غير أن هذا الجانب "الأيديولوجي" في الرواية ليس كل ما فيها بالطبع. فنحن هنا أمام رواية ترفيهية تنتمي إلى حس الفكاهة الذي يطبع البعض من أعمال غرين. وهكذا نتابع على مدى صفحات الرواية وفصولها، وإلى حد ما على غرار ما يفعل أبطال رواية تشارلز ديكنز "أوراق مستر بيكويك" ولكن إلى حد أكبر، على غرار رواية "كيشوت الأم" التي يمكن النظر إليها في نهاية الأمر كعمل فكه تدور فكاهته دائماً من حول "بطولات" البطل ومعاركه مع طواحين الهواء، ولكن كذلك من حول غرامه تجاه دولسينيا التي لا ريب أنها تحضر بدورها في رواية غرين ولكن من خلال تمثال للسيدة العذراء يمثل غرام المونسنيور المستحيل، لكنه يحاول مع ذلك إنقاذ التمثال من محاولات دنيوية لتدنيسه كما حال سلفه الكبير الذي يضحي كثيراً بوقته وجهده من أجل تخليص دولسينيا ممن يحاولون تدنيسها. تماماً في هذا السياق كما أن دون كيشوت يقع أرضاً ذات لحظة ويجرح فيما يحاول إنقاذ فاتنته ما يتسبب بموته ودفنه في فصل لعله أقوى ما في الرواية عند نهايتها، كذلك حال كيشوت المعاصر هنا، إذ يصاب بما أصيب به السلف في محاولته إنقاذ التمثال...

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة