ملخص
يطرح حاضر قصيدة النثر الجديدة في مصر ومستقبلها القريب، سؤالاً جوهرياً حول مسار هذه الكتابة الشعرية، وهل يقود إلى تواصل حيوي وضروري مع المتلقي أم إلى مزيد من العزلة؟
تكتسب المناسبات الشعرية النوعية، وإصداراتها التخصصية، أهميتها من خلال السجالات التي تقترحها، والأسئلة الإبداعية والنقدية التي تثيرها بصورة عملية ومباشرة في اختبارات التلقي وحساسية الذائقة، وفي الحضور الجماهيري على الصعيد الكمي أيضاً، وليس فقط على مستوى الوعي الكيفي.
ولا شك في أن مؤتمر قصيدة النثر المصرية، الذي انعقدت دورته التاسعة 2025 منذ فترة وجيزة بمقر نقابة الصحافين في القاهرة تحت شعار "50 عاماً من التدفق"، يمثل في مجمله حالة حراك في المشهد الشعري المصري بوجه عام، وفي واقع قصيدة النثر التي تكتبها الأجيال الجديدة بصورة خاصة. فمن جهة، يفسح المؤتمر المجال عبر أمسياته الشعرية وندواته النقدية للون إبداعي تكاد تهمله المؤسسة الثقافية الرسمية المنحازة في فعالياتها ومهرجاناتها وجوائزها إلى الكتابة الكلاسيكية والنمطية. ومن جهة أخرى، يصدر المؤتمر أجزاء متتالية من "أنطولوجيا قصيدة النثر المصرية" بعنوان "ينابيع تصنع نهراً"، متضمنة أحدث نماذج لقصيدة النثر التي يكتبها الشباب اليوم، إلى جوار شعراء متحققين من أجيال سابقة.
وإذا كانت الإجابة تحمل قدراً مقبولاً من الإيجابية في ما يخص مدى قدرة قصيدة النثر الجديدة على التشارك التفاعلي مع الجمهور العام في قاعات المؤتمر التي لم تكن خالية، على رغم الطبيعة البصرية لتلك القصيدة القائمة على المقروئية الفردية الهادئة والهامسة في الأساس، فإن تقصي الإجابة الدقيقة عن سؤال "إلى أين تتجه قصيدة النثر المصرية الجديدة.. إلى التواصل الفعلي أم إلى مزيد من القطيعة؟" يبدو مرهوناً بالنماذج الشعرية التي تتضمنها "أنطولوجيا قصيدة النثر المصرية"، بوصفها خلاصة تجارب الشعراء المشاركين في دورات المؤتمر، والساعين إلى إحداث تحولات جذرية في النص، وخوض فضاءات التجريب بأجنحة المغامرين.
الكم أم الكيف؟
تواصل "أنطولوجيا قصيدة النثر المصرية"، في انتقاءات جزئها السابع (2025) الصادر عن دار "روافد" للنشر في القاهرة في أكثر من 150 صفحة، تأكيد فلسفتها العامة "في الإبداع متسع للجميع"، وهي الفلسفة التي يتمسك بها معدو الأنطولوجيا، الشاعر عادل جلال المنسق العام للمؤتمر، وعضوا اللجنة المنظمة هذا العام: إبراهيم جمال، وعمر شهريار. وتقود تلك الفلسفة المنطلقة بصورة رئيسة من منصة رفض الإقصاء وكراهية التمييز إلى الحرص على احتواء أكبر عدد من الشعراء بين دفتي الأنطولوجيا، بمعنى تغليب الطبيعة الموسوعية الإحصائية للأنطولوجيا على فكرة التمثيل المحدود الدال، الذي قد تأخذ به أنطولوجيات أخرى تعتمد شروطاً فنية وإجرائية أكثر قسوة في اختيار الشعراء وقصائدهم.
تحت هذه المظلة، تتجاور في الأنطولوجيا بعض الأسماء الراسخة من أمثال أمجد ريان، وعيد صالح، وياسر الزيات، ووليد علاء الدين، وفاطمة وهيدي، والراحلين محمد عيد إبراهيم، ومحمد السيد إسماعيل، وآخرين، إلى جانب الأكثرية من الأسماء الشابة والطامحة من أحدث الأجيال الحالية، إيماناً بتمتع قصيدة النثر المصرية بـ"قوة وتنوع مدهشين، بغض النظر عن الذائقة التي لا تزال مأزومة، حتى بين المتخصصين، في مصر وغيرها، فلكل شاعر وشاعرة مذاقه الخاص وموقفه الجمالي ومرجعيته في إبداعه، حتى في سياق المرجعيات المعرفية والفنية المشتركة"، وفق الغلاف الخلفي للأنطولوجيا.
موضع الأزمة
يتحدث مانفستو الأنطولوجيا عن "ذائقة مأزومة" أمام نصوص الشباب المتجاوزة، والحقيقة أن هذه القصائد التجريبية وحدها هي الكفيلة بإيجاد حل لتلك الأزمة، إن صحت. ولا يتأتى ذلك إلا بقدرتها المرنة والسلسة على التوهج والتجدد وردم الفجوة بين الكتابة والتلقي، والخروج من دائرة العزلة والتغريب والالتواءات التي وسمت القصيدة المصرية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي قبل انتشار قصيدة النثر، وتخطي قوالب الاجترار وكليشيهات التنميط والانصهار في المجاني اليومي والمواقف الاعتيادية التي أبعدت قصيدة النثر المستنسخة عن القارئ المتعطش إلى الكتابة الطازجة، المدهشة، الخاطفة، غير المتوقعة، خلال المرحلة الأخيرة التي سادتها الرتابة وشابها التكلس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعل هذا الأفق من التواصل الحميم بين قصيدة النثر الجديدة التي يكتبها شعراء مصر الشباب اليوم، والذائقة اللحظية المتطورة والذكية والمتراكمة الخبرات في العالم الرقمي المتسارع، لا يبدو بلوغه بالأمر الهين في ضوء انفتاح "أنطولوجيا قصيدة النثر المصرية" على "الجميع" كركيزة مفتاحية لإثبات حضور قصيدة النثر، ليس فقط في العاصمة المصرية، وإنما في سائر الأقاليم والمحافظات، وفق فلسفة الأنطولوجيا في احتواء النصوص. ومن ثم، فإن طابعها الموسوعي يتطلب بذل مزيد من الجهد من جانب القارئ للتمحيص والفرز، واستشفاف عدد من القصائد القليلة، أو غير الكثيرة، التي تخطفه خطفاً إلى التفاعل الحيوي المأمول، والمعول عليه في دفع قصيدة النثر المصرية إلى الأمام خطوات حقيقية.
لقطات واعدة
في هذه المنعطفات الجريئة والمضيئة، على صفحات الأنطولوجيا، وإن قلت، تتجسد على سبيل المثال قصائد لأقلام شابة، منهم أحمد العشري، الشاعر والمخرج واختصاصي التحول الرقمي في الفنون البصرية، في نصوصه القصيرة، ذات الطبيعة المشهدية والحركية، وفي الحفرة الوجدانية التي يستكشفها في الزمن، تلك الحفرة التي "كلما اقترب أحد منها.. سقط في نفسه".
وثمة ومضات أخرى متفرقة، منها "ذئب يعوي للداخل" للشاعرة حفصة رفاعي، إذ تتنحى عن معرفة جدوى العبث المحيط، منخرطة في "إخراس المجازات برأسها"، وساعية إلى الخلاص من الأوهام والسراب بولادة الحقيقة من ذاتها. وبدورها تتحلل الشاعرة دعاء خطري من رمادية سماء لا تشبهها، لتغدو "كضوء قطار لا يتوقف"، في مواجهة الثبات. وتتناثر تجارب تشير إلى خصوصية مبدعيها في حلحلة قصيدة النثر وقنص حواس المتلقي بتلقائية وصدقية ومباغتة، منها نصوص لوسام زين الدين، وعلاء الدين مصطفى، وزين الزريقي، إذ يجتهد الشعراء في ملامسة الذات والآخر معاً بإنتاج قصائد متحولة توازي عالماً متغيراً من حولهم.