Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عن الموضوعية التي تسيطر على "حياة مشاهير الفلسفة" لديوجين اللائرتي

التاريخ المنطلق من مصر والهند وبابل ليصل إلى الرواقيين مع وقفة أفلاطونية

لوحة رافائيل "مدرسة أثينا" المستعملة غالباً للتعبير عن موسوعة ديوجين (الموسوعة البريطانية)

هناك في تاريخ الفلسفة القديمة، يونانية كانت أم لاتينية، أكثر من فيلسوف أو مؤرخ للفلسفة يحمل اسم ديوجين وذلك بدءاً طبعاً من ذاك ذي الأسمال الذي كان يمضي وقته حاملاً مصباحاً يقول لمن يسأله عن غايته منه إنه إنما يبحث على ضوئه عن الإنسان ولا يجده، وصولاً إلى ذلك الذي يمكن اعتباره الأكثر فائدة والأكثر ضرورة حتى اليوم للباحثين في تاريخ الفلسفة الإغريقية، ديوجين اللائرتي الذي لا تخلو مكتبة باحث في ذلك التاريخ من ترجمة لكتابه المعروف اختصاراً بـ "تاريخ مشاهير الفلاسفة". ومهما يكن فإن اللائرتي هذا هو الأكثر قرباً منا بين كل الديوجينات الذين نعرفهم. فهو على عكسهم عاش في القرن الثالث الميلادي برأي أغلب المؤرخين، بالتالي تمكن من أن يضم إلى تاريخه هذا العدد الأكبر من الفلاسفة وصولاً إلى الإبيقوريين حتى وإن لم يلحق لا فلاسفة مدرسة الإسكندرية ولا طبعاً الأفلاطونيين الجدد. ومع ذلك يمكن القول إن كتابه هذا هو المعتمد أكثر من أي كتاب آخر يؤرخ للفلاسفة القدماء ومدارسهم وأفكارهم، بل يتضمن حتى ما يمكن اعتباره أول وأوفى عرض لبدايات نشوء الفلسفة.

ليست الموسوعة الأولى

غير أن ما لا يجب الوقوع فيه فهو خطأ يقترفه كثر من المتحدثين عن هذا الكتاب والذين يحلو لهم أن ينظروا إليه أحياناً نظرة مؤرخي الفن النهضوي الإيطالي الذين يعتبرون كتاب جورجيو فازاري عن "حياة الفنانين" أول عمل موسوعي يتناول حياة هؤلاء. فالحقيقة أن كتاب ديوجين اللائرتي ليس بأية حال الموسوعة العلمية الأولى التي تتناول تاريخ الفلسفة القديمة وسير الفلاسفة وأفكارهم. والكتاب نفسه يقول لنا هذا بكل وضوح. فهو يذكر بالنسبة إلى كل مفكر صاحب سيرة كما بالنسبة إلى كل طائفة من المفكرين أو تيار، ما كان ذكر عنه أو عنها من قبل في مؤلفات، موسوعية أو غير موسوعية سابقة عليه، ما يجعلنا في نهاية الأمر أمام ما يشبه الأنطولوجيا التي تحاول أن تستعرض لنا تاريخ الفلسفة، حتى زمن ديوجين، وغالباً بصيغة موضوعية لا تحاول أن تتدخل لا تصحيحاً ولا تصحيفاً. ولعل هذا البعد هو الذي جعل كثراً من المؤرخين للفلسفة في القرون التالية على ظهور هذا المؤلَّف يعتمدون عليه بحيث يدين تاريخ الفلسفة ديناً كبيراً للائرتي حتى من دون أن ينظر إليه على أنه مؤرخ عميق الفكر دقيق التفاصيل. ومهما يكن من أمر نعرف طبعاً أن عنوان هذا الكتاب لم يستقر على حال، تماماً كما لم تستقر على حال سيرة مؤلفه ولا تفاصيل تلك السيرة، وإن كان من المفترض بحسب تفضيلات مواربة ترد في ثنايا الكتاب أنه كان أبيقوريا وإلى حد كبير أفلاطونيّ النزعة.

"الصوت التفضيلي" لأفلاطون وإبيقور

فهذا السفر الموزع على عشرة "كتب"، أو أقسام بالأحرى، يكرس العدد الأكبر من صفحاته أولاً لأفلاطون، ومن ثم عند النهاية لإبيقور. ولئن كان يمكن تفسير اهتمامه المفصل بأفلاطون - إلى درجة أنه يخصه بـ"الكتاب الثالث" بأكمله - انطلاقاً مما بات متداولاً من أن الكتاب كله إنما كتب بطلب وربما بتمويل من سيدة من علية القوم كانت على المذهب الأفلاطوني (ولا ريب أنها كانت الإمبراطورة جوليا دومنا)، ولم يكن عبثاً أن يكون الكتاب كله، بالتالي، واقعاً تحت تأثير أفلاطون وفكره، فإن الإبيقورية يمكن أن تفهم من التزامن بين حياة صاحبها وحياة ديوجين اللائرتي نفسه، ما جعل هذا الأخير يتوسع في تناوله حياة الفيلسوف الذي اشتهر بمكانته الكبيرة بين الرواقيين وفلسفتهم، حتى من دون أن نفترض أن ديوجين يخضع كل أفكار الفلاسفة الذين يتناولهم في موسوعته هذه إلى المنظور الرواقي، كما أنه لم يخضعهم قبل ذلك إلى الحتمية الأفلاطونية، بل عرف كيف يتعامل معهم جميعاً من موقع موضوعي إلى حد كبير يترك لقارئه استخلاص الموقف الذي يريد، من دون أن يجبره حتى على اعتبار نظرة السفر كله نظرة رواقية أو إبيقورية، ولعل هذا البعد أسهم في ترجيح كفة هذا المؤلف لدى الباحثين طوال القرون التي تلت ظهوره ولا سيما في عصر النهضة ثم في القرن الثامن عشر ومن بعده القرن التاسع عشر. ويقيناً أن هذا لم يكن صدفة. ففي عصر النهضة كما في عصر التنوير لاحقاً كانت الحاجة ماسة إلى مثل هذا العمل الموسوعي الذي يقترح تاركاً لأبناء المرحلة أن يستنتجوا بحسب توجهاتهم الفكرية.

عشرة أجزاء مقابل بدايات غامضة

كما أشرنا، يتوزع "حياة مشاهير الفلسفة" – وهو عنوانه الأشهر الذي ترجم إليه في عدد كبير من اللغات من بينها العربية في ترجمة جزلة حققها المصري إمام عبد الفتاح إمام وصدرت قبل سنوات عن المشروع القومي للترجمة في القاهرة – على عشرة كتب أو بالأحرى عشرة أقسام تبدأ بنوع من استهلال يستعرض تاريخ الفلسفة بشكل عام مبيناً أنها لم تولد مرة واحدة وفي مكان جغرافي واحد بل يتحدث كل قوم عن ولادتها في ديارهم. فـ"الفرس يرون أنها ولدت لدى مجوسهم" والهنود ينسبونها إلى "نساكهم وعراتهم" وهي تنسب إلى الكلدانيين لدى "البابليين والأشوريين". أما في مصر فهي وليدة هيفايستوس ابن النيل "الذي عاش قبل زمن الإسكندر بنحو خمسين ألف عام"... غير أن ديوجين ما إن ينتهي من استعراض هذه الفرضيات ليصل إلى الفلسفة بالمعنى التقني المرتبط بالفكر الإنساني، حتى يكرس فصلاً بأكمله للحديث عن طاليس الذي يعتبره "العالم الأول" وعن عدد من "علماء" آخرين أتوا بعده وذلك قبل ظهور الفلاسفة الذين يستحقون هذا التوصيف بدءاً من أناكسيماندروس وأناكسيمينس وصولاً إلى قيبيس ومينيديموس ولكن مروراً طبعاً هنا بسقراط الذي من الواضح أن ظله يهيمن على صفحات الكتاب الثاني وحتى من قبل أن يوجد بالفعل. بل إن ظل سقراط سيظل مهيمناً حتى وإن لم يكرس له ديوجين بالمعنى الإحصائي للكلمة سوى 24 صفحة يروي فيها سيرته المفترضة ويستعرض أفكاره التي سوف يعود إليها مرات ومرات، مرة من خلال كزينوفون وإقليديس وغلوكون، ولكن بعد ذلك من خلال أفلاطون الذي يقول لنا ديوجين باكراً إن سقراط ما كان ليوجد بالفعل وبالتفصيل لولا اهتمام أفلاطون به.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

البقية التي لم تظهر أبداً

ولئن كرس ديوجين الكتاب الثالث لأفلاطون كما ذكرنا، فإنه وقبل أن يتوقف طويلاً عن أرسطوطاليس وكبار مريديه وتلاميذه في الكتاب الخامس، سيتناول في الكتاب الرابع عدداً لا بأس به من تلامذة أفلاطون الذين سيرث بعضهم الأكاديمية من بعده ويواصل نشر أفكاره أحياناً بالتوافق مع أرسطو وحيناً بالتناحر معه. ومن بعد أن يختم ديوجين الجزء الخامس المخصص لأرسطو والأرسطية بالحديث المستفيض عن هيراقليطس، نراه يكرس الكتاب السادس للفلاسفة والمفكرين التالين من أنتيستينيس إلى بقية المفكرين الكلبيين ومن بينهم خاصة ديوجين الآخر ذو المصباح، كما من بينهم هيبارخيا زوجة كراتيس الكلبي والتي يحدثنا عنها الكتاب كفيلسوفة بدورها. وفي الجزء التالي، أي الثامن يصل ديوجين اللائرتي إلى المدرسة الرواقية التي يتضح لنا مدى اهتمامه بها اهتمام المتآلف مع أفكارها فيخصص لها أطول أجزاء الموسوعة دارساً معظم أقطابها من زينون الكيتيوني إلى أريستون وسفايروس وخريسبوس وغيرهم تمهيداً لانتقاله في الكتاب الثامن إلى المدرسة الفيثاغورية وذلك ضمن إطار تكريسه الكتاب الثامن في مجمله لما يسميه "المدرسة الإيطالية"، ملاحظاً أن من الأفضل تسمية مفكري هذه المدرسة بـ"العلماء" انطلاقاً من كون زعيمهم فيثاغورس نفسه عالماً أكثر منه فيلسوفاً مثله في هذا مثل أنبادوقلس. أما في الجزء أو الكتاب التاسع فنجدنا أمام خليط من فلاسفة ومفكرين لكل منهم قيمته في ذاته لا في المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها وليس حتى في انتمائه إلى منطقة جغرفية محددة. أما مسك الختام بالنسبة إلى ديوجين اللائرتي فيأتي في الكتاب العاشر والأخير الذي يبدو الأكثر أهمية بالنسبة إليه، وربما الأكثر "ذاتية" كذلك، إذ يخص به فيلسوفه الأثير كما أشرنا أعلاه إبيقور. غير أن اللافت هنا هو أن دراسة اللائرتي لإبيقور تنقطع بشكل مباغت بحيث يبدو أن المؤلف إنما ترك صفحاته مفتوحة على استكمال البحث لكنه لم يفعل. أو لربما يكون قد فعل لكن النتيجة لم تصل لا إلينا ولا إلى من سبقونا من قراء كتابه هذا، للأسف!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة