كما الحال بالنسبة إلى الرسامات والمؤلفات الموسيقيات اللواتي عرفهن التاريخ، من الواضح أن عدد الفيلسوفات النساء لم يكن كبيراً، وعلى الأقل حتى بدايات القرن العشرين حين امتلأت "الساحات" بهن كاتبات حكيمات وأساتذة جامعات ومناضلات في سبيل الفكر في العديد من البلدان والمراحل. قبل ذلك ومنذ عصور الفلسفة الإغريقية، ندر أن كانت هناك امرأة يهتم تاريخ الفكر بذكرها أو الإشارة إلى مساهماتها. ومن هنا، حتى وإن كان ثمة مفكرات نساء سبقن هيباتيا ابنة الإسكندرية وإحدى العلامات المميزة لمدرستها الفلسفية النيو- أفلاطونية، بل حتى شهيدة الفكر الأولى فيها، فإن تاريخ الفلسفة تعارف على اعتبارها الأشهر إن لم تكن الأولى، وعلى الأقل في مجال الفلسفات الرياضية والفلكية، وذلك إلى حد اعتبارها المؤلفة "الحقيقية" لكتاب "المجسطي" المنسوب إلى مواطنها بطليموس، أو على الأقل "المطورة الأساسية" لذلك الكتاب، وقد أضافت إليه وشرحته في تبسيط علمي من المفترض أنه هو الذي وصل إلينا عبر الأزمان ولا سيما في ترجمات عربية تعود إلى العصور الوسطى. ومع ذلك، على رغم "المجسطي" كما على رغم نصوص أخرى في العلوم الرياضية والفلكية تنسب إلى هيباتيا، بقيت تلك الفيلسوفة – العالمة – المناضلة مجهولة بالنسبة إلى جمهور القرن العشرين العريض، حتى كان التدخل السينمائي الذي أحيا ذكرها في فيلم "آغورا" الإسباني متحدثاً عبرها عن العنف الذي استشرى باسم الدين في إسكندرية القرون الأولى من تاريخ المسيحية. وهو فيلم سبق لنا تناوله في هذه الزاوية على أية حال. ولسنا في صدد العودة إليه هنا إلا كي نشير إلى أن النخبة كانت على أية حال قد تعرفت إلى هيباتيا قبل ذلك من خلال روايات ونصوص كتبت عنها ولوحات تصورتها.
تاريخ موت عنيف
لكن مشكلة هيباتيا كمنت دائماً في أنها تحولت عبر الزمن من مفكرة حقيقية إلى أسطورة. بالتالي ظلت في حاجة إلى أن تستعاد من عالم الأساطير إلى عالم واقع لا بد أن تشغل فيه مكانة متقدمة بوصفها واحدة من مفكرات يمكن عدّهن على أصابع اليدين إن لم يكن اليد الواحدة عبرن تاريخ الفكر خلال ما يقرب من ألفي عام. لكن هيباتيا كانت حقيقية خارج الأسطورة وكان لها تاريخ ولادة تقريبي (يتراوح بين العامين 350 و370 الميلاديين) وتاريخ موت عنيف تسبب به المتطرفون المسيحيون في عام محدد هو 415 انطلاقاً مما يذكره التاريخ عن المذابح التي قاموا بها في الإسكندرية نفسها وتمحورت من حول مكتبتها التي كانت مدرسة علمية وفكرية ومجمع طلاب وعلماء ومكتبة عامة مليئة بالمخطوطات والكتب والأدوات الفلكية في الوقت نفسه. ويقول لنا تاريخ هيباتيا إنها هي ترعرعت أصلاً داخل المكتبة تحت رعاية والدها العالم والمفكر ثيون الذي كان من أقطاب تلك المكتبة، بل يقول لنا التاريخ أن ثيون كان هو واضع التعليق على الكتاب الثالث لـ"المجسطي" لبطليموس الذي سوف تشتهر هيباتيا على الأقل بكونها طورت ذلك التعليق وعصرنته وربما أعادت الاشتغال عليه قبل مقتلها، وتحديداً على يد حاكم الإسكندرية الذي كان واحد من "عشاقها" يوم كان من طلابها في المكتبة؛ أو هذا على الأقل ما يرويه لنا فيلم "آغورا" في نوع من التخييل لحكاية لا شك أن جزءاً كبيراً منها حقيقي.
يوم كانت الإسكندرية منارة فكر
ولكن لنترك التخييل هنا مرة أخرى ولنعد إلى ما أبقاه لنا تاريخ العلم من سرد لإنجازات ابنة الإسكندرية هذه. علماً بأن هيباتيا كانت سليلة أسرة يونانية الأصل عاشت وعملت في تلك المدينة المتوسطية في الأزمان الغابرة التي كانت فيها مصر تابعة لما كان يعرف بـ"المملكة الرومانية الشرقية" (المؤسسة للإمبراطورية البيزنطية). وكانت الإسكندرية في ذلك الحين مدينة تعج بالأفكار والصراعات الدينية بين اليهود والمسيحيين و"الوثنيين" ممن كانوا يتقاسمون بقية ما تبقى من فكر إغريقي أفلاطوني وأفلوطيني (أي نيو أفلاطوني، من النسغ الذي سيصل إلى الفكر الفلسفي الإسلامي لاحقاً ويحدث فيه تأثيرات هائلة من طريق إبن سينا والفارابي خاصة، لكن هذه حكاية أخرى بالطبع). ولقد كانت هيباتيا وأسرتها من معتنقي الفكر الإغريقي الإنساني الذي كان يجابه التعصبين المسيحي واليهودي، لكن هيباتيا كانت هي نفسها متسامحة تقبل أفكار الآخرين منصرفة إلى العلم والتفكير العلمي بعيداً من أي تعصب أيديولوجي. ومع ذلك وجدت عداءً شديداً لها من جانب المتعصبين ولا سيما منهم أتباع كيريل بطريرك الإسكندرية من الذين اتهموها بتأليب خصومهم عليهم. ومن هنا كانت تلك المذبحة التي اندلعت في شهر مارس (آذار) من عام 415 وكانت هيباتيا والمكتبة بما فيها من مخطوطات وكتب، من أول ضحاياها.
عبقرية شاملة
كانت هيباتيا، كما حال أبيها من قبلها، نيو أفلاطونية لكنهما كانا على خلاف مع واحد من فروع هذا المذهب يقوده إيامبيخوس متبعين الفرع الآخر الذي يتبع نظريات أفلوطين. ولقد تولى الأب وابنته من بعده اجتذاب طلاب لهما كانوا يأتون إلى الإسكندرية قادمين من شتى البلدان المتوسطية، ليدرسوا على الأب ومن ثم على الإبنة بشكل خاص كتابات أفلاطون وأرسطو التي ستكون هيباتيا من أبرز المطلعين عليها ومن أهم ناشريها في ذلك الحين، وعلى الأقل بحسب ما سوف يؤكد واحد من أقطاب الفلسفة الإسكندرانية من بعدهما والمعروف بالدمشقي. وهو نفسه من سيؤكد لاحقاً أن واحداً من الألقاب الأكثر انتشاراً التي عرفت بها هيباتيا كان "ذات العقل الكلي" أو "العبقرية الشاملة"، حتى وإن كان كثر من المؤرخين سوف يؤكدون لاحقاً أنها كانت مفسّرة في الفكر والفلك وعلوم الأرقام، أكثر منها مؤلفة في هذه المجالات. ومن ناحية أخرى يجمع هؤلاء على أنها كانت من أول العلماء الذين طوروا الأسطرلاب الذي كان موجوداً قبلها وإن بشكل بدائي. ومن هنا يبقى اشتغالها على الكتاب الثالث من المجسطي، ومهما كان حجم هذا الاشتغال، وهو حجم يوصله بعض المتحمسين إلى مستوى التجديد الكامل من دون أن يكون ثمة من الوثائق ما يؤكد هذا الأمر، يبقى أن أياديها البيض واضحة على هذا الأثر الذي يبقى واحداً من أهم إنجازات مدرسة الإسكندرية في عز ازدهارها، أي تحديداً حتى اليوم الذي وضع فيه التعصب الديني نهاية دامية لحياة تلك التي ستعرف لدى الفنانين والمبدعين بلقب "عذراء الإسكندرية"، لكونها امتنعت عن الزواج والإنجاب متفرغة للعلم والفكر وصيانة ذلك الصرح العلمي والفكري الكبير الذي كانته مكتبة الإسكندرية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في انتظار اهتمام مصري حقيقي
والحقيقة أن في مقدورنا أن نقول اليوم إنه، على رغم وجود العديد من النصوص والأعمال التي يمكن أن تنسب إلى هيباتيا، لا شك أن إنجازها الأكبر إنما كان حياتها نفسها حتى وإن كنا نعرف اليوم أن المبدعين بشكل عام والمؤرخين العلماء ولو بحدود تقل عما فعل أولئك، أنصفوا ذكرى هيباتيا بأكثر مما فعلت الموسوعات العلمية والفلسفية التي يمكننا القول إن معظمها لا يزال مصراً على تجاهل إنجازاتها مركزاً على استخدام سيرتها كجزء من الاستخدام الأيديولوجي، إلى حد أن النص الأكثر جدية والذي كتبه باحث ومفكر مصري، هو داود روفائيل خشبة بالإنجليزية بعنوان "هيباتيا والحب الذي كان" وفيه اخترع حكايات من حول تلك العالمة، تدور من حول غراميات متخيلة، من دون أن ينسى في طريقه أن يربط بين هيباتيا وإيزيس الفرعونية في رباط ميلودرامي غير مقنع! لكنه لا يخلو من طرافة، وذلك على عكس فيلم حقق في استديوهات القاهرة قبل سنوات قليلة واستغل اسم هيباتيا في محاولة منه للإيحاء بأن لها ولتاريخها علاقة ما بالفيلم لكن تلك العلاقة لم تكن واضحة بل لم تكن موجودة أصلاً. ومن هنا قد يبقى الواحد منا على ظمئه ليرى ذات يوم اهتماماً حقيقياً من مصر بهذه الفيلسوفة التي روى دمها المسفوح يوماً، ظلماً وعدواناً، جزءاً من تربة وادي النيل وجعلت لمصر واحدة من النساء الفيلسوفات النادرات في تاريخ الفكر العالمي.