على الرغم من أنه سيكون من الصعب التنبؤ إذا ما كان انقلاب سياسي سيقع في روسيا، إلا أننا يمكننا تقييم كيفية عمل النظام (السياسي) الذي أرساه فلاديمير بوتين، والإمكانات المتاحة لتغييره إلى الأفضل.
في النظام الحالي لا يوجد أي شخصيات على رأس الهرم يمكنها التصرف بمعزل واستقلالية ضد إرادة [الرئيس] بوتين ــ فالرئيس الروسي لا يعين ولم يعين أبداً نائباً "أول" له، لكن هناك عدداً ممن يعدون نواباً للرئيس متساوين في مناصبهم [أنداداً في صلاحياتهم]. كل من هؤلاء مسؤول عن حيز عمل خاص ومحدد بعناية يعكس مسؤولياتهم وأطر عملهم. إن الإمكانات التي تتوفر لكل منهم لا تكفي لكي يقوموا بأي تحرك مستقل [خطوة مستقلة] من دون تلقي الموافقة المباشرة من [الرئيس] بوتين. لذلك فإنه من المستبعد تماماً أن يقوم أي من أعضاء النخبة [المحيطة بالرئيس] بتشكيل تحالف يمكنه المبادرة إلى أي تحرك ضمن النظام الذي أرساه بوتين [شخصياً].
إن أوجه النظام التي أدت إلى شن حرب بوتين في أوكرانيا- وإلى إخفاقها- ، أي عناصر السلطة الفردية المتشرذمة التي لا تملك القرار، تقوض أي تهديد من شأنه أن يؤدي إلى الإطاحة ببوتين من الداخل (على شكل انقلاب في القصر).
المشكلة لا تكمن فقط في غياب أي شخصيات وازنة ضمن النخبة السياسية [المقربة من بوتين] لكن يُفتقر أيضاً إلى أي هيكليات [قانونية وإجرائية] يمكن استخدامها لدفع بوتين إلى التنحي عن السلطة. ومثالاً على ذلك، في عام 1964 تمت إطاحة [رئيس الوزراء السوفياتي] نيكيتا خروتشوف Nikita Khrushchev من منصبه الحزبي الرفيع على يد كافة أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي. في النظام الذي أرساه بوتين، هو وحده فقط من يتحكم بكل مفاصل السلطة المطلقة. فمجلس أمن الدولة أو مجلس الدولة يمكنه نظرياً الالتئام في غياب [الرئيس] بوتين، لكن عملياً لا يمكن لأعضاء المجلسين الاجتماع واتخاذ أي قرارت إذا لم يكن بوتين حاضراً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن أجهزة الأمن والاستخبارات يعصى الخيال اعتبارها وكالات قادرة على إحداث أي تغييرات عملية في البلاد. هذه القوى والوكالات كلها تقع تحت الإدارة المباشرة للرئيس بوتين، ولا يشاركه في هذه المهام أي من الشخصيات المحيطة به ضمن دائرته الخاصة. ويسود جو من المنافسة إن لم نقل من العدوانية بين أعضاء تلك الدائرة المقربة. بعض القادة في مثل حال جهاز الاستخبارات الروسية المعروف بـ FSB، تعيق أعماله نزاعات ممنهجة بين أرفع قادته رتبةً. في حالات أخرى مثل وضع وزارة الدفاع أو مكتب مدعي عام الدولة الروسية، يُعين كبار الموظفين المسؤولين عن تلك الأجهزة من خارج ملاك موظفيها. في مثل هذه الظروف، من المستبعد أن تقوم تلك الأجهزة الأمنية ككل بالتحرك في شكل قوة موحدة، أو أن تبادر كذلك أي من تلك القوات منفردة إلى خطوة.
حتى الماضي القريب، كان لزعماء الأقاليم ثقل سياسي كبير ومؤثر [في القرار في روسيا]. وهذا لم يعد ينطبق على أيامنا هذه، وهناك مجرد شخصين لديهما مكانة معتبرة فقط: عمدة العاصمة موسكو سيرغي سوبيانين Sergei Sobyanin، والرئيس الشيشياني رجل [موسكو] القوي رمضان قاديروف. منصب هذا الأخير ضعيف في الهيكلية الفيدرالية للنخبة السياسية الروسية، لكنه يتمتع بصلات وثيقة ضمن أجهزة الأمن الروسية، وفي الواقع فإنه يقود بنفسه هيكليات قواته المسلحة وأجهزته الأمنية.
وفقاً للدستور الروسي، إذا وقع مكروه للرئيس، يصبح رئيس الحكومة، رئيساً لتصريف الأعمال طوال الفترة التي تفصل بين رحيل الرئيس وإجراء انتخابات جديدة في البلاد. لذلك لم يسمح بوتين يوماً بتعيين رئيس قوي للحكومة خلال أكثر من عقدين أمضاهما على رأس السلطة في روسيا ــ إلا عندما كان بوتين نفسه يشغل ذلك المنصب بين 2008 و2012، عندما منعته الفترات الرئاسية المحددة باثنتين بحسب الدستور [في حينه] من تولي الرئاسة. رئيس الوزراء الحالي ميخائيل ميشوستين Mikhail Mishustin، شخصية ليس لها نفوذ، على الرغم من أنه كرئيس سابق لمصلحة الضرائب، فهو لا يفتقر تماماً لارتباطات خاصة به.
إذا تخيلنا أن الرئيس بوتين اختفى الآن، فإن السلطة الرسمية الحقيقية تتحول أولاً إلى رئيس الحكومة ميشوستين Mishustin وأيضاً إلى عمدة موسكو سوبيانين Sobyanin. فلكل منهما تتوافر إمكانات إدارية ومالية [مستقلة] ــ إضافة إلى حضور إعلامي. وبمساندة من أجهزة الأمن يمكن لأي منهما طرح نفسه كقائد للبلاد.
إن عملية تنحي الرئيس بوتين في أي وقت تؤدي [في حد ذاتها] إلى إلغاء السطوة التي تتمتع بها الشخصيات المؤثرة من ضمن النخبة الروسية، لأن تأثيرهم مرتبط [حالياً] بالرئيس بوتين. وينطبق هذا على كبار الشخصيات في الإدارة الرئاسية الروسية، وعلى أمين عام مجلس الأمن [القومي الروسي]، وطبقة الأوليغارش الذين يتمتعون بحظوة عند بوتين حالياً.
في الوقت نفسه، إذا قرر الرئيس الروسي الاستقالة، وتعيين خليفة له، فإن ذلك قد يكون أمراً شائكاً ــ إذا أخذنا في الاعتبار قبضة الرئيس الحالية على مفاصل السلطة [في روسيا]. وإذا اضطر بوتين لمغادرة الساحة بشكل طارئ، فإن عملية نقل السلطة لشخصية أخرى أو عدد من الأشخاص قد يتخذ شكل نزاع عنيف على السلطة.
بعد رؤية الصور الفظيعة لقتل المدنيين في منطقة بوتشا Bucha، بالقرب من كييف، كانت هناك دعوات على وسائل التواصل الاجتماعي لممثلي النخبة من التكنوقراط في البنك الروسي المركزي والحكومة للاستقالة من مناصبهم. لكن لا يبدو أن ذلك هو أمر محتمل حتى الآن.
الدعاية الحكومية الروسية تهدف إلى حجب وصول الحقائق حول ما يجري على الأراضي الأوكرانية عن المواطنين في روسيا ــ فهل سيقف أي كان من طبقة النخبة السياسية في روسيا لتبديد تلك السردية؟
بعد فشل الحرب في أوكرانيا، وما تلاها من فر ض لعقوبات قد يكون لها تبعات اقتصادية رهيبة، تواجه روسيا [جراء ذلك] إمكانية وقوع تداعيات سريعة. من الصعب التنبؤ كيف سيؤثر ذلك على توازن القوى وراء ستار الكرملين. فبوتين يسيطر على مفاصل النظام القائم. لكن الأنباء الجيدة تفيد أن من شأن العقوبات وآثار اجتياح أوكرانيا أن يكون لها وقعها في إضعاف موقف بوتين، وقبضته أيضاً لا بد أن تضعف.
الانقلاب البسيط، في شكل يمثل تحد مباشر لسلطة بوتين يبدو أمراً مستبعداً حالياً. الاحتمال المرجح أكثر ربما هو تزايد النزاع على السلطة بين جماعة النخبة بسبب التراجع الكبير في حجم الثروات المتوفرة ليتقاسموها في ما بينهم. الرئيس بوتين سيكون أقل قدرة على الإبقاء على التوازن بين من هم حوله، وربما يؤدي ذلك إلى اهتزاز وضع النظام القائم برمته. إن الصراع من أجل البقاء قد بدأ فعلاً، وأنا أعتقد أن ذلك سيتعاظم ويكبر. وسيعاني من تداعيات ذلك بوتين والنظام الذي قام ببنائه.
الأنباء السيئة هي أن النظام السياسي القائم حالياً، ربما لن يبقى بعد رحيل بوتين، وربما سينهار ببساطة [ينفرط عقده]، وربما لن يكون ذلك من دون اندلاع النزاع [الداخلي]. وهنا ليس هناك أي سبب يدعونا للاعتقاد أن أعضاء من أفول ذلك النظام، أو أي هيكلية جديدة سيتجمع وفقها [اللاعبون الجدد]، ستكون أفضل من التي كانت في السابق.
*نيكولاي بيتروف هو باحث رفيع الشأن في برنامج روسيا وأوراسيا في معهد تشاتام هاوس Chatham House.
© The Independent