اجتاحت موجة من المشاعر المختلطة وجدان سوخويندر سينغ عندما فتح صندوقاً صدئاً كان يقبع في منزله منذ سنوات ليكتشف فيه ميدالية تذكارية كبيرة دائرية الشكل حفر عليها اسم جده الأكبر. وإلى جانب اسم الجندي كيشان سينغ، كتبت الجملة التالية: "مات في سبيل الحرية والشرف".
وعلق السيد سينغ على هذا الاكتشاف لصحيفة "اندبندنت" قائلاً: "لقد شعرت بالمفاجأة والصدمة والفخر والحزن في آن واحد عندما رأيت اسم سلفي محفوراً على الميدالية".
يعيش السيد سينغ في سبهانا، وهي بلدة في جالاندهار، تقع على مسافة 50 كيلومتراً من ولاية البنجاب التي تقطنها غالبية من طائفة السيخ. وقال، إنه احتفظ بـ"الذكرى الأخيرة من جده الأكبر"، الذي خدم في الجيش على مدى سنوات طويلة، كحال رجال كثر من عائلته، من دون أن يدرك ماهية الميدالية طوال سنوات.
وأضاف، "لم أعرف يوماً ماهيتها (الميدالية) كما لم أعرف أبداً، وعلى مدى عقود، ماذا حصل مع جدي الأكبر".
الحرب العالمية الأولى
يوم شارك السيد سينغ صورة الميدالية على الإنترنت، أدرك بفضل نتائج البحوث التي قام بها فريق من الباحثين الحقيقة، ألا وهي أن جده الأكبر قد خدم في الجيش خلال الحرب العالمية الأولى.
تلك الميدالية التذكارية البرونزية، التي تعرف عموماً بـ"مليم الرجل الميت" "Dead Man’s Penny"، كانت ترسلها الحكومة البريطانية إلى أقارب الجنود الذين استشهدوا على أرض المعركة كي تظهر الامتنان لعائلاتهم.
وكان كيشان سينغ واحداً من الجنود الـ 320 ألفاً من البنجاب الذين ظهرت وثائق تتعلق بهم في سجلات وملفات اكتشفت في مخازن وخبايا متحف لاهور في باكستان، بعد أن ظلت دفينة طوال قرن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"جمعية التراث البنجابي في المملكة المتحدة"
وفي وقت سابق من عام 2021، جرى الاتصال بالسيد سينغ من قبل أعضاء في "جمعية التراث البنجابي في المملكة المتحدة" "UKPHA"، الذين يقومون باقتفاء آثار "أبطال الحرب المنسيين" ويعملون على رقمنة الوثائق المتعلقة بهم. ونشرت الجمعية في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) الوثائق التي عثرت عليها حتى الآن، وذلك تزامناً مع ذكرى "يوم الهدنة" (في الحرب العالمية الأولى) قبيل الاحتفال بيوم "أحد التذكر" في 11 نوفمبر.
وقال أمانديب مادرا، رئيس جمعية التراث البنجاب في المملكة المتحدة لـ"اندبندنت"، إن "أقارب أولئك الذين خدموا (في الحرب) يمكنهم أن يملؤوا بعض الفراغات" ويسهموا في جمع وإكمال سرديات الحرب العالمية الأولى. وتابع مادرا شارحاً: "كانت البنجاب المعقل الأساسي لتطويع الجنود بالنسبة للجيش الهندي خلال الحرب العالمية الأولى، ما جعل مساهمتها (في المجهود الحربي) تعادل مساهمة أستراليا. فهي غالباً ما اعتبرت سيف الهند البريطانية الممشوق، وبالتالي، فإن أهمية قتالها في الحرب العظمى لا يمكن تجاوزها".
وتابع "لكن، مع ذلك، فإن مساهمة رجالها في تلك الحرب ظلت في الإجمال مطموسة. حتى أننا في كثير من الحالات ما زلنا نجهل أسماء أولئك الرجال إلى الآن".
وفي إطار الجهود لاقتفاء آثار الجنود المنسيين، جرى لغاية الآن نشر 45 ألف وثيقة من مناطق مختلفة على المواقع الإلكترونية، ويتمثل الهدف في النهاية بنشر سجلات تتعلق بقرابة 275 ألف جندي. وتلك السجلات كانت جمعتها الحكومة البنجابية سنة 1919 على إثر انتهاء الحرب، وهي تضم معلومات عن الخدمة العسكرية التي أداها المتطوعون، وتفاصيل عن خلفياتهم العائلية، ورتبهم، والوحدات العسكرية التي خدموا فيها.
في السياق ذاته، فإن عدد الجنود الهنود الذين خدموا في الحرب العالمية الأولى يقدر بـ1.3 مليون جندي، وقد قتل منهم خلال الحرب وبعدها أكثر من 74 ألفاً. لكن على الرغم من ذلك تبقى تضحيات أبطال الحرب الهنود محذوفة من التاريخ أو منسية.
وكان أفراد من مختلف الأديان والنحل في البنجاب، قبل تقسيمها، قد شكلوا ثلث الجيش الهندي، وضموا هندوساً ومسلمين وسيخاً. واليوم تتبعثر عائلات أولئك الجنود بين الهند وباكستان نتيجة تقسيم البنجاب سنة 1947، حين غادر البريطانيون الهند منهيين حقبة "الراج البريطاني". وأدى ذاك التقسيم إلى أكبر موجات نزوح في التاريخ، إذ قامت ملايين العائلات بالهجرة إلى دولة باكستان الناشئة حديثاً آنذاك.
الكتيبة البنجابية رقم 29
عائلة أخرى في مدينة دارامكوت البنجابية لم تخسر واحداً فقط من أفرادها في الحرب العالمية الأولى، بل خسرت فردين اثنين. إذ قالت جاسويندر سينغ، إن جدها الجندي ثاكور سينغ، الذي كان في الكتيبة البنجابية رقم 29، لم يعد أبداً من الحرب. كذلك، حارب أفراد من عائلة سينغ (الكبيرة) إلى جانب الجيش البريطاني في بلاد الرافدين، المنطقة الواقعة الآن بين العراق وتركيا وسوريا والكويت، وقد قتل كثيرون منهم خلال المعارك، وفق ما تشير إليه وثائق عثرت عليها جمعية التراث البنجاب في المملكة المتحدة. عن هذا الأمر تقول السيدة سينغ لـ"اندبندنت": "الأبطال الحقيقيون جرى نسيانهم وإغفالهم من التاريخ. كانت [داديجي] (أي جدتي) تروي كثيراً عن [باباجي] (جدي) وتخبرنا عن سبب تركه لها وحيدة هنا. كلاهما كانا شابين عندما اندلعت الحرب". تتابع: "كان جدي، أمار سينغ، محترماً جداً في مجتمعنا وما زال المسنون من أهل قريتنا الذين عرفوه، يذكرونه".
أما السيد سوخويندر سينغ، سليل الجندي كيشان سينغ، فقد أسف أن يكون جيلان من عائلته، من بينهم جده الأكبر، وجده، وأعمامه، قد خدموا في الجيش، ولم يقدم إلى اليوم شيئاً ملموساً للبلدات والمناطق التي تحدر منها الجنود الذين ضحوا بحياتهم. لكنه يؤكد: "إننا فخورون بشهادة أجدادنا. عمي أصيب 36 مرة خلال الحرب بين الهند وباكستان سنة 1965، ومنح وسام الشجاعة. بيد أن الطريق إلى بلدتنا الآن خربة وغير معبدة. الذي نطلبه قليل جداً، ولا يتعلق إلا بإنماء قريتنا من أجل مستقبل أولادنا".
نشرت اندبندنت هذا المقال في 15 نوفمبر 2021.
© The Independent