لا تبدي أطراف جزائرية حماسةً كبيرة تجاه الخطوة الفرنسية المتعلقة برفع السرية عن الأرشيف الخاص بحرب التحرير الجزائرية (1954-1962)، قبل المهلة القانونية، وتشكك في خلفيات "ساسة فرنسا" الذين قد يهدفون إلى الإيقاع بين الجزائريين من خلال التلاعب بالأرشيف، وإدخالهم في "حرب الذاكرة" أكثر من إزاحة الغبار عن حقائق موثقة لجرائم طاولت مدنيين جزائريين، إبان فترة الاستعمار إلى جانب حملات التعذيب والتهجير ونهب الثروات.
ويقول المؤرخ الجزائري محمد الأمين بلغيث، إن "الحقيقة العارية من المساحيق تبرز بعض المؤشرات الخطيرة لخطوة وزيرة الثقافة الفرنسية روزلين شالو، المتمثلة في رفع السرية عن ملفات التحقيقات القضائية التي قامت بها مؤسسة الشرطة والدرك أثناء الثورة الجزائرية، قبل الوقت القانوني وهو 15 سنة، أي بالنسبة إلى المجاهدين، يُفترض أن يكون بعد عام 2035، وأما الخونة الذين تعاونوا مع عدو بلادهم، فيسكون قانونياً رفع السرية عن ملفاتهم القضائية في حدود عام 2045".
إجادة فرز الملفات
وينص القانون الفرنسي على أن رفع السرية عن "أرشيف الدفاع" يكون بعد 50 سنة عن هذه الأحداث، لكن الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي أصدر عام 2011 مرسوماً يمدد طابع السرية حول هذه الوثائق وفق ما نقلت وسائل إعلام فرنسية دون تحديد مدة التمديد.
وأبرز المؤرخ بلغيث، "الأكيد أن هذا الأمر يُثير الجدل والتخمين والتشكيك في سلوك الفرنسيين المشهور بالكيد بأعدائهم"، ليتساءل "هل هي محاولة فرنسية للتهدئة، بعد يومين من زيارة وزير الخارجية جان إيف لودريان إلى الجزائر، وكأنه أعطى الضوء للوزيرة حتى تُبنى علاقات جديدة ومصالحة مع الذاكرة؟". وتابع "شخصياً، لا أثق بالفرنسيين القائمين على محاولة رسم الخطوط السليمة التي تُبنى عليها علاقات الدول في القرن الحادي والعشرين. بيننا وبين الفرنسيين بحر من الدماء وأهرامات وشهداء يقدَرون بالملايين، فليس من السهولة بناء علاقات دون رسم خريطة طريق تتعلق بمعالجة كل الملفات العالقة بيننا".
سرديات مغايرة للحقيقة
واعتبر المؤرخ الجزائري أن "الفرنسيين الذين يُحسنون فرز الملفات، لن نأخذ منهم حقاً ولا باطلاً بسهولة، وربما تستّر الدولة الفرنسية على سرديات خطيرة مغايرة للحقيقة التي اعتنقتها الأجيال الجزائرية حول الثورة ورموزها، لهذا الخوف كل الخوف هو أن تقوم بنشر ما يفرق بين مكونات المجتمع الجزائري، لهذا لن أنتظر أن تنصف ملفات التحقيقات القضائية، أيقونة الثورة، العربي بن مهيدي، أو حقيقة ما دار بين فانسان مونتاي الفيلسوف المشهور وشيخ المجاهدين مصطفى بن بولعيد، أو تنصف حقيقة تصريحات شبكة جونسون (حملة الحقائب) الشهيرة بباريس". وأضاف بلغيث "الفرنسيون عامة مشهورون بفلسفة الإنكار، وهي من صلب العقلية الفرنسية، لهذا من الصعوبة أن يقرأ جيلي على الأقل الوثائق التي تدين فرنسا في جريمة التفجيرات النووية، أو عمليات القتل والعقوبة الجماعية تجاه الجزائريين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، قالت وزيرة الثقافة الفرنسية روزلين باشلو، بأن بلادها "تريد إعادة بناء أمور عدة مع الجزائر، ولكن لا يمكن التقدم في هذه العملية إلا على أساس الحقيقة". وأضافت أن "تزوير الحقائق يؤدي إلى الكراهية والاضطرابات. والمصالحة بين البلدين تبدأ عندما يتم وضع الوقائع على الطاولة، والاعتراف بها، وتحليلها".
سلاح ذو حدين
وصدرت أكثر من قراءة في شأن الإعلان الفرنسي، فهناك مَن ربطه بمحاولة فرنسية لتجاوز الأزمة الدبلوماسية الحادة مع الجزائر وما تمخض عنها من استدعاء للسفير الجزائري لدى باريس، عنتر داود، ومنع الطائرات العسكرية الفرنسية من التحليق فوق الأجواء الجزائرية، إذ يقول المؤرخ الجزائري مولود بوحوش إن "الخطوة إيجابية في مسار تهدئة الأوضاع بين البلدين، لكنها قد تحمل مفاجآت أخرى غير متوقعة".
وواجه الباحثون الجزائريون في وقت سابق صعوبات في الوصول إلى الأرشيف الفرنسي، خصوصاً الجانب المتعلق بتحقيقات أجهزة الأمن الفرنسية، بحجة الإجراءات القانونية، لذلك أثار التغير المفاجئ كثيراً من "القال والقيل" ومخاوف من وقوع تسريبات لأغراض سياسوية.
وأردف بوحوش "قد نشهد تفجير قنابل بعد فتح السرية عن الأرشيف، وأتخوف من بروز حقائق جديدة قد تحطم شخصيات ثورية لا تزال على قيد الحياة، ما يفتح أبواب التشكيك وتبادل الاتهامات"، مبرزاً أن "الجزائر تطالب باسترجاع الأرشيف، وليس رفع السرية عنه وهناك اختلاف. نريد من الباحثين الجزائريين أن يتحركوا ويكشفوا بدورهم عن الحقيقة وعمَن ارتكب الجرائم، لأن فرنسا تبحث هي الأخرى عن مصالحة مع شعبها وعن الموضوعية في سرد الحقائق التاريخية في ما يتعلق بالاستعمار الفرنسي في الجزائر".
وتأتي هذه التخوفات بناءً على وقائع سابقة، تتعلق بالأرشيف راح ضحيتها شخصيات معروفة، وجدت نفسها في خانة الاتهام بالخيانة للثورة التحريرية، وقلصت من الشعبية التي كانوا يحظون بها، وهو ما أجبرهم على التبرير وتقديم حجج على أن انخراطهم في الثورة كان من أجل الهدف الأسمى وهو تحقيق استقلال الجزائر ولم يعملوا مع العدو.
ورقة انتخابية
في المقابل، لم تُعلق الجزائر رسمياً على الخطوة الفرنسية التي وصفها مراقبون للعلاقات بين البلدين، بأنها محاولة لممارسة نوع من الضغط على الجزائر، التي تضع على طاولة مفاوضاتها مع فرنسا، استكمال استرجاع جماجم قادة المقاومة الشعبية للاحتلال الفرنسي التي ظلت محتجَزة في متحف "الإنسان" بباريس لأكثر من قرن ونصف القرن. فضلاً عن استعادة الأرشيف، وقضية التفجيرات النووية في الصحراء الجزائرية وتعويض المتضررين، إلى جانب ملف المفقودين من الجانبين.
الجدل المثار حيال رفع السرية عن أرشيف "الثورة التحريرية" لم يقتصر على أطراف جزائرية، وإنما يشغل حتى النخب الفرنسية، إذ نقل تقرير نشرته إذاعة فرنسا الدولية، على لسان المحامي المتخصص في العلاقات الفرنسية – الجزائرية، جان بيار مينار قوله، إنه "في سياق انتخابي متوتر، يبدو من الصعب على باريس أن تتخذ قراراً بخصوص منح التأشيرات، وهو ما يجعل من أرشيف الحرب على الجزائر المنطقة الوحيدة والمثلى التي تستطيع الحكومة الفرنسية التقدم فيها قليلاً نحو الأمام".
وتابع تقرير إذاعة فرنسا الدولية أنه "كان يُتوقَع أن يتم رفض كل مطالب النفاذ إلى الأرشيف القضائي للحرب على الجزائر باعتبار أن الآجال المحدَدة للكشف عنها تصل إلى 75 سنة، ولكن إعلان الحكومة الفرنسية عن استعدادها الفوري لتقديم الوثائق السرية إلى قوات الدرك والشرطة الآن يعني أن الأمر سيكون سابقاً لأوانه بـ 15 عاماً بالتمام والكمال، ما يعني وجود نوايا فرنسية لمصالحة تاريخية، ولها صلة وثيقة بالانتخابات في فرنسا، وذلك في ظل وجود جالية جزائرية كبيرة هناك يطمح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى كسب أصواتهم".