يسجل البيان الختامي لزيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى السعودية عدداً من المؤشرات الجديدة في ما يخص أمرين، الأول النظام العربي وآليات عمله في هذه المرحلة، وطبيعة الاهتمامات المشتركة في العلاقات الثنائية بين كل من الرياض والقاهرة. ويبدو لي أن الأمر العابر لهذين المحددين في بيان الزيارة هي أزمة سد النهضة بما تشكله من تهديد للنظام العربي من ناحية، وتأثيره في العلاقات الثنائية من ناحية أخرى نظراً للعلاقة العضوية بين الأمن المصري والأمن الخليجي.
وربما يكون من الأهمية بمكان أن نرصد أن القضايا التي احتلت وزناً كبيراً في مباحثات الجانبين، فضلاً عن تداعيات الأزمة الأوكرانية على الصعيد الجيوسياسي والاقتصادي هي قضايا أمن البحر الأحمر، وسد النهضة، حيث حدث توافق في ما يخص الآليات العربية لحفظ أمن البحر الأحمر بين أهم دولتين تسعيان إليه، أما على صعيد سد النهضة فقد وردت تحديداً تصريحات سعودية أكثر وضوحاً في هذا الجانب، تدعو إثيوبيا "إلى التخلي عن التصرفات الأحادية"، وهي إشارة واضحة إلى الإجراءات الإثيوبية في ما يتعلق بملء بحيرة السد والإٍعلان عن توليد الكهرباء بالمخالفة لبنود إعلان المبادئ الموقع في مارس (آذار) 2015.
متغيرات إقليمية ودولية
في هذا السياق من المهم رصد المتغيرات الدافعة إلى تطور المواقف الإقليمية والدولية عموماً في ما يتعلق بمسألة سد النهضة وإدراك طبيعة تأثيره في حالة الاستقرار، وتأثير ذلك في مواقف الأطراف الداعية إثيوبيا إلى وقف التصرفات الأحادية.
وربما تكون أهم المتغيرات هي الإدراك العربي العام أن عِقداً من ضعف النظام العربي بشكل عام، وتعطيل قواه الفاعلة خصوصاً المثلث الذهبي التاريخي مصر والسعودية وسوريا أسفر عن الإضرار بمصالح النظام العربي ككل، وخلق فراغاً تسللت فيه قوى إقليمية هددت النظام العربي، ورفعت من مصادر عدم استقراره بشكل شامل ومنها إيران وتركيا، وربما هذا الإدراك هو ما دفع للمصالحة الخليجية، وما يدفع حالياً لمحاولات استعادة فاعلية النظام العربي.
المتغير الثاني هو طبيعة السياسات الداخلية الإثيوبية، التي جعلت استقرار الدولة واستمرارها كدولة مستقرة في منطقة القرن الأفريقي محل شك كبير، خصوصاً أن الحرب على تيغراي أسفرت عن تدمير بنية لوجستية هي بالأساس استثمارات أو مساعدات خليجية.
أما ثالث هذه المتغيرات فهو ما يتعلق باتجاه إثيوبيا لتكون قوة بحرية في البحر الأحمر، تحت مظلة أزمة محتدمة مع مصر، وهو ما قد يشكل خطراً على أمن البحر الأحمر في ضوء علاقات غير تعاونية بين أطراف عسكرية في البحر الأحمر، وما يمثله ذلك من تداعيات على المصالح الدولية خصوصاً في ما يتعلق بنقل النفط الخليجي إلى أوروبا.
الموقف الأوروبي من سد النهضة يشهد متغيرات جديدة ولافتة، لا بد أن تكون لها تداعيات تجاه الموقف العربي العام إزاء إثيوبيا، ذلك أن أهم آثار الحرب الروسية على أوكرانيا هي الانتباه إلى إمكانية دعم أوروبا بمصادر طاقة من دول شمال أفريقيا، خصوصاً مصر والجزائر، وهو ما دفع الاتحاد الأوروبي للتصريح بأن اهتمامه بأزمة سد النهضة لا بد أن يتزايد تحت مظلة التحولات في مصادر الطاقة المتوقعة.
وقد لعبت الأضرار المترتبة على الملء للسد عامي (2020 – 2021) خصوصاً في السودان دوراً في هذا الانتباه العربي لطبيعة السياسات الإثيوبية بشكل عام، واتجاهات إداراتها لأزمة سد النهضة بشكل خاص، خصوصاً بعد خروج محطات الشرب السودانية ومحطات الكهرباء من الخدمة، بما شكل تهديداً للسودان، وهو ما قد يمثل تهديداً بدوره للسعودية في اتجاهين، الأول تداعيات ضعف مؤسسة الدولة السودانية على أمن البحر الأحمر، والأخير فهو ما يتعلق بإمكانية ممارسة هجرة سودانية عبر البحر الأحمر إلى الشواطئ السعودية على نمط الهجرة لليمن، مع فارق إمكانات التأمين السعودية لشواطئها، ولكن ربما بثمن أخلاقي قد يوقعها في أنواع من الحرج الإنساني الذي بالتأكيد لا تريده الرياض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه المتغيرات لا بد أن تؤثر في دوافع التقارب الخليجي المعروفة تاريخياً مع دول القرن الأفريقي عموماً وإثيوبيا، خصوصاً وهو ما يمكن أن نميزه منذ مطلع الألفية الثالثة، حيث لعب عدد من العوامل دوراً في التقارب العربي الإثيوبي خصوصاً من الجانب الخليجي، وذلك على مستويين الأول استراتيجي، وهو المرتبط بالتمدد الإيراني في كل من البحر الأحمر ودول القرن الأفريقي، حيث بدأ نفوذ طهران يمتد في هذه المنطقة منذ عام 1994 انطلاقاً من المنصة السودانية.
أبعاد اقتصادية
أما الأخير فله أبعاد اقتصادية منها الاتجاه نحو توظيف عوائد البترول في استثمارات في دول القرن الأفريقي خصوصاً في إثيوبيا، وكذلك حدة أزمة الأمن الغذائي الخليجي، ودورها في الاتجاه إلى الاستزراع في كل من أفريقيا ودول شرق أوروبا، وكذلك الانتباه الخليجي لأهمية موانئ البحر الأحمر كانعكاس للمشروع الصيني الحزام والطريق، الذي يمر طريقه الرابع في البحر الأحمر وصولاً إلى البحر المتوسط.
في هذا السياق يمكن رصد أن إثيوبيا حازت في الفترة من 2000 إلى 2017 فقط استثمارات خليجية بقيمة 13 مليار دولار أميركي، غير متضمنة المساعدات الإنسانية، ولا المشروعات ذات الطابع البحثي والفكري، وذلك في 434 مشروعاً، كانت الاستثمارات السعودية في 233 مشروعاً، تلتها الإمارات بـ 104 مشاريع، بينما كان نصيب قطر 12 مشروعاً، والكويت 16 مشروعاً. وإذا تمت مقارنة هذا الحجم الاستثماري مع حقيقة أنه لم يكن في دول القرن الأفريقي في التسعينيات إلا مشروع فقط، فقد يتضح حجم القفزة الاستثمارية الخليجية في المنطقة الأفريقية.
وبشكل عام وفرت الاستثمارات الخليجية في إثيوبيا 300 ألف وظيفة للإثيوبيين، وإلى جانب هذه الاستثمارات يمكن رصد أن حجم المساعدات العربية لدول القرن الأفريقي من الصناديق الإنمائية 6.6 مليار دولار، وذلك دون صندوق أبو ظبي الذي بدأ نشاطاته في إثيوبيا عام 2012، وأسهم في منح إثيوبيا 3 مليارات دولار عام 201، منها مليار دولار لدعم النظام المصرفي الإثيوبي، بينما قد تركزت الاستثمارات الخليجية في قطاعي الزراعة والتصنيع، حيث تزامن التركيز الخليجي في التوسع التعاوني مع إثيوبيا.
الشاهد أنه قد يكون من المتوقع في المرحلة المقبلة أن يتزايد دفع الرياض تجاه العمل الثنائي مع القاهرة لدعم الاستقرار الإقليمي الذي يشكل أحد أهم مفرداته حالياً الاستقرار على علاقات قانونية بين أطراف أزمة سد النهضة الثلاثة مصر والسودان وإثيوبيا، وقد تكون السياسات السعودية في المرحلة المقبلة متجهة نحو تفعيل عدد من الآليات منها ما يتضمن الأطر الثنائية أو المتعددة الأطراف في هذه الأزمة، فضلاً عن آلية الجامعة العربية كإطار قد يفتح قنوات تواصل مع نظيرها الإقليمي أي الاتحاد الأفريقي، وربما يكون ذلك تأسيساً على مواقف سابقة للجامعة العربية، خصوصاً بيان قمة الدوحة عام 2021، الذي أشار إلى ضرورات التوافق الإقليمي في موضوع سد النهضة، ونبه إلى التداعيات الكارثية لعدم التوافق على معطيات الأمن الإقليمي الشامل في محيط البحر الأحمر الأفرو عربي.
وقد يكون من المرجح نجاح الدفع العربي خصوصاً من جانب الرياض في التوصل إلى بلورة ضغط دولي فعال في هذه الأزمة، انطلاقاً من تزايد الأهمية الاستراتيجية للسعودية على المستوى الدولي حالياً، تأسيساً على قدرتها على توفير مصادر الطاقة لكل من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، وأيضاً في ضوء تصاعد المخاوف من إمكانية بناء علاقات مستقرة مستدامة مع روسيا على الأقل خلال العقد المقبل، وذلك على خلفيه الأداء الروسي في أوروبا ضد دولة مستقلة فيها، مع التفهم الكامل للممارسات الغربية المسؤولة فعلياً عن تصاعد توتر روسيا من جوارها المباشر في ضوء تهديدها الجيوسياسي من جانب منظمة "الناتو".