Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل من الطبيعي أن يصيبنا الخدر العاطفي الآن؟

فيما نواصل حياتنا في خضمّ الجائحة، تكتشف هانا فيرن أنّ تبلد المشاعر جزء من عملية الحزن

"علينا ألا ننسى بأن الجميع يرزحون تحت عبء ثقيل جداً في الوقت الحالي" (غيتي)

في بداية تفشّي جائحة فيروس كورونا، وصف جميل زكي، أستاذ علم النفس في جامعة ستانفورد، تجربة العيش بالتوازي مع انتشار كوفيد-19 على أنها "أكبر صدمة جماعية مرّ بها أي شخص على قيد الحياة حالياً". وفي سلسلة من التغريدات التي نشرها على تويتر بهدف طمأنة القرّاء إلى أنّ العواطف القاسية التي يشعرون بها طبيعية للغاية، قال إن الشعور الأولي الذي نتعامل معه جميعنا هو الحزن-"الحزن على ما فقدناه، والضعف إزاء ما يمكن أن نخسره بسهولة، وانعدام السيطرة".  

بعد مرور سنتين على هذه المرحلة تقريباً، وعلى مقارعة إغلاق تلو الآخر وشهر تلو الآخر من القيود الاجتماعية، وصلنا إلى نقطة الخروج من الجائحة. ربما انتهت مرحلتا الحزن والقلق، إنما حلّ مكانهما شعور آخر هو: الخدر.

لو ألقينا نظرة واحدة على وسائل التواصل الاجتماعي، سنجد بأنّ مشاعر الخدر والانفصال العاطفي هي أهم المشاعر التي تراودنا فيما ندخل هذه المرحلة. طرحت إحدى السيدات سؤالاً على موقع مامزنيت (Mumsnet) الشهر الماضي عما إذا كان الشعور بالخدر التام طبيعياً في هذا الوقت. وبرأي علماء النفس  والمستشارين، ليس هذا الشعور طبيعياً فحسب، بل هو جزء مهم من التعافي. وهو أفضل طريقة يمكن لجسم الإنسان فيها استيعاب كلّ ما مرّ به خلال السنتين الماضيتين.

وتشرح المعالجة النفسية سالي بايكر أنّ "الشعور بالخدر العاطفي رد فعل عاطفي طبيعي عندما تتخطى الأمور قدرتنا على الاحتمال، والجائحة جعلتنا نشعر بأننا بلغنا الحدود القصوى لطاقتنا وبأننا يائسون. فالارتباط العاطفي بالوضع مرهق، والابتعاد عنه عبر الشعور بالخدر يعطينا قسطاً من الراحة. ولكن رد الفعل ليس واعياً، فنحن لا نختار الخدر. بل إنّ تبلد مشاعرنا خلال فترة الجائحة استجابة تنبع من دماغنا البدائي، أو الزاحف".

والدماغ الزاحف هو أقدم منطقة من الدماغ من وجهة نظر تطور الدماغ، وهو الجزء المسؤول عن آلية "الكر أو الفر"، أي بالتالي عن معظم مشاعر القلق في الحياة العصرية. وعندما يواجه ضغطاً عارماً، وفي سبيل تفادي الضغط الزائد على الجسم، يتوقف ببساطة عن العمل وتكون النتيجة إما اللامبالاة أو الخدر.

"لقد أُرهقنا. ومن الأمور التي تحدث في هذه الحالة أننا نتوقف عن الاكتراث بأنفسنا أو بالقضايا الاجتماعية. وهذا شيء سيء جداً بالنسبة للمجتمع. وهو يعني أننا نصبح أكثر انطوائية وغوصاً في ذاتنا. والغوص في الذات ليس صحياً، لأن ما يصاحبه هو المشاكل النفسية والإفراط في التفكير".

درست المؤلّفة والمعالجة النفسية إيما كافانو مشاعر الخدر والإنهاك أثناء عملها على وضع كتابها "كيف تنكسر". وفي بدايات الجائحة، وجدت بالصدفة بحثاً يتناول حياة وسلوك العلماء الباحثين العاملين في ظروفٍ عزَلتهم عن العالم في منطقة نائية من القطب الجنوبي خلال فصل الشتاء. وكان العلماء يعملون ضمن فريق مصغّر جداً، ومعزول عن العالم الخارجي بسبب الظروف الجوية الخطيرة، برفقة مجموعة صغيرة من الأشخاص الذين لم يختاروهم بأنفسهم. وفي غياب أي نظام دعم، مرّوا هم أيضاً بتجربة الإغلاق العاطفي. 

وتضيف كافانو "كانت النتيجة شبه المعممة أنه بعد مرور فترة من الزمن، يبدؤون بالالتجاء إلى داخلهم. وبدا ذلك أشبه بالانغلاق. وصفت الدراسة هذه الظاهرة بأنها “سبات نفسي” وكان من الصعب التمييز بين أعراضها وأعراض الإنهاك. وهذا ما لفت انتباهي إذ يُهيّأ لي بأنّ هذا الأمر الذي نسميه إنهاكاً، هذه العملية التي تؤدي إلى الانفصال النفسي، هي أشبه بردّة فعل لحمايتنا، يصل إليها دماغنا عند مرحلة معيّنة، على إثر تعامله مع ( كمّ كبير من) الصدمات المستمرة والضغوط، مما يدفعه للتوقف والانسحاب".

تعتقد كافانو بأننا نعيش حالياً هذا النوع من السبات النفسي على نطاق هائل، فيما تسعى أجسادنا إلى التأقلم مع كمية الضغوط التي وضعت على كاهلنا العام الماضي-ولا سيما بالنسبة للأهل أو مقدمي الرعاية الذين كان عليهم إعطاء الأولوية لسلامة الآخرين.

وتتابع: "إن الشخص الصحي هو من لديه الوقت للقيام بأمور من قبيل الشرود الذهني. وبرأيي، لم يتسنّ لنا، طيلة فترة الجائحة، أن نفعل ذلك لأن البيئة الخارجية متطلبة وضاغطة للغاية، وعلينا بالتالي التركيز عليها. ونظريتي هي أنّه في هذه المرحلة، تسعى أجسامنا بهذه الطريقة لتحويل تركيزنا إلى الأمور التي علينا فعلها".

وما يثير ردة فعل الخدر هو محاولة الجسد الحفاظ على نفسه. تحدد المعالجة النفسية أودري تانغ سبيلان يوصلان إلى "الخدر"، أو الانفصال العاطفي، بعد فترة طويلة من الضغط. أولهما الإغلاق الفاعل والواعي. وتشرح تانغ بأن "الناس يقولون “لن أواجه هذا الأمر”. وهذا فخ عاطفي حزين للغاية ويمكن تبيّنه لدى الأهل ومقدمي الرعاية والقادة المسؤولين عن أشخاص آخرين، بشكل خاص". والسبيل الثاني هو ردة فعل معاكسة تماماً تقريباً، تُعرف باسم "تعب التعاطف"، وما يميزها هو شعور بالعجز عن التعاطف نتيجة الإرهاق التام. 

  قد يصاحب الشعور بالخزي هذه المشاعر أيضاً: إذ يخجلنا الاعتراف لأنفسنا بأننا فقدنا قدرتنا على الاهتمام والتعاطف ولا سيما في مرحلة تعتبر فيها أسرنا ومجتمعاتنا بأمسّ الحاجة لاهتمامنا. وتقول المستشارة النفسية لويز تايلر إن هذه النزعة واضحة بشكل خاص لدى الأشخاص الذين عاشوا تجربة السنتين الأخيرتين وهم في موقع أفضلية إلى حدّ ما-فوضعهم المادي مستقر، وصحتهم جيدة إجمالاً ولديهم شبكة دعم جيدة. 

ولكن هذا الضغط يخلّف آثاراً هائلة على الكيمياء العصبية. فطيلة فترة الجائحة اعتادت أجسامنا على مستويات أقل من الضغوط النفسية مما قلّص قدرتنا على التفاعل والتعامل عندما ترتفع مستويات الضغط رداً على الأحداث العادية في الحياة اليومية. وتضيف تانغ "إن بدأنا بالاعتياد على كمية معينة من هرمون الكورتيزول، ما يحدث عندما نتوتر بشكل كبير هو أنّه سينتقل من 5 إلى  10 بسرعة فائقة. ولذلك المجال ضيّق للتكيف مع الوضع، ولكن ذلك لا يفيد أجسامنا أيضاً".

والذي يميّز هذه الفترة هو معاناتنا من الخدر والانفصال بشكل جماعي-مع ما يستتبع ذلك من آثار كارثية على المجتمع. ويولّد شعور هذا العدد الكبير من الناس بالانفصال عن أنفسهم وعن بعضهم البعض، آثاراً ملموسة على طريقة تعاملنا مع الآخرين. فالخدر يؤدي إلى قلة النوم وسرعة الانفعال اللتان تؤثران على قدرتنا على الصبر والتعاطف مع بعضنا البعض، ليس داخل المنزل فحسب، بل في المجتمع كذلك. وتقول تانغ إن ما ينتج عن هذه الحالة هو سلوك مثل صفق الأبواب، وشعور بالسخط من الآخرين. وتضيف تانغ "إنها دائرة مفرغة من الأفعال وردود الأفعال".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ظهرت هذه النتائج قبلاً، حين طال الخدر العاطفي مجتمعات بأسرها كسبيل لحماية للنفس. ويتحدث بيتر هيوز، المعالج النفسي السلوكي والمؤسس المشارك لمؤسسة Cognition Agency  (كوغنيشن آيجنسي/وكالة الإدراك)، عن ظهور نمط مماثل خلال تفشي وباء الإيدز في ثمانينيات القرن الماضي. ويقول هيوز "عرفت أشخاصاً أصيبوا بالخدر على إثر مشاركتهم في جنازة تلو الأخرى. وبعدما حضروا الجنازة الثلاثين أو الأربعين، اضطروا للإغلاق على أنفسهم لأن الحزن بلغ درجة فاقت قدرتهم على الاحتمال".

وتتكرر هذه العملية من جديد الآن، وأحد أسباب ذلك هو أنّ أدمغتنا وجدت صعوبة في التعاطي مع كل المعلومات التي نعطيها إياها لكي نستخلص الحجم الحقيقي للخطر الذي نواجهه بالتحديد. ويشرح هيوز هذا الأمر فيقول "يوماً بعد يوم، تطالعنا النشرات الإخبارية بلا كلل أو ملل بأرقام الحالات والإدخال إلى المستشفى والوفيات. وهذا يولّد إرهاقاً عاطفياً، لأننا نقيّم أرجحية وقوع أي حدث أو انتشاره قياساً لوجوده أمام عقلنا الواعي. ونعتقد بأننا نتعامل مع الجدري أو الإيبولا ونبالغ في تقدير الخطر كما نبالغ في الإجراءات التي علينا اتخاذها. ونشعر فعلياً بأن كل ما حولنا ينهار".  

"هذا يرهقنا، كما يولّد الكثير من الغضب والانقسام. والتباعد الاجتماعي يؤدي إلى اللامبالاة، التي تؤدي بدورها إلى تجريد الآخر من صفاته الانسانية وقد ينتج عنها تصرفات قاسية فعلاً. من المحزن رؤية الناس منقسمين بهذا الشكل". 

نظراً للآثار النفسية المخيفة التي تركتها السنتين الماضيتين في داخلنا، ليس من المرجح أن يكون تخطّي كوفيد ببساطة الشعور بالارتياح تجاه تراجع معدلات الوفيات والإدخال إلى المستشفيات، أو استئناف اللقاءات على العشاء. علينا تدريب أدمغتنا على تخطّي التجربة التي مرت بها كذلك. 

ويقول هيوز إن أفضل الطرق لتدريب أدمغتنا من جديد وإيجاد سبيل للخروج من الجائحة ذهنياً هو تعلّم كيفية الاستمتاع بيومنا الحاضر وبذل الجهود لقضاء الوقت مع الأصدقاء حتى لو- أو ولا سيما إن- وقع بيننا خلاف سابقاً بسبب القلق أو الخدر.

"تعلموا الاستمتاع بحياتكم كما هي. من المهم أن نعيد التواصل مع بعضنا البعض على مستوى فردي، وأن نبدأ بلقاء أولئك الأشخاص الذين ربما شيطناهم لأنهم يرفضون أخذ اللقاح أو يمتنعون عن ارتداء الكمامة. وعلينا التركيز على إحداث تغييرات صغيرة في حياتنا: الخروج في نزهة سيراً على الأقدام، وتناول العشاء مع شخص آخر، والتركيز على الأمور التي يمكننا السيطرة عليها". 

وتنبّه سالي بايكر إلى أنّ النصائح التقليدية التي تنادي بتجربة التأمل أو اليقظة الذهنية لا تكفي مع هذا النوع من الصدمة الكبيرة المشتركة. أما التمارين الرياضية، من ناحية أخرى، فسوف تحدث فرقاً لأنها تؤدي إلى إطلاق السيروتونين.

"يلتقي الشأن الشخصي بالسياسي هنا لأنه علينا أن نهتم بأنفسنا وأحبائنا، ولكي نفعل ذلك، علينا تغيير كيميائية دماغنا. يمكنكم فعل ذلك من خلال بذل 20 دقيقة من الجهد، سواء عبر المشي أو العدو أو السباحة، ولكن مهما كان النشاط الذي تختارونه، مارسوه في الخارج لمدة 20 دقيقة لأن هذه المدة هي الفترة التي تحتاجونها لتغيير كيميائية دماغكم".

والرسالة التي يقدمها كتاب كافانو هي أننا بحاجة للانهيار أحياناً لكي نتمكن من إعادة بناء أنفسنا من الناحية الذهنية-وهذا درس تأمل أن نتمكن جميعنا من تعلّمه. وتقول "علينا أن نبتعد، كثقافة، عن اعتبار الشعور بالسوء مرضاً. ربما عليكم ألا تحاولوا شفاءه، بل الاعتراف بأن هذا هو المكان الذي عليكم أن تبقوا فيه بعض الوقت، وتسمحوا لأنفسكم بالاستراحة والتعافي". 

وعلى الرغم من الإغراء الذي قد نشعر به بعد انتهاء فترة الإغلاق، تنصحنا بعدم ملء كل دقيقة من كل يوم بالنشاطات، والسماح لأذهاننا أن تأخذ قسطاً من الوقت لكي ترتاح وتسرح بعيداً. وتقول "إن كنتم منشغلين بطيّ الغسيل أو الوقوف في الصف، فهذه فرصة جيدة جداً لكي تدعوا دماغكم يقوم بما يريد". 

ومن نصائح كافانو أيضاً إرغام أنفسكم على تقديم المساحة والطيبة نفسها للآخرين. وتشرح أنّ "إحدى الأمور التي قد تساعدنا جداً كمجموعة هي أن نبدأ بالتفكير بما قد يحتاجه الآخرون. ماذا يمكننا أن نفعل لكي نحسّن يوم شخص آخر قليلاً؟ قد يبدو تلك الفكرة مستهلكة ولكنه من الجيد أن نشغل أنفسنا بما يمرّ به الآخرون". 

"أظنه علينا ألا ننسى بأن الجميع يرزحون تحت عبء ثقيل جداً في الوقت الحالي". 

© The Independent

المزيد من صحة