تلقي الأزمة الأوكرانية بظلالها على الدولة التركية، لا سيما أن حكومة أردوغان تمتعت خلال معظم سنوات العقد الماضي بعلاقات متوازنة مع روسيا وأوكرانيا عبر شراكات مستقلة مع كل طرف بمعزل عن اعتبارات الطرف الآخر. وفي معمعة الصراع الجيوسياسي طالما سعت تركيا لترجيح كفة الميزان ضد روسيا في حوض البحر الأسود عبر تمتين الشراكات الأمنية والاقتصادية مع الدول المطلة الأخرى؛ ومن أهمها أوكرانيا. وفي الآن ذاته تمني تركيا النفس بالإبقاء على ثمار العلاقة مع روسيا دانية القطاف من دون الدخول في شرك الصدام المباشر معها على رغم ما تنطوي عليه عضويتها في حلف الناتو المناهض للتحركات الروسية من التزامات قد تعرقل شراكتها مع موسكو.
السياسية الخارجية التركية باتت على شفير التحديات المتلاحقة تبعاً لاجتياح روسيا الأراضي الأوكرانية، إذ تشتبك أنقرة تجارياً ومالياً وعسكرياً مع كلا الطرفين الروسي والأوكراني، علاوة على تشييدها مشاريع الطاقة الكبرى مع روسيا، وأنّى كانت تبعات الصراع، فانعكاساته لا محالة ستكون سلبية على العملة التركية وقطاعات البلاد الاقتصادية فضلاً عن مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
الشراكة مع أوكرانيا وموازنة القوة في حوض البحر الأسود
تركيا تحاول من خلال العلاقة مع أوكرانيا ترجيح ميزان القوة ضد روسيا، فتعلي من شأن التعاون مع أوكرانيا كي تمنع هيمنة روسيا الكاملة على منطقة الدول المشاطئة للبحر الأسود. وقد تصاعدت معدلات التبادل التجاري بين الطرفين التركي والاوكراني لمستويات عليا، حيث زادت نسبة التبادل التجاري بينهما لما يربو على 50 في المئة خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2021 ووصلت إلى 5 مليارات دولار أميركي.
أنقرة منذ اجتياح روسيا لجزيرة القرم عام 2014، اغتنمت الفرصة لترفع من علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع كييف، ومما ساهم في ضخ مزيد من الشراكات هو توقيع اتفاقيات التجارة الحرة بين البلدين، فضلاً عن توقيع اتفاقيات تعاون عسكري في يناير (كانون الثاني) الماضي شملت مشاريع تصنيع مشتركة لإصدار طائرات الدرونز القتالية التركية.
لا ننسى أن تركيا ترى نفسها كوريث للدولة العثمانية التي سيطرت على شبه جزيرة القرم الأوكرانية لفترة من الزمن، وهو ما يحاول الجانب الروسي طيه في النسيان، خصوصاً من بعد طرد العثمانيين من المنطقة ومن ثم محاولة إعادة كتابة تاريخها من دون إظهار الارتباط أو التأثر بالإرث العثماني، بيد أن تركيا تجد في أقليات التتار الأوكرانية مدخلاً ملائماً لتعزيز أواصر العلاقة مع البلد الأوكراني.
علاقة تركيا وروسيا بين التعاون والتنافس
تنامت علاقات روسيا وتركيا الاقتصادية على مر الأعوام الثمانية الماضية، فالطرفان يشتركان في مشروع الطاقة الضخم "ترك ستريم"، وهي أنابيب الغاز التي يراد لها سد احتياجات الطاقة التركية علاوة على نقل الغاز الروسي إلى أوروبا. أضف إلى ذلك، تولي حكومة أردوغان اهتماماً كبيراً بمآل مئات الشركات التركية العاملة في روسيا، على قدر اهتمامها بتدفق السياح الروس نحو تركيا وهم الذين يقدمون مليارات الدولارات للاقتصاد السياحي التركي، لذا بات اقتصاد البلدين متداخلاً ومتشابكاً لمعدلات غير معهودة إلى أن حصدت تركيا دعم روسيا في مشاريع ضخمة منها محطة "أك كويو" للطاقة النووية. كما زاد من عمق الوئام السياسي والتوافق الأمني بين الطرفين أن وصلا لصفقات تسليح اشترت بمقتضاها أنقرة المنظومة الدفاعية الصاروخية الروسية S-400، مع تلميحات باحتمال شراء تركيا مقاتلات سوخوي الروسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على رغم أن الروس والأتراك يقعون في معسكرات متناحرة ضمن دوائر الصراع التي يشتبكون بها، في سوريا وليبيا والقوقاز، إلا أن الطرفين يحرصان دوماً على إيجاد المشتركات الاقتصادية والسياسية واستثمارها، فتم عقد اتفاق في القوقاز بين أذربيجان وأرمينيا بوساطة روسية ومباركة تركية، وما زال الجانبان يحثان الخطى على تجنب الصدام في سوريا، لكن الأزمة الأوكرانية ستفضي إلى تشابك شائك بين الطرفين لن تسعفه العلاقة الوطيدة بين الرئيسين بوتين وأردوغان.
التنافس بين تركيا وروسيا متجذر في علاقتهما وطموحاتهما الجيوسياسية وأهدافهما الاستراتيجية. وفي إطار تحركاتهما إزاء أوكرانيا؛ يتضح أن أهم التعقيدات بين الطرفين التي ظهرت أخيراً كانت صفقات تسليح أوكرانيا بطائرات الدرونز التركية "بيرقدار". وحين استخدمتها الحكومة الأوكرانية ضد الانفصاليين في مناطقها الشرقية العام الماضي، أثيرت حفيظة الجانب الروسي بذريعة أن ظهور تلك التقنيات يقوض الاستقرار الأمني في المنطقة ويخل بميزان القوى في محيطها. بوتين نفسه في مكالمة مع أردوغان وصف مبيعات الدرونز التركية إلى أوكرانيا، بالمخربة والمستفزة.
الداخل التركي أمام تحديات مرهقة جرّاء الأزمة الأوكرانية
يتمحور الموقف التركي الراهن حول السعي نحو إيجاد حل دبلوماسي للأزمة من دون الاضطرار إلى الاختيار بين الطرفين الروسي والأوكراني، وهو ما صرح به الرئيس التركي أردوغان بعد قطع جولته الأفريقية عائداً إلى تركيا. وما يعد فعلاً على المحك بالنسبة لأنقرة نجده في تداعيات أربعة تفرضها الأزمة الأوكرانية على الحكومة التركية؛ فأولاً تصاعد معدلات التضخم في قيمة الليرة التركية، فمع أن الإحصائيات الرسمية لشهر فبراير (شباط) لن تصدر إلا في الثالث من مارس (آذار)، فإن التقديرات الاقتصادية تضع نسبة التضخم عند قرابة 53 في المئة. وقد شهدت الأسابيع الأولى من السنة الحالية تحسناً طفيفاً في معدلات التضخم في تركيا، لكنها عادت للتدهور من جديد بعد انتشار أنباء غزو روسيا لأوكرانيا، بل إن قيمة الليرة تركية هبطت بشكل أسرع من هبوط كل من الروبل الروسي أو الهريفنا الأوكراني، مما يعطي دلالة واضحة على هشاشة العملة التركية وسرعة تذبذبها.
ثاني التداعيات يتمثل في تأثر تركيا بتقلبات أسعار الطاقة، تبعاً لاعتمادها الصارخ على الغاز الطبيعي، بخاصة المستورد من روسيا، بغية تشغيل محطات الطاقة الكهربائية للبلاد، وتشغيل قطاعاتها الصناعية، فضلاً عن توفيرها الطاقة للسكان المحليين لتدعيم استخدامات التدفئة والطبخ وغيرها. ثالثاً، وبحكم استيراد تركيا للحبوب والقمح من روسيا وأوكرانيا، فإن للأزمة انعكاسات سلبية مباشرة على أسعار الغذاء في تركيا، حيث ستفضي إما إلى زيادة الأسعار أو نقص في عمليات الإمداد. ورابع تلك التداعيات يتصل بالإيرادات السياحية، إذ إن ما يفوق ربع إجمالي السياح القادمين إلى تركيا يأتون من روسيا وأوكرانيا مجتمعتين، بالتالي فتأثيرات الأزمة السلبية تمتد لتشمل قطاع السياحة التركي.
تصاعد حدة الأزمة يفاقم الضغوط السياسية على تركيا
بخلاف ما أضفته الأزمة من مصاعب عسيرة على الاقتصاد التركي، يبقى أن نشير إلى أن تركيا في مأزق سياسي، فالمصائب لا تأتي فرادى، وأحد أهم الأمور الشائكة ما بين روسيا وأوكرانيا وبين روسيا وحلف الناتو، هو مسائل عبور البواخر والغواصات العسكرية من خلال مضيقي البوسفور والدردنيل، والذي تملك أنقرة حق التحكم بالعبور خلالهما وفق اتفاقية مونترو 1936.
ولا يخفى أن تركيا حالياً تحت الضغط سواءً من قبل روسيا التي تحذر وتتهيب من استخدام المضيق لصالح الناتو، أو من قبل الطرف المقابل، لا سيما بعد أن تقدمت أوكرانيا بطلب إغلاق المضيقين أمام السفن الحربية الروسية، مما حدا بوزير الخارجية التركي إلى الإشارة بأن بلاده غير عازمة على منع السفن الحربية الروسية العائدة إلى قواعدها في البحر الأسود من المرور عبر أي من المضيقين، مع أنه لم ينف احتمالية غلق المضيقين وفق بنود اتفاقية مونترو. لكنه عاد في يوم الأحد ليصرح بأن تقييم بلاده لما يجري في أوكرانيا هو أنها "حرب صريحة"، بالتالي يتحتم عليها تطبيق بنود اتفاقية مونترو وإغلاق المضيقين أمام السفن الحربية، ما عدا تلك العائدة إلى قواعدها في البحر الأسود.
حرص تركيا كان ولا يزال منصباً على إقامة علاقة وثيقة وطويلة المدى مع روسيا وأوكرانيا، وهي في الوقت ذاته حذرة من أي إشارات قد تضعها في موقف حرج أمام روسيا أو أمام حلف الناتو. فعلى أية حال تبقى تركيا عضواً في حلف شمال الأطلسي وتتحرى مواءمة مواقفها مع ما يصدر عن عموم أعضاء الحلف من دون إخلال بمصالحها القومية مع روسيا. الأزمة برمتها ذات تأثير سلبي كبير على شتى قطاعات الدولة التركية، الاقتصادية منها والسياسية، فالعواقب الوخيمة للأزمة تمس قيمة الليرة التركية والقدرة المالية للمواطن التركي، وتحدث خللاً في سد احتياجات الطاقة وأسعار الغذاء، فضلاً عما تفرضه من تحديات أمام السياسة الخارجية التركية في ما يتعلق بعلاقتها الوطيدة مع روسيا وكونها عضواً في حلف الناتو وكذا القضايا متجددة النقاش المتصلة بالمرور عبر مضائق البوسفور والدردنيل.