Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يحل الترسيم القبلي أزمة شرق السودان أم يفاقمها؟

تأسس مؤتمر "البجا" كتنظيم سياسي منذ عام 1950 نتيجة للمظالم التاريخية التي نشأت في فترة الاستعمار

قد ينشب نزاع جديد بين القبائل في شرق السودان بين كيان "البجا" وغيره من القوميات (اندبندنت عربية - حسن حامد)

بسبب ترسيم الحدود، على أن تكون حدوداً قبلية وليست إدارية، قد ينشب نزاع جديد بين القبائل في شرق السودان بين كيان "البجا" بوصفه المكون الرئيس لقبائل "بني عامر" و"الهدندوة" و"الأمرار"، وغيرها من القوميات. وتحبس الحكومة الانتقالية في الخرطوم أنفاسها، متوقعة ردة فعل عنيفة على قرار ترسيم الحدود للقبائل والنظارات في ولايات شرق السودان الذي قدمه نائب رئيس مجلس السيادة، محمد حمدان دقلو (حميدتي). وبينما توافق المكونات القبلية الكبيرة على هذا المقترح باعتباره سيحفظ أرضها من التغول عليها من بقية المكونات، إذ ترى أنها استقوت في ما قبل بحكومة "الإنقاذ"، ترفض مكونات أخرى التقسيم، وتجادل بأحقيتها في بعض الأراضي، خشية أن يكون التقسيم لصالح النظارات المعروفة.

ولم تنشأ مشكلة شرق السودان فجأة، وإنما هي نتاج تفاعل أسباب وعوامل تاريخية بدأت مع هجرة القبائل وتداخلها مع قبائل المنطقة قبل عهد النظام السابق، ولكن حكومة "الإنقاذ" وطنت عدداً من القبائل اللاجئة، فخلقت أزمة أحلاف قبلية، ونشطت أزمة كسر احتكار الأراضي، وعمقت الأزمة المتعلقة بممارسة النشاط الاقتصادي، وهي أزمات واضحة يحاول بعض السياسيين الاستفادة من هذه الوقائع في صراعهم السياسي، كما مارس النظام السابق سياسة الاستقطاب مع القوى السياسية واسترضاها بالمناصب والمحاصصات السياسية.

ونتيجة للمظالم التاريخية التي نشأت في فترة الاستعمار، تأسس مؤتمر "البجا" كتنظيم سياسي منذ عام 1950، وفي ظل الحكومة الوطنية، طرح قضية التنمية في شرق السودان، ثم انتهج العمل المسلح عام 1994، وأسهم في تأسيس "التجمع الوطني الديمقراطي" مع بقية القوى السياسية المعارضة لنظام "الإنقاذ"، واتخذ من إريتريا مقراً له وقاعدة ينطلق منها عمله المسلح. وخلال عهد "الإنقاذ"، ارتكبت عمليات قتل نفذها النظام السابق عام 2005، عرفت بـ"مجزرة بورتسودان"، وبعد اندماج مؤتمر "البجا" و"الأسود الحرة" داخل "تنظيم "جبهة شرق السودان"، وقّع النظام السابق معها اتفاقية السلام في أسمرا عام 2006، وفي عام 2013، انضمت باسم "الجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة" إلى الجبهة الثورية.

بين القبيلة والدولة

وتحتكم النظارات الرئيسة في الشرق مثل نظارات "البشاريين"، و"الأمرار"، و"الهدندوة"، إلى أراضٍ ممتدة ومحددة سلفاً فـ"الهدندوة" لها مثلاً 11 محلية، ولكن هناك أزمة قائمة في الحدود الشرقية جنوب طوكر وريفي كسلا، حيث نشأ نزاع بين قبيلتي "بني عامر" و"الهدندوة"، وهي صراعات مستمرة منذ عهد الفريق إبراهيم عبود في ستينيات القرن الماضي، ولكن نشبت في إطار مسار الشرق التابع لاتفاقية جوبا للسلام الموقع في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) 2020.

وأعطى المؤتمر الوطني قبائل "الحباب" الذين يستوطنون منطقة الساحل بين مصوع وسواكن، وتمتد في شكل مثلث حتى طوكر، وقرب حلايب وأبي رماد، نظارة، على الرغم من من أن رئاستهم في منطقة نقفة في إريتريا برئاسة "كنتيباي". ويقول بعض المؤرخين إن لقب "كنتيباي" منحه ملك الحبشة النجاشي لزعيمهم في القرن الـ18، ولـ"بني عامر" محلية واحدة، ولذلك يرجع البعض أن السبب الرئيس للمشكلة هو محاولة طعنهم في أراضي البجا الذين يعتقدون بأن المجنسين الذين ذوبهم المؤتمر الوطني في الشرق ويتحدثون لغة "تيغراي"، يطمعون فيها.

وكانت اتفاقية الشرق قائمة على هذه القبائل الرئيسة التي تتحدث لغة "البداويت"، ومن ثم كونت "جبهة الشرق" التي جمعت كل الإثنيات في شرق السودان، منها "بني عامر"، و"الحباب"، و"الرشايدة"، و"الهوسا"، ووقع أبناء الشمال، إضافة إلى قبائل "البجا" بمكوناتها، تحت لواء "جبهة الشرق" هذه الاتفاقية أملاً في السلام.

وتتكون النظارات المعروفة في شرق السودان من ثمانية مكونات هي "الشكرية"، و"الهدندوة"، و"البشاريين" و"الأمرار" و"العبابدة"، و"الحلنقة"، و"بني عامر"، و"الحباب"، إضافة إلى العموديات المستقلة الست، وهي نظارات معتمدة لدى ديوان الحكم الاتحادي وكيان الشمال والكيان النوبي، وإدارة "الهوسا"، ونظارة "الرشايدة". وهناك نظارات غير معترف بها من قبل المكونات الرئيسة في شرق السودان، وهي التي تؤيد مسار الشرق، إذ إن غالبية هذه المكونات رافضة مسار الشرق، بينما يؤيده "بني عامر" و"الحباب"، ونسبة لما عدّته القوى الرئيسة ادّعاءً من هذين المكونين في أحقية الأراضي، توافقت المكونات على ترسيم الحدود الجغرافية بين القبائل في إطار وضع حدود بين النظارات والقبائل، ووضع حد بين معسكرات اللاجئين وأراضيهم.

مراجعة الهوية

وشكلت بطون بعض القبائل اعتراضاً على وجود أخرى منحتها "الإنقاذ" نظارات، وبمرور الوقت، أصبح الاعتراض على ما عداها من القبائل القادمة من غرب السودان، حتى لا ينشأ اندماج من قبائل مختلفة. وهنا يتضح أن الهوية السودانية ليست حكراً للذين غذّوها بالعنصرية والثأر في الصراعات السياسية والإثنية، فدخلت في النزاع السياسي لتبرز في معظم أقاليم السودان، في الغرب في دارفور وفي شرق السودان، ليتحول الصراع القائم الآن بين القبائل المختلفة على الحدود الجغرافية بينها إلى صراع وجودي، ومنذ أن قامت النزاعات على ملكية الأراضي، وظفت القضية سياسياً.

وظلت الهوية محل خلاف في الوعي الشعبي السوداني، وأكثر ما يثيرها إما الأقليات التي تشعر بالاضطهاد والمضايقات، أو المكونات القبلية الراسخة تجاه ما تشعر به من تهديد على أرضها ووجودها، فقد عاشت بعض الكيانات في شرق السودان ككيانات منفصلة، وأسهمت قضية الهوية في تفاقم أزمة الشرق التي هي جزء من الأزمة التي تعيشها البلاد على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتتجاوز الأزمة الداخلية إلى الأزمة التي يعيشها السودان مع جيرانه من جهة الشرق في إريتريا وإثيوبيا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبينما بدأت شكوى الشرق من التهميش والفقر وحاجتها إلى التنمية، تعقدت الأزمة باتخاذها أبعاداً إثنية، وهي نار تحت رماد الأزمات القائمة، ووصل الأمر إلى احتدام صراعات دامية طالبت فيها بعض المكونات برحيل إثنيات "النوبة" القادمة من جنوب كردفان، و"الهوسا" وبعض القبائل القادمة من غرب السودان من دارفور. ونشأت مطالب أخرى هي تقرير المصير واعتماد لغة "البداويت" لغة رسمية للإقليم، لسببين، أولاً، باعتبارها اللغة الأصلية لقبائل "البجا" في شرق السودان، وتتحدث بها النظارات الأربع الأساسية، وهي "الهدندوة"، و"الأمرار"، و"الحلنقة"، و"البشاريين"، وجزء من نظارة "بني عامر"، وثانياً، لأن اللغة العربية لغة الدولة الرسمية لم تستطع صون الهوية اللغوية للمكونات الإثنية بالمنطقة. ووصل الأمر إلى أن يتم التفريق بين مواطن من شرق السودان ولاجئ بالتمييز لغوياً.

يذكر أن المكونات في معسكرات اللجوء والتماس بين الحدود بين القبائل تتحدث لغة "تيغراي"، وهذا يدل إلى أنها ليست من المنطقة، وإنما دخيلة.

تحديات أمنية

لم تكن حكومة "الإنقاذ" معترفة بهذه الأزمة، وحاولت إخمادها بالطريقة ذاتها التي تعاملت بها مع أزمة دارفور، وعقب سقوط الرئيس السابق عمر البشير في أبريل (نيسان) 2019، نشبت توترات إثنية هددت أمن الإقليم والمنطقة، وأسفرت عن عمليات قتل نفذتها قبيلتا "بني عامر" و"البجا"، وتطورت خلال العام نفسه إلى اشتباكات بين "بني عامر" و"النوبة"، ونسب هذا التوتر إلى أتباع النظام السابق.

وبعد ذلك حاولت الحكومة الانتقالية التوافق والاستجابة لمطالب القبائل هناك، خصوصاً أن الوضع المتأزم في الخرطوم صحبته أزمات أخرى في الشرق، وعمل رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك على ذلك بالقيام بزيارات للإقليم، ولكن، حاولت بعض القوى الثورية الانحراف بالأزمة عن مسار الحلول المطروحة والاستفادة منها في تعبئة الزخم الثوري.

وبعد توقيع اتفاق جوبا للسلام، واحتوائه على مسار الشرق ضمن مسار دارفور، أعلن مجلس نظارات "البجا" إغلاق الطريق القومي والموانئ البحرية حتى يتم إلغاء "مسار الشرق". وكذلك واجهت محاولة رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) بالاستجابة لمطالب الإقليم بعض المصاعب، ولكن، لأن المطالب متعارضة، فلم تستجب معها كل الأطراف، ومن ثم جاءت مرحلة تشكيل اللجان، وعقد المؤتمرات للمشاركة في الحلول المقترحة، وتحويل الأزمة من عبء على كاهل الإقليم، إلى مقترحات للمشاركة في حلها.

حلول مشروطة

ويتوقع أن تتخذ المكونات القبلية موضوع تقرير المصير أداة لتحقيق بعض المصالح الفئوية الضيقة، من من دون وضع الأهداف لحل مشاكل الإقليم في التنمية والعدالة الاجتماعية، ما من شأنه أن يغذي الصراعات بين قبائل الإقليم ويبقيها مشتعلة، ومن أجل الضغط بحق تقرير المصير، نشطت الكيانات السياسية من وجودها الثقافي الاجتماعي، بإبراز قوميتها من خلال لغتها، وهو واقع ينطبق على معظم أقاليم السودان التي تضع حق تقرير المصير في خلفية صراعها السياسي مع كل الحكومات الوطنية.

ربما يحل ترسيم الحدود مشكلة الاحتكاك القبلي مؤقتاً، ولكنه لن يستمر على المدى الطويل، خصوصاً أن الحكومة ليست لديها استراتيجية لمعالجة وضع بقية المكونات الأخرى التي لديها نظارات، وليس لديها أراضٍ، كما أن الحكومة ستكون قد اتخذت سنة التقسيم الحدودي القبلي التي ربما تطالب بها أقاليم أخرى لديها المشكلة نفسها، وتعج بالتداخل الإثني والقبلي مثل دارفور، وربما تتبعها أيضاً من دون وضع استراتيجية لحل مشاكل القبائل التي لا تمتلك أراضي، إضافة إلى قبائل التماس.

ولكن من ناحية أخرى، ربما يفيد هذا التقسيم في فتح قضية معسكرات اللاجئين، شرق السودان، من إريتريا، وهو لجوء طال أمده، وتطور إلى حال تمازج سكاني مع الحفاظ على موقع المعسكرات تحت إشراف المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، ونسبة، لأن المشاكل الاجتماعية تتفاقم يوماً بعد يوم، فيمكن أن تعالج قضيتهم، إما بالتوطين أو إعادتهم إلى ديارهم.

وبما إن قضية ترسيم الحدود في شرق السودان تشرف عليها المفوضية القومية للحدود السودانية، فإنها من واقع خبرتها في قضايا الحدود الدولية مع إثيوبيا ومصر، تكون قد اكتسبت خبرة في حل الأزمة، كما أن حل الأزمة بالترسيم القبلي سيكون سابقة لمواجهة خلافات إثنية وقبلية أخرى في مناطق السودان المختلفة، لكن ذلك يقتضي التأكيد بداية على جدوى هذا التقسيم وضمان ألا يستصحب معه حلولاً أخرى أشد إيلاماً، ويوفر فرصة مهمة لإعادة انتصار المنهج السلمي على المنهج العنفي.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات