بين الرغبة في وضع الخطط الإصلاحية والقدرة على إنجازها، تعيش الحلول للأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان حالةً من الاضطراب. وآخر الطروحات التي أحدثت خضة في أوساط المودعين في المصارف التجارية اللبنانية، تلك التي تضمنت كلاماً صريحاً عن "تليير الودائع الدولارية"، أي تحويلها إلى العملة الوطنية اللبنانية التي تعرضت لانهيار شديد منذ عام 2019. ويشعر المودعون العاجزون عن الولوج بحرية إلى حساباتهم الدولارية، أن جنى أعمارهم والودائع الدولارية باتت في خطر جدي.
اقتراح وليس قرار
في السياق، أعلن النائب نقولا نحاس (مقرب من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي) أن "تليير الودائع ليس أمراً حتمياً، وطرحه أتى من باب تقديم الحلول للأزمة التي يعيشها لبنان". وأضاف "لبنان لا يطبع الدولار ولا يمتلك كميات كافية منه، بالتالي في حال صرْف ما تبقى لدينا على دعم العملة الوطنية، وغيرها من الإجراءات، لا بد من بناء اقتصاد قوي ومنتج من أجل إدخال كميات كافية من الدولارات إلى النظام المصرفي، وإعادة القيمة للعملة الوطنية، وصولاً إلى تعويض ودائع للمودعين".
ورفض نحاس ما يجري ترويجه بأن "التليير عبارة عن عملية ضحك على الناس وأكل لحقوقهم"، مشيراً إلى أن هناك شروط لتطبيقها بدءاً بـ "بناء اقتصاد قوي، وتثبيت العملة، وإعادة الأموال للمودعين الذين يمتلكون حالياً حساباً دفترياً (اسمياً) بقيمة معقولة".
وعن تطبيق هذا الطرح من قبل مصرف لبنان المركزي، من خلال إصدار التعميم 151 الذي سمح للمودعين بالسحب من ودائعهم الدولارية، بسعر 3900 ليرة للدولار الواحد، ورفعه لاحقاً من خلال التعميم 161 إلى 8000 ليرة، فيما سعر الدولار في السوق تخطى أحياناً الـ 30000 ليرة، أجاب نحاس "إن حلول مصرف لبنان جزئية. الحسابات الصغيرة مؤمَّنة لا يوجد مشكلة، ولكن ما السبيل لمعالجة الحسابات الكبيرة؟".
وأعطى نحاس الأولوية لبناء الاقتصاد "من خلال خطة النهوض والإنقاذ، وعدم حصر اهتماماتنا بالحصول على دولارات من الخارج"، مشيراً إلى أن "المواطن اللبناني لطالما تعامل بالليرة وليس بالدولار لغاية عام 1989".
كما تحدث عن طرحه موضوع "التليير" من باب "تحليل الإمكانات المتاحة، وليس إصدار قرار"، فهو لا يملك هكذا صلاحية، ويكتفي "باقتراح بعض الحلول والفرضيات ريثما نصل إلى مرحلة القدرة على إعطاء المودعين أموالهم بقيمتها الحقيقية بعد فترة من الزمن".
هذا الأمر يقود إلى طرح "لماذا لم يصدر بعد قانون الكابيتال كونترول؟"، وفي هذا الصدد لفت نحاس إلى أنه في إطار الخطة القديمة لحكومة حسان دياب كان يفترض اتخاذ 32 إجراء وقانوناً، "إنه موضوع معقد، وليس وفق مقولة: كوني فكانت".
جمعية المودعين حذرة
من جهتها، تتعاطى جمعية المودعين بحذر مع كل طرح لمعالجة ودائعهم. ويُقدَّر حجم الودائع الدولارية الحالية بـ 98 مليار دولار، و 45 ألف مليار ليرة لبنانية. وقال ممثل الجمعية حسن مغنية إنه "في حال إقرار هكذا خطة يكون الطقم السياسي قد دق آخر مسمار في نعش الاقتصاد اللبناني وقطاعه المصرفي والمالي، ودفن العملة اللبنانية إلى الأبد"، مؤكداً "أننا لسنا أمام مواقف شعبوية، وإنما تحليل علمي وواقعي، لأن تليير الودائع في بلاد اقتصاده مدولر (أي يتعامل بالدولار الأميركي) غير ممكن، كما أن احتياط المصرف المركزي ينفد. وسيقود إلى مشهد شبيه لفنزويلا وأكثر رعباً". وأضاف مغنية أن "تحويل الودائع إلى ليرة يعني أن الدولار سيصل إلى 6 أصفار مقابل العملة الوطنية، لأن كل شخص سيشتري الدولارات بالأموال اللبنانية التي سيتقاضاها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكشف مغنية أن "موضوع التليير مطروح بشكل جدي، وحسب معلوماتي ستقترحه الحكومة لمناقشته مع صندوق النقد الدولي، بالتالي تحويل جزء كبير من الودائع بالدولار إلى العملة اللبنانية على سعر صرف محدد". وأضاف أنه "عندما يقوم المودع بسحب دولاره لقاء 8000 ليرة، فيما سعر الصرف يبلغ 30000 ليرة، يكون البنك المركزي قد شطب جزءاً كبيراً من الودائع الدولارية، وجزءاً كبيراً من الخسائر وحمّلها للمودعين".
عبء الخسائر
من جهة أخرى، وضع الخبير حسن شري من حركة "مواطنون ومواطنات في دولة"، طروحات التليير "في سياق التحضير للتفاوض مع صندوق النقد الدولي، حيث قامت اللجنة التحضيرية بتقدير الخسائر في حدود68 مليار دولار". وأوضح شري أن "الخسائر لم تلحق فقط بالمصارف، وإنما بالمجتمع اللبناني بشكل عام لأنها أصابت أموال المودعين، الصناديق التعاضدية لأصحاب المهن الحرة، وعوائلهم الذين يستفيدون من تقديماتها. لذلك هناك أطراف عدة تقع على عاتقهم الخسائر، المودعون، والمصارف، ومصرف لبنان". ولكن شري لفت إلى "فئة يغفل عنها كثير من الناس ألا وهم المواطنون المقيمون الذين يتقاضون أجورهم بالليرة، حيث يدفعون ثمن التضخم وانخفاض سعر صرف الليرة بفعل سياسة طبع مزيد من العملة الوطنية، حيث تتراجع قيمة أجورهم وتنخفض قدرتهم الشرائية".
ووضع شري ما يجري في دائرة "شطب الخسائر من حسابات المصارف"، معبراً عن اعتقاده بأن العبء الأكبر لـ "تليير الودائع" سيتحمله المودعون الذين "يتعرضون لخصم قسري من ودائعهم Hair Cut، من خلال تعاميم مصرف لبنان، وكذلك المقيمون الذين تراجعت القيمة الحقيقية لأجورهم، وصناديق المهن الحرة والمعلمون والمتقاعدون. ذلك أن هناك فجوة كبيرة بين التزامات المصارف الدولارية، وبين موجوداتها بالعملة الأجنبية التي تبخر جزء كبير منها. وهذه الفجوة لا بد من ردمها من خلال التليير وإعطاء المودعين ودائعهم بالليرة وفق سعر أدنى من سوق الصرف الحرة، بالتالي خسارتهم جزء من قيمة ودائعهم".
وعاد شري إلى جذور الأزمة، "ففي الفترة بين عامي 2016 و2018، زادت موجودات المصارف من 399 في المئة إلى 454 في المئة مقارنةً مع الدخل المحلي الإجمالي، حيث أصبح حجم القطاع المصرفي اللبناني 4 أضعاف ونصف حجم الاقتصاد، وشكلت الديون السيادية أي شهادات إيداع وودائع مصرف لبنان، وسندات الخزينة، نسبة 70 في المئة، وليست قروضاً إنتاجية لفتح مؤسسات وتوسيع سوق العمل". لذلك حمّل شري أصحاب المصارف وحاكمية المصرف المركزي، والزعماء الطائفيين مسؤولية ما وصل إليه لبنان. وشدد على "ضرورة استدراك الأوضاع الأسوأ من خلال إقرار تغطية صحية شاملة بكلفة 2 في المئة من الدخل المحلي الإجمالي، والتعليم الإلزامي من أجل الانتقال إلى مرحلة بناء الدولة، إضافة إلى تعيين حكومة انتقالية ذات صلاحيات تشريعية".
المصارف توضح
من جهتها، ترفع المصارف عبء الاتهام عن نفسها، فهي ليست صاحبة السلطة والقرار في هذا المجال لأن ما يُطرح في الإعلام هو من أوساط الفريق الاقتصادي لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي. وقالت مديرية الإعلام في جمعية مصارف لبنان، "لم تُطرح أي خطة حكومية أو تصور على جمعية المصارف لإبداء رأيها أو مناقشته. وما زالت الخطة ملكاً لرئاسة مجلس الوزراء، حيث يتم رسمها هناك"، بالتالي "لن يكون للجمعية أي موقف قبل تقديم الخطة بصورة رسمية". كما تشير إلى أن "المصارف ملزَمة تطبيق التعاميم الصادرة عن مصرف لبنان المركزي تحت طائلة الملاحقة من قبل لجنة الرقابة على المصارف التي تتأكد من تطبيق المصارف للتعاميم، وصولاً إلى إحالتها إلى الهيئة المصرفية العليا، حيث تمتلك اللجنة سلطة اتخاذ إجراءات تصل إلى شطب رخصة هذا المصرف"، وكذلك "السياسات المالية التي تضعها وزارة المال".