تواصل الليرة اللبنانية سقوطها المدوي أمام الدولار الأميركي، إذ ناهزت 30 ألفاً للدولار الواحد، في رقم قياسي جديد يعادل 20 مرة ما كانت قبل عامين. الأمر الذي يعمق الأزمة الاقتصادية التي يواجهها لبنان ووصفها البنك الدولي بأسوأ أزمة اقتصادية سجلها العالم منذ 150 عاماً.
ومقابل كل قاع جديد تسجله الليرة اللبنانية، تسجل أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية ارتفاعات قياسية. فقد بلغت نسبتها 600 في المئة خلال عامين. كذلك ارتفعت نسبة الفقر التي باتت 74 في المئة من السكان البالغ عددهم نحو ستة ملايين، وفق تقارير الأمم المتحدة. علماً أن نسبة الاستيراد تتجاوز 80 في المئة من سلعه الأساسية.
لعبة لانهيار الليرة
وفي وقت تعزو أوساط الصرافين في السوق الموازية سبب الانهيار الجديد في سعر صرف الليرة مقابل الدولار إلى قرار أصدره البنك المركزي، قضى برفع سعر صرف سحب الأموال من الحسابات المصرفية بالدولار الأميركي من 3900 ليرة إلى 8000 ليرة للدولار الواحد، تشير مصادر حاكم المصرف المركزي، رياض سلامة، إلى أن سعر الصرف غير الرسمي تعكسه عصابات المضاربة الموجودة في السوق اللبنانية، وتحظى بغطاء سياسي وأمني وتلاشي إمكانية المحاسبة والمساءلة.
وتؤكد المصادر أن التدابير الأخيرة التي اتخذها مصرف لبنان عبر تزويد المصارف العاملة بحصتها النقدية لما تبقى بالدولار الأميركي النقدي، بدلاً من الليرة اللبنانية، على سعر صرف منصة "صيرفة"، أي 24 ألف ليرة للدولار، إضافة إلى بيع الدولارات المشتراة على سعر "صيرفة" كاملة إلى مختلف عملائها عوضاً عن الليرة اللبنانية التي كانت مرصودة لدفعها بالليرة، وإعطاء الإمكانية لموظفي القطاع العام بتحويل رواتبهم بالليرة اللبنانية عبر منصة "صيرفة" إلى الدولار - إجراءات يفترض أن تساعد في خفض الطلب على الدولار وتزيد الطلب على الليرة اللبنانية في الأسواق.
وتوضح المصادر أن التدابير والتعاميم الأخيرة أسهمت بضخ نحو 150 مليون دولار في الأسواق اللبنانية، وسحب نحو خمسة آلاف مليار ليرة من السوق المقدرة بـ84 ألف مليار ليرة. الأمر الذي يفترض أن ينعكس تراجعاً طبيعياً في سعر الصرف، بدلاً من ارتفاعه. وهو الأمر الذي يكشف عن حقيقة وجود لعبة كبيرة وتواطؤ من أجل أن تنهار الليرة اللبنانية بشكل أكبر.
ارتفاع كارثي
ويقول رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية، هاني البحصلي، إن "سعر السلع الاستهلاكية في لبنان مرتبط بشكل مباشر بسعر صرف الدولار، باعتبار أن معظم السلع مستوردة من الخارج، وأن الصناعات المحلية مرتبطة بالدولار لكون المواد الأولية مستوردة والكلفة الإنتاجية تتأثر بأسعار المحروقات. ولهذا سيستمر ارتفاع الأسعار ما سيؤدي تدريجاً إلى عدم قدرة المواطن على شرائها من ناحية وعلى التجار الذين يتكبدون خسائر فروقات الأسعار من ناحية أخرى".
ويلفت البحصلي إلى "وجود مؤامرة واضحة على الاقتصاد اللبناني تظهر من خلال ارتفاع الدولار في فترة العطلة"، مشيراً إلى أن "هذا الارتفاع سياسي وليس اقتصادياً، ولا نرى سقفاً لارتفاع سعر الصرف، ومن الطبيعي أن ترتفع الأسعار". ويدعو المسؤولين إلى "الرأفة بالناس"، مضيفاً أن "الوضع ليس على ما يرام، وعلى الجميع الاستعداد للتحديات المقبلة ومواجهتها". ويتخوف من "وصول الدولار إلى 35 و40 ألفاً، ما قد يؤدي إلى كارثة اجتماعية وتفلت أمنى في البلاد".
الدواء بالحبة!
ولم يقتصر انعكاس انهيار سعر صرف الليرة على الوقود والسلع الغذائية والاستهلاكية، إنما انعكس بشكل كارثي على أسعار الدواء التي ارتفعت بشكل جنوني، وباتت الصيدليات تبيع بعض الأدوية بالحبة. وهناك مواطنون يستبدلون بأدويتهم أخرى شبيهة. وذهب البعض الآخر إلى "تقنين" حاجتهم إلى الدواء، على الرغم من الخطورة الصحية.
وفي هذا السياق، يكشف رئيس لجنة الصحة النيابية، عاصم عراجي، عن أن شركات الأدوية رفعت المؤشر الجديد لأسعار الدواء بنسبة 20 في المئة على أدوية "أو تي سي" والأمراض الحادة، بسبب استمرار انهيار الليرة في مقابل صرف الدولار. في حين لا يزال الدعم مقتصراً على أدوية الأمراض المستعصية والسرطانية.
"دولرة" الاقتصاد
وتشير أوساط اقتصادية إلى أن عدم استقرار سعر الصرف سيؤدي إلى "دولرة" الاقتصاد وانتفاء تدريجي للتعامل بالليرة اللبنانية، إذ بدأت أسعار بعض السلع والخدمات تُستوفى بالدولار النقدي حصراً. ما ينذر باحتمال تمدد هذه الظاهرة على مفاصل التبادل التجاري والخدمات والرواتب، في ظل استمرار المسلسل المستمر للتضخم الذي يطاول الليرة.
وترى تلك الأوساط أن غياب الحلول السياسية مع استمرار تعثر انعقاد جلسات مجلس الوزراء يزيد الأزمة تعقيداً. بالتالي، لا أفق واضحاً لوقف تضخم الليرة اللبنانية. ما سيعجل التحول التلقائي للسوق إلى اعتماد الدولار، لا سيما أن لبنان بالأساس مهيأ لذلك، كونه يعتمد على الاستيراد بشكل شبه كامل، ونحو 15 في المئة من اليد العاملة تتقاضى رواتبها من مؤسسات غير لبنانية عاملة في الخارج، إضافة إلى تحويلات المغتربين إلى ذويهم.
اقتصاد وهمي
من جانبها، تصف المتخصصة في القوانين المصرفية، سابين الكيك، الاقتصاد اللبناني بـ"الوهمي"، وسط تعددية أسعار الصرف وغياب منطقها، وانهيار موارد الدولار، كالسياحة والاستثمارات والتصدير، معتبرة أن تحديد سعر صرف الليرة مرتبط بعاملين أساسيين، هما الاستيراد والتصدير كوسيلة لجذب الدولار من الخارج، لكن "لا توازن بينهما في لبنان، مقابل الحاجة الكبيرة إلى الدولار، والبنك المركزي أصبح يطلب حتى من بعض الإدارات الرسمية والوزارات سداد بعض مستحقاتها بسعر منصة صيرفة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وترى الكيك أن التدابير الأخيرة المتخذة من قبل مصرف لبنان لا ترجمة عملية لها في ضبط سعر صرف الدولار. وتحذر من أن تطاول إجراءات "المركزي" لاحقاً قروض التجزئة (كقروض الإسكان) التي تُسدد وفق سعر الصرف الرسمي، لأنها قد تسبب انهياراً إضافياً بالبنية الاجتماعية.
وتوضح الكيك أن المعالجة الحقيقية لسعر الصرف لا تكون بضخ الدولار بعد شرائه، خصوصاً أن مصرف لبنان يقوم وفق بعض التسريبات بسعر أعلى، مشيرة إلى أن بعض الإجراءات يمكنها وضع حد ولو مؤقت وجزئي للعبة الدولار، إلى حين بروز حل نهائي يعتمد على وضع خطة اقتصادية ونقدية للخروج من الأزمة. بالتالي، إعادة تفعيل القطاع المصرفي عبر إعادة هيكلته، وضخ رساميل جديدة فيه.
سعر صرف جديد
بالتوازي، تشير المعلومات إلى بحث جدي برفع سعر الصرف الرسمي المعتمد حالياً 1500 ليرة إلى ثلاثة احتمالات هي ثلاثة آلاف أو ستة آلاف أو تسعة آلاف ليرة، بالإضافة إلى رفع الدولار الجمركي، بهدف تعزيز قدرات المالية العامة للدولة. إلا أن العامل الذي يفرمل المضي بهذا القرار هو استمرار الإخفاق بإقرار البطاقة التمويلية التي يعول عليها لتشكيل شبكة أمان اجتماعي محدودة تخفف من التداعيات الكارثية المتوقعة لرفع سعر الصرف الرسمي، بعد أن رفع الدعم عن الأكثرية الساحقة من السلع.
وفي هذا السياق، يشير النائب السابق لحاكم مصرف لبنان، غسان العياش، إلى أن سعر الصرف الرسمي يجب أن يكون هو نفسه سعر الصرف الواقعي، الذي ينشأ في السوق، حين يلتقي العرض والطلب. ويلفت إلى أن احتياطات مصرف لبنان الخاصة ضعيفة. الأمر الذي يلزم المصرف المركزي بعدم التدخل في السوق، ويترك التعاملات للصرافين وغيرهم من المتاجرين، عندها لن يعود هناك سعر رسمي، بل سعر السوق السوداء كما هي الحال اليوم.
ويعتبر العياش أن رفع سعر صرف السحوبات المصرفية إلى ثمانية آلاف ليرة له فائدة واحدة، هي تضييق الهوة بين سعر المصرف بالنسبة إلى المودعين، وسعر الصرف الواقعي السائد في السوق، أي إنه يخفف خسائر المودعين المضطرين إلى تصفية ودائعهم بالعملات الأجنبية، مشيراً إلى أن هذه الخطوة تبقى قصيرة المدى ولا تحل أي مشكلة. والحل يبدأ، وفقه، بالإصلاح المالي والنقدي والمصرفي الشامل، وأحد بنوده الرئيسة توحيد سعر الصرف.