Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هاجر سعود تلقي نظرة كافكاوية على العالم في قصصها

مجموعة "مأساة أن تكون جادا" يغلب عليها الطابع الفلسفي والتنوع الأسلوبي

لوحة للرسام السعودي عبد الحليم رضوى (صفحة الرسام على فيسبوك)

تظهر الرؤية الكافكاوية إلى العالم في مجموعة القاصة السعودية هاجر سعود "مأساة أن تكون جاداً" (دار أثر) من عتبتها الأولى المتمثلة في الغلاف الذي لا يحتوي سوى على اللون الأسود على خلفية "بيج". باللون الأسود كُتب اسم المؤلفة، وعنوان المجموعة، وخطت به رسمة كاريكاتورية لإنسان يبدو كأنه مايسترو. رسمة لا تحتوي سوى على خطوط لهيئة بشري من دون عناء في إظهار تفاصيله وإحكام ملامحه كرسم أولي يتناسب مع عنوان المجموعة. هو رسم تقريبي يتناسب مع رؤية المجموعة العبثية للعالم الداعية إلى عدم الجدة، وهي الرؤية التي يحملها العنوان أيضاً في طياته عبر كلمة مأساة التي اختيرت كترجمة لكلمة تراجيديا، أحد شقي الدراما كما صنفها أرسطو في كتابه الشهير "فن الشعر".

تمتد تلك النظرة التي يمنحها غلاف المجموعة بما يشتمله من مكونات بصرية إلى مضمون قصص المجموعة ذاتها التي تتكون من 24 قصة قصيرة، فنجدها تستحضر كذلك فلاسفة العبث، وما بعد الحداثة وكتابها في الحضارة الغربية، مثل كافكا ونيتشه. وتلفت المؤلفة إلى ذلك صراحة في حوار متخيل تكشف فيه عن هذه الرؤية العبثية وتأثرها بفلسفة ما بعد الحداثة الغربية. وتقدم كل قصة بمقطع صغير توضح أنه من كتاب سابق لها عنوانه "سفر اللا معنى"، وهو عبارة عن شذرات فلسفية، وجُل هذه الاقتباسات ذات نزعة عدمية. ومن ذلك ما تصدّر به قصتها "الجسر"... "الحبكة نفسها، الشخصيات نفسها، الرجل نفسه، الأفخاخ نفسها، الألاعيب نفسها، الانجذاب نفسه، التلاحم نفسه، الفتور نفسه، الأعذار نفسها، التضحيات نفسها، الكراهية نفسها الحياة كاتب يفتقر إلى المخيلة" (ص48). وفي قصة "تجارة الأطفال" تقول: "إن آلام الولادة والمخاض ليست سوى إرهاصات المعاناة الكبرى. إن صراخ المولود فور تورطه بالوجود ليس صُدفة. الحدث مأساوي على كافة الأصعدة" (ص199). وقصة "المقابلة" فيها نوع من التغريب وكسر الجدار الرابع كما هو معروف في المسرح الملحمي لبريخت، حيث يوجه الممثلون حديثهم مباشرة إلى الجمهور الموجود في القاعة، وهو ما تقوم به هاجر سعود بحديثها عن رؤيتها للعالم والمنهج الذي اتّبعته في كتابة هذه المجموعة وأعمالها الأدبية الأخرى.

الجدية والتنوع

تتمتع "مأساة أن تكون جاداً" بالجدية الشديدة من الناحية الفنية، ما يُعد مفارقة من ضمن المفارقات التي تشتمل عليها نصوص المجموعة ككل، فقد حظيت قصص المجموعة بعناية كبيرة في اختيارها وترتيبها والاقتباسات التي حفلت بها. ومن هنا، كانت في فكرتها أقرب إلى المتوالية القصصية، إذ تحيل إلى تيمة واحدة تتمثل في مأساوية العالم الذي نحيا في ظله. وعلى الرغم من أن القصص تناقش عديداً من القضايا الفلسفية، فإن الكاتبة كانت حريصة في القصة الأخيرة التي جاءت على شكل حوار، على الكشف عن النمط والآلية والمنهل الفكري الفلسفي الذي نهلت منه، وسلكت طريقه. وكانت بذلك كمن يحلل عملاً ويشرحه للناس، ما أوقعها في المباشرة. وكأن هاجر سعود كانت حريصة كل الحرص على إيصال مقاصدها الإبداعية، وهو ما يتناقض مع فكرة اللا معنى التي تحاول أن تؤكدها.

ومما يحسب للكاتبة أنها نوّعت أشكال القصص، وطرحت الفكرة الواحدة من زوايا مختلفة من دون أن تقع في شَرَك التكرار. فجاء بعض القصص في صورة سردية تقليدية، مثل قصتها الأولى "آخر ما سمعته الجدّة علياء". ترصد هذه القصة الصراع بين الجدّة "علياء" وأحفادها الذين لا يحبونها، لأنها تعاملهم بغلظة حين يكونون معها بعيداً عن آبائهم، ولذلك يقررون الانتقام منها وهي على فراش الموت. يخبرونها بأنهم سعداء لكونها ستموت الآن، وأن بيتها قذر، وأبناءها اشتروه لها حتى لا تعيش معهم، لكن الجدّة أثناء ذلك كله لم تكن تضع السماعة الطبية في أذنها، بالتالي لم تسمع إهانات أحفادها، وبذلك حرمتهم من لذّة الانتصار عليها.

وجاءت "قصة مقابلة" في شكل حوار صحافي. واتخذت قصة "حوار أكاديمي" شكل حوار يومي، وجاءت "مأساة أن تكون جاداً" في صورة محاضرة. وكذلك تنوّعت ضمائر السرد. وتنوّعت الشخوص في سماتها ووظائفها وصورها وأنماط حياتها، ما أكسب المجموعة ككل قدراً كبيراً من الثراء.

التضخيم

تعتمد هاجر سعود في مجموعتها على اختيار أحداث عادية وتصرفات يومية مع محاولة صُنع عملية تغريب للأحداث، وجعل المتلقي ينظر إليها بصورة مغايرة، تكسر وجهة النظر الروتينية التي اعتاد أن يرى بها الناس العالم بسبب التكرار. وتولد عن هذه الآلية ما يعرف بالمفارقة الأدبية. فقصة "مأساة أن تكون جاداً" تتناول حياة "الأستاذ عبدالإله"، الرجل الجاد والانطوائي الذي كرّس حياته للقراءة والكتابة، ويعمل مشرفاً تربوياً، ما منحه مزيداً من الوقت للتفرغ للكتابة. دفع بكتابه الأول إلى المطبعة بعد أن أعاد كتابته مرات ومرات، وهو عن مسائل التربية في العصر الحديث، ومن ثم تلقّى دعوة إلى ندوة حول موضوع كتابه في جامعة مدينته، فأعدّ خطاباً جاداً. كان يظن أن خطابه سيغضب الطلاب بسبب جدّيته، إلا أنه فوجئ عندما وجدهم يصفقون له بحرارة. ويبدو أنه لم يدرك أن خطابه انطوى على مفارقات ظريفة أدرجها فيه غير متوقع أنها ستلقى استحسان جمهور الندوة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتعطي بعض القصص مقاربة مغايرة لما اعتاد الناس رؤيته، ومن قبيل ما يعرف "بتقبيح الحسن"، على عكس ما اصطلح عليه بـ"جماليات القبح". ففي قصة "وباء التبسم"، كما يوضح عنوان القصة عن النظرة السلبية للابتسامة عكس ما هو شائع في الثقافة العربية، تحكي عن قصة فتاة تعاني التبسم، إلا أنها اضطرت إلى العمل في وظيفة تتطلب الابتسام طوال الوقت للزبائن، ما سبب لها ألماً عظيماً في فكّيها، فنصحها الطبيب بعدم التبسم لإراحة فكّها، فبحثت عن وظيفة لا تشترط التبسّم في وجه الناس، لتجد بُغيتها أخيراً في العمل في محل بيع الأكفان.

تفاصيل بسيطة

يُولّد كثير من قصص المجموعة صراعاً يبدو كونياً، من تفاصيل بسيطة تحدث بشكل يومي، وكأن الكون يقف على تفاصيل تعمل على تضخيم ما هو بسيط عبر وضعه تحت ميكروسكوب يبرز الجوانب غير المرئية في الحياة. ومن القصص التي تعبر عن هذا النمط قصة "الخيار" عن سيدة لا تحب وضع الخيار في السّلطة. هي كانت تظن أن عدم حبها للخيار مسألة ذوقية، إلا أنها بعد سلسلة من الأحداث الاجتماعية تصل إلى نتيجة مفادها أن اختيارها البسيط هذا تسبب في إزعاجها، عندما تضطر دائماً لأن تبرر للآخرين عدم حبها للخيار. وهكذا، يتضح لها أن الإنسان ليس حراً حتى في أبسط الأشياء التي يختارها.

تناقش المجموعة عديداً من القضايا بأسلوب أدبي مُتقن الصنعة، مثل رهاب البعض من الحمّامات العامة، وأزمة الهوية بالنسبة لجيل الآباء الذين يسافرون إلى الغرب مع أبنائهم، والقتل الرحيم، والأمراض النفسية، وعدم قدرة الطب النفسي على التفريق بين المريض النفسي والسليم بآليات علمية واضحة لا اختلاف عليها، وكذلك الحوارات الأكاديمية المتعالية عن الواقع.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة