Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قصص كافكا تمثل الوجه الثاني من إبداعه الروائي المتفرد

مختارات شاملة من أعماله القصصية توضح نزعته الكابوسية واقتلاعه الوجودي

فرانز كافكا في صورة شهيرة له (متحف كافكا - براغ)

لا تنفصل القصص الطويلة والقصيرة التي كتبها فرانز كافكا طوال حياته عن عالمه الروائي المتمثل في "المسخ" و"المحاكمة" و"القصر" و"أميركا"، بل هي تنتمي إلى هذا العالم المتفرد في جمعه بين الواقعية والتخييل، وفي نزعته الكابوسية ورؤيته السوداوية إلى العالم. وتشكل هذه القصص مدخلاً مهماً إلى قراءة الأعمال الروائية، لا سيما أن كافكا استهل تجربته السردية في كتابة القصص، ثم انتقل إلى الرواية من غير أن يتوقف البتة عن إبداعه القصصي. وقد أقدم في عام 1912 أيام دراسته في جامعة براغ، على نشر مجموعة قصصية عنوانها "تأملات" بعد تردد في نشرها، فهي تضم بواكير المرحلة الأولى، وفيها قصص ولوحات سردية مهمة مثل "وصف صراع" (1903)، و"ترتيبات زواج في الريف" (1907)، و"أطفال على الطريق" وسواها... وثمة قصص كثيرة شاء أن تبقى في أدراجه لم ينشرها، مثلها مثل بعض رواياته التي صدرت بعد رحيله.

لعلها المرة الأولى تصدر فيها أعمال كافكا القصصية "الكاملة" مترجمة إلى العربية في كتاب واحد ، عن دار الرافدين، وقد أنجز الترجمة الأكاديمي رمضان مهلهل، ولكن من غير أن يذكر عن أي لغة نقلها، ولا أي مرجع اعتمد ولا أي طبعة ولا اسم الدار الأجنبية. وعلى الرغم من أهمية هذه الترجمة والمختارات القصصية التي يمكن وصفها بالشاملة وليس بالكاملة ،  التي تقدم للقارئ العربي تجربة كافكا القصصية مجموعة في كتاب واحد (448 صفحة)،  فالمترجم لم يكتب لها مقدمة أو مدخلاً يعرّف بالتجربة القصصية التي خاضها كافكا مترافقة مع تجربته الروائية.

وواضح أن هذه القصص تحتاج إلى تقديم يجلي ما أحاطها ويحيطها من التباس، ويكشف ظروف كتابتها وعلاقتها بروايات كافكا، وموقف صاحبها منها. فالقصص لا تخلو من العقدة الكافكاوية التي دفعت صاحب "المحاكمة" إلى الطلب من صديقه التاريخي ماكس برود إتلاف كل أعماله بعد وفاته، وعدم نشر ما لم ينشر منها وهو كثير.

قصص غير مكتملة

وبعض القصص غير مكتمل وكان يحتاج إلى مزيد من المراجعة، ولم يكن كافكا راضياً عنها كلها، وانتقد بعضاً من مقاطعها. لكنها لم تفقد أهميتها السردية بتاتاً، على الرغم من هذا الأمر. ولعل موضوعات القصص وأجواءها والقضايا التي تثيرها تعج بها رواياته، حتى لتبدو كأن الروايات والقصص تكمل بعضها بعضاً، وتتآخى رأسمة الخط السردي المتوهم والملموس الذي يخترق أعمال كافكا كلها. وليس مستغرباً أن تظهر في القصص الموضوعات نفسها التي شغلت الروايات وهيمنت على أبطالها، وهي باتت تسمى الموضوعات الكافكاوية، ومنها على سبيل المثل، الاستلاب الوجودي، والاقتلاع الإنساني، والمتاهة التي تضيع فيها الشخصيات، والحلم الذي يتحول كابوساً، والنزعة الكابوسية، وعقدة الذنب، وغياب القدرة العليا، والمصادفات الغريبة، ومواجهة البروقراطية، والانمساخ (القرد الذي يلقي محاضرة، وحيوان الحجر، والكلب الذي يروي...). وتحمل القصص الأولى إرهاصات الشخصيات التي تتجلى في الصنيع الروائي، كما أن بعض الشخصيات الروائية تظهر في القصص ومنها جوزف ك بطل "المحاكمة" الذي يظهر في قصة "حلم".

تصعب فعلاً الإحاطة بالقصص وما تحمل من أحوال وأفكار ومشاعر وتخيلات وكوابيس، وعلى الرغم من تعدد أجوائها وحقولها وشخصياتها تبدو كأنها تؤلف مناخاً كافكاوياً فريداً، وتغدو قادرة على جذب القارئ وإغرائه، حتى في سوداويتها وكابوسيتها وواقعيتها النافرة والغرائبية، وربما السحرية، إن أمكن استعارة المقولة الروائية في أميركا اللاتينية. وكان الروائي ميلان كونديرا تحدث عن أثر كافكا  في أعمال ماركيز وسلمان رشدي وسواهما. وثمة شخصيات تبدو غريبة جداً في سلوكها، وثمة أحداث غير متوقعة تفاجئ القارئ وتحل بصفتها مصادفات قدرية.

كتب كافكا قصصاً كثيرة، تترواح في حجمها، قصص طويلة تكاد تكون روايات قصيرة ( الجحر، وفي مستعمرة العقاب، وفنان الجوع...) وقصص قصيرة وقصيرة جداً، حتى تكاد تكون من بضعة أسطر. هذه القصص لا يمكن إحصاؤها بدقة إلا في العودة إلى الأعمال الكاملة بالألمانية، أو إلى الأعمال الكاملة التي صدرت لدى دور أجنبية يمكن الوثوق بها، مثل دار غاليمار الفرنسية التي أصدرت أعمال كافكا الكاملة في سلسلة "لا بلياد". ومع انتشار كورونا أخيراً، أعيد طبع قصته الطويلة "الحجر" في ترجمات عدة، بصفتها شهادة مهمة عن أحوال الانعزال والانقطاع والخوف التي عاشها البشر في أوج احتدام العدوى، وهي فعلاً قصة رهيبة، كافكاوية جداً، تدمج بين الإنسان والحيوان في شخصية واحدة كأنها ممسوخة.

كائن الجحر

يختار كافكا هذا الجحر بصفته بيتاً أو مخبأ لشخصيته الوحيدة التي هي الرواي نفسه الذي يتبدى أنه نصف إنسان ونصف حيوان، وهاجسه الملح كما يظهر في النص الذي هو عبارة عن مونولوغ متواصل، أن يحمي نفسه من العالم وأن يتحاشى أي تطفل أو تعد يأتي من الخارج. وقد عمد إلى سد مدخل الجحر قاطعاً أي منفذ أو سبيل إلى داخله. هذا الراوي يفكر ويتأمل ويتصرف تصرفاً غريزياً، سالكاً مسلك الحيوان المختبئ في الجحر، والذي لا ينتظر فرصة ملائمة للخروج. في بداية النص يعلن الرواي انتهاءه من بناء جحره الذي يشبه المتاهة وفيه أروقة ومنعرجات وساحة. أما المدخل فمغلق بطبقة من الرغوة الجامدة.  في الجحر يعيش الراوي عزلته بحرية، يحلم بتحسين مخبئه وإمداده بسائر المؤن. لكنه يعيش حالاً من القلق والخوف في الآن نفسه من أي عدو قد يهاجم ملجأه. لذلك جعل جحره أو وجاره، أشبه بمتاهة كي يجعله آمناً من أي غزو خارجي. فمن يدخله أو يتسلل إليه لا بد له من أن يتوه فيه. ومن حين إلى آخر يخرج بحذر شديد من وكره ليتأكد أنه صامد ومحمي، وليوفر بعضاً من زاده.

وفي سياق الشخصيات الممسوخة التي تذكر ببطل رواية "المسخ" غريغوار سمسا الذي انقلب حشرة، يبرز حيوان آخر  هو قرد كأنه ممسوخ أيضاً، في قصة "تقرير إلى الأكاديمية". وفيها يلقي القرد محاضرة في إحدى الجامعات متوجهاً إلى "أعضاء الأكاديمية المبجلين". وفي قصة "تحقيقات كلب" ينبري الرواي الذي هو كلب، في مهمة السرد متحدثاً عن مجتمع الكلاب، مستعيداً أحداثاً شهدها منذ أن كان جرواً حتى الآن، وعن قيامه بمهمة التحقيق في شؤون الكلاب.

فنان في قفص

ولا يمكن تناسي قصة "فنان الجوع" الرهيبة التي يتحول فيها الإنسان كائناً أشبه بالحيوان من غير أن يفقد إنسانيته، ويتم التعامل معه بصفته حيواناً في قفص. كتب كافكا هذه القصة الرهيبة، في أشهره الأخيرة و نشرت بعد وفاته. "فنان الجوع" شخص يمارس فن  الصيام، أو لنقل الانقطاع عن الطعام طوال أربعين يوماً متواصلة، وهذا ما يذكر حتماً بالصوم الذي يلتزمه المسيحيون الذين ينتمون إلى الكاثوليكية. غير أن صوم الفنان هنا ليس سوى وسيلة لجذب  جمهور يتمتع برؤية شخص منقطع علناً عن تناول الطعام لأربعين يوماً.

يعيش "فنان الجوع" محنة وجودية وصراعاً داخلياً، وكأنه يقدم جسده أضحية ولكن على مذبح الجمهور، وفي عناية صاحب القفص والمسؤول عنه، فيبدو متفانياً في هذه الوظيفة، وملتزماً التزاماً أخلاقياً تجاه الجمهور الذي عليه أن يزيل الشك لديه في عدم صومه، وتجاه معلمه أيضاً. لكن  اليأس لا يلبث أن يحل محل الحماسة والالتزام، عندما يدرك الفنان أن الجمهور ما عاد يبالي بهذا الفن وما ينجم عنه من اضطرابات نفسية وجسدية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

طوال الأربعين يوماً، وخلال الجولات التي كان يقوم بها صاحب القفص على المدن عارضاً الفنان داخل قفصه، كان موظفون مهمتهم مراقبة الفنان خلال صومه والتأكد من أنه لن  يغش ويتناول خلسةً  أو سراً الطعام ، وهم من  الجزارين ذوي السكاكين. غير أن الفنان يختفي مرة ولكن داخل القفص المقفل، فيسترعي اختفاؤه أحد المراقبين، فيحقق في الأمر ليكتشف أن الفنان راقد بلا حركة بين حفنة القش العفن داخل القفص، فيطلب من العمال دفع القش بمكنسة. يرمى الفنان مع القش خارج القفص ويتم دفنه. ثم يأتي المشرف بنمر يافع فيوضع في القفص، ويجلب له الحراس الطعام فيستمتع به، عارضاً قوته أمام الجمهور.

إبداع كابوسي

قصص بديعة ورهيبة، كابوسية وحلمية وواقعية شديدة الواقعية، حتى لتفقد عنصرها الواقعي وتمسي متخلية. قصة "في مستعمرة العقاب" تنتمي إلى الأدب الرؤيوي على الرغم من قسوتها، وترسم واحداً من أصناف التعذيب التي درجت لاحقاً مع الأنظمة الحديدية البلشفية و"الإمبريالية" والعسكرية، وتبدو سباقة إلى معالجة العنف الذي يحل في المتهم أو السجين. فالآلة المعقدة والمركبة من دوائر وشيفرات معدنية التي يتم تعذيب السجناء بها في المستعمرة ، تبدو كأنها مجسم للآلات التي وردت في بعض الروايات الأجنبية السياسية أو العلمية الخيالية، التي تستخدم لأقسى أنواع التعذيب في السجون. لكن هذه الآلة تعذب السجين وتسلخ لحمه وتكسر عظامه وتبقيه حياً يتألم تحت عين الضابط أو السجان.

هذه القصة الطويلة كتبها كافكا عام 1914، وخطر له أن ينشرها مع "المحاكمة" و"المسخ" في مجلد واحد تحت عنوان "العقوبات"، ولم يفعل.

قد يستحيل تعداد القصص الطويلة والقصيرة التي ضمها هذا الكتاب، فكلها تستحق أن يكتب عنها، نظراً إلى تقديمها عالم كافكا من وجهة أخرى، كأنها النصف الثاني من هذا العالم.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة