في تحول غير معهود، أعلنت الرئاسة الفرنسية أن الرئيس إيمانويل ماكرون يأسف للجدل وسوء التفاهم الذي ساد مع الجزائر في الفترة الأخيرة، وأنه يحترم كثيراً الأمة الجزائرية وتاريخها وسيادتها، وفي حين اعتبرت الجزائر الخطوة "معقولة"، وشددت على أن الرئيس تبون "لن يشارك" في مؤتمر حول ليبيا في باريس.
بيان "مراوغ" واستقبال "متحفظ"
واستقبلت الجزائر بيان "الإليزيه" الذي وصفه المتابعون بـ"المراوغ"، بنوع من "التحفظ المتشدد"، إذ اعتبرت خارجيتها أنه يحمل "أفكاراً معقولة"، لأنها تحترم السيادة الجزائرية ودورها في المنطقة، غير أنه بالمقابل رفض الرئيس تبون الرد على مكالمات هاتفية من نظيره ماكرون، وكشف أنه لن ينتقل إلى باريس للمشاركة في مؤتمر حول ليبيا في تجاهل تام للدعوة الفرنسية.
وصرح وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة، في رده على بيان الرئاسة الفرنسية، أن علاقات بلاده بفرنسا معقدة بحكم التاريخ ووجود جالية جزائرية كبيرة، ولارتباطها بالذاكرة، وبحكم سياسة الجزائر المستقلة تماماً. مشدداً على أن بلاده ليست مسؤولة عن الأزمة الحالية مع باريس، وقال إن الجزائر دافعت عن مبدأ عدم التدخل في شؤونها الداخلية، مضيفاً أن "الجزائر دولة مستقلة استقلالاً كاملاً، ولا تتأثر لدول أجنبية مهما كان وزنها".
وبخصوص مشاركة الجزائر في قمة باريس حول ليبيا استجابة لدعوة ماكرون الذي تمنى مشاركة الرئيس تبون، أكد لعمامرة، أن بلاده "ستشارك في القمة". لكن الرئيس عبد المجيد تبون "لن يكون من بين الحضور، لأن الظروف غير متوفرة"، على الرغم من التزامه بدعم الأشقاء الليبيين، موضحاً أن هناك رغبة من الأشقاء الليبيين في مشاركة الجزائر في قمة باريس حول ليبيا.
تبون لا يرد على ماكرون
وفي السياق ذاته، نقلت صحيفة "لوبينيون" الفرنسية عن مصادر دبلوماسية تأكيدها أن الرئيس ماكرون حاول التواصل هاتفياً مع الرئيس تبون، "لكنه لم يجده على الهاتف"، وأوضحت أن من بين أهم القضايا التي كان ماكرون ينوي الحديث فيها مع تبون هي دعوته شخصياً للمشاركة في المؤتمر الدولي بشأن ليبيا.
وأفادت الصحيفة أنه بعد فشل ماكرون في التواصل مع تبون، توجهت الرئاسة الفرنسية إلى القنوات الدبلوماسية الرسمية من طريق إرسال الدعوة من طريق البريد الرسمي بالجزائر، وذكرت أن الرئيس الفرنسي يحاول إصلاح علاقته مع نظيره الجزائري بعد تصريحاته المسيئة للجزائر شعباً وقيادة.
الدولة العميقة في فرنسا أخطأت التقدير
إلى ذلك، يرى أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر عثمان منادي، في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، أنه كان منتظراً قيام فرنسا ممثلة في الدولة العميقة بكل المحاولات من أجل تصحيح خطأ ماكرون، على اعتبار أن باريس الآن "في زاوية مغلقة تبحث عن حلول، وليس عن مشكلات، بحكم التغيرات الجيوسياسية في العالم، ومنها انتكاسة صفقة الغواصات مع أستراليا، وأيضاً ما حدث لها في مالي، وتراجع نفودها مع تزايد الروسي".
وقال منادي، "هذا الوضع زاده سوءاً بالنسبة إلى فرنسا رد الدولة الجزائرية على تصريحات ماكرون، وربما هذه المرة كان أقوى منذ مواقف الرئيس هواري بومدين". مشيراً إلى أنه "لم تكن فرنسا العميقة تتوقع هذا الرد من طرف الجزائر، والتجارب السابقة المبنية على التطاول كثيرة، بخاصة مع ساركوزي الرئيس اليميني السابق".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف، "بخصوص رفض الرئيس تبون دعوة ماكرون، فإن وزير الخارجية لبى الدعوة بالمقابل، وأعتقد أن موقف رمطان لعمامرة في الاتجاه الصحيح، على اعتبار أن الجزائر تربطها علاقات في غاية الأهمية والحساسية، ومن مصلحتها أن لا يتعاظم التوتر أكثر من اللازم". وشدد على أنه وقع الخطأ ومعه الاعتذار، وما زال كثير من الخلافات ذات البعد الاستعماري، والوقت سيكون جزءاً من العلاج.
وأوضح منادي، أن "المصالح المشتركة تفرض على الطرفين حلاً ودياً للخلافات بهدوء ودون ضجيج. وأعتقد هذه المرة أن فرنسا تلقت ضربة موجعة من الجزائر الجديدة، توحي بأن المستقبل أفضل لمطالب الجزائر في مجال الذاكرة والأرشيف".
ويواصل، "الجزائر تتجه نحو تعامل خارجي قائم على مبدأ المعاملة بالمثل، وقد يكون الرد خارج نطاق الدبلوماسية إن كان الخطأ أكبر في المواجهات المقبلة، إذ ستجعل النظام الفرنسي يفكر قبل إصدار أي تعليق أو رأي تجاه الجزائر". مشيراً إلى أنه "لا يزال اللوبي اليميني يسيطر على الدولة العميقة في فرنسا، ما يجعل عودة الأمور إلى مجاريها تتطلب وقتاً أطول، وعليه أستبعد أن تعود العلاقات إلى سابق عهدها في المدى القريب".
تصرف جزائري سابق منذ وفاة بومدين
ويعد تصرف الرئيس الجزائري إزاء نظيره الفرنسي تحولاً يستدعي الانتباه، على اعتبار أنه الأول من نوعه منذ وفاة الرئيس الراحل هواري بومدين، ما يؤكد انزعاجاً جزائرياً حقيقياً من جهة، ويكشف عن ندية في التعامل بدأت الجزائر "الجديدة" في اعتمادها مع مستعمر الأمس.
وقبل أيام، أكد الرئيس تبون، في مقابلة مع مجلة "دير شبيغل" الألمانية، أنه لن يقوم بالخطوة الأولى لمحاولة تخفيف التوتر مع فرنسا بعد تصريحات الرئيس إيمانويل ماكرون التي انتقد فيها الأمة الجزائرية، وقال "لا أشعر بأي ندم، أعاد ماكرون فتح نزاع قديم بطريقة غير مفيدة"، مضيفاً أنه في هذه الظروف "لن أبادر بالخطوة الأولى، وإلا سأخسر كل الجزائريين، فلا علاقة لهذا بشخصي إنما بالأمة كلها". مؤكداً أن "أي مواطن جزائري لن يقبل أن أتواصل مع الذين أهانونا".
مسعى براغماتي مصلحي
في الشأن ذاته، يقول أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بلال أوصيف، في حديث لـ"اندبندنت عربية"، "يوجد عديد من المعالم المصدرية والزمنية لاختيار وسيلة التأسف والتوضيح ممثلة في الرئاسة الفرنسية، وكذا التوقيت المتزامن مع مؤتمر باريس الذي يخص واقع الأزمة الليبية، وعليه فإن اختيار الجهة المصدرة للقرار وتوقيته يحمل كثيراً من الدلالات، أهمها المسعى البراغماتي المصلحي للجمهورية الفرنسية من جهة، وإقحام الجزائر والزج بها في طريق تلطيف الأجواء الفرنسية الجزائرية على أعلى مستوى من جهة أخرى"، وقال إن غياب الرئيس تبون عن مؤتمر باريس، من شأنه التأثير بشكل مباشر على اللقاء المقرر الجمعة، مضيفاً "هناك فرق جوهري ومهم بين صدور بيان الرئاسة الفرنسية وبين أن يصدر عن الرئيس ماكرون مباشرة في تصريحات رسمية وعلنية، فالأجدر بصانع القرارات بخاصة الخارجية بالنسبة إلى النظام الفرنسي أن يخرج صاحب التصريحات المسيئة ثانية وبالطريقة نفسها".
ويشدد أوصيف، على أن الجزائر "ستعمل على إرسال ممثل شخصي رسمي لباريس لتمثيلها، غير أن هذا لا يمنع إمكانية طلب ماكرون من الممثل الجزائري الدخول في المحادثات الثنائية على أمل إيجاد حلول لإعادة السفير الجزائري في فرنسا كخطوة أولى". مبرزاً أن البيان الفرنسي هو بمثابة "المراوغة" لخدمة فرنسا وكسبها للجزائر مؤقتاً لإنجاح المؤتمر ليس إلا، كما أن البيان ما هو إلا ذر الرماد في العيون عبر القوة الناعمة، لتسهيل استعادة المفاوضات الدبلوماسية.
وأضاف، "بخصوص الإعلام الفرنسي الذي كشف أن الرئيس تبون لا يرد على مكالمات ماكرون، فهي محاولات لتوجيه الرأي العام الفرنسي بأن باريس دوماً يدها ممدودة ومتسامحة، والمبادرة دوماً لتكريس العلاقات المتوازنة مع الجزائر، وهي سياسة المناورة لكسب التعاطف الفرنسي وكسب التأييد".