Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الهجرة إلى "الحلم الأميركي"... تداعب خيال الشباب العربي

تتعدد الأسباب من اقتصادية في ظل تفاقم نسبة البطالة والفقر إلى رغبة في تحقيق الذات علميا

ظهر مفهوم الحلم الأميركي عام 1918 (رويترز)

بدأ السعي وراء الحلم الأميركي في العالم العربي أواخر القرن الـ 19 الميلادي، ومع توالي العقود زادت قوة ذلك الهاجس عند العديد من الشباب الساعي وراء تغيير وضعيته، سواء عبر كسب العلم في الجامعات والمعاهد الأميركية في ظل النظام التعليمي الجيد لـ "العم سام"، أو سعياً إلى الحصول على عمل يمكنه من تغيير وضعيته الاقتصادية، أو رغبة في التمتع بالحرية التي ينعم بها العالم الجديد.

لكن ومع توالي الأزمات الاقتصادية العالمية، وبعد التداعيات الخطيرة لجائحة كورونا، وإثر تنامي ظاهرة العداء للمسلمين، إضافة إلى تزايد نسبة العداء للولايات المتحدة بالنظر إلى سياسة الكيل بمكيالين التي تنتهجها تجاه العالم العربي، هل لا يزال بريق الحلم الأميركي يجذب الأجيال العربية الحالية.

حلم لا يزال ممكناً

يقول الشاب المغربي أيوب الدقاقي، الذي هاجر إلى أميركا قبل أعوام لاستكمال دراساته العليا في القانون، إنه لطالما كان الحلم الأميركي حاضراً على الدوام في مخيلة الشباب العربي ومجتمعات الدول النامية بشكل عام كحلم وردي بغد أفضل، وتحقيق الذات على مختلف المستويات، مضيفاً أنه قد يكون كذلك ملاذاً للهرب من إحباطات الشباب العربي الناتجة من الاختلالات البنيوية الموجودة في قطاعات التعليم والحريات العامة في مجتمعاتهم.

ويرى المهاجر المغربي أنه على الرغم من كون هذا الحلم لا يزال قابلاً للتحقيق حالياً رغم مختلف الإكراهات والتحديات الجديدة التي طفت إلى السطح في المجتمع الأميركي خلال السنوات الأخيرة، مثل التراجع الاقتصادي والتضخم وتنامي موجات العنصرية والعداء للأجنبي، خصوصاً بولايات الجنوب، لكنه يعتبر أن تحقيق ذلك الحلم بات أكثر صعوبة مقارنة بما كان عليه الوضع لدى الرعيل السابق من المهاجرين الواصلين إلى أميركا خلال ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، لأسباب تتعلق بالاختيارات الاقتصادية للحكومات المتعاقبة والتي أسهمت في إضعاف قيمة الدولار وإفلاس كثير من المقاولات والشركات الصناعية والتجارية بسبب المنافسة الصينية، الأمر الذي أسهم في تقلص فرص العمل وارتفاع فاحش لرسوم الدراسة في الجامعات، وتقلص مهول للقدرة الشرائية.

تصور مبالغ فيه

في المقابل، يوضح الدقاقي أن الهجرة إلى أميركا في تفكير العديد من الشباب العربي كلمة مرادفة للنجاح المهني والازدهار المادي وتحقيق الذات إلى حد مبالغ فيه، لأنه في بعض الأحيان قد يصل إلى درجة التسطيح والاستسهال، مشيراً إلى أن رحلة تحقيق الذات في بلاد العم سام قد لا تكون أقل سهولة في كثير من الأحيان منها في المجتمعات العربية، حيث أن المجتمع هناك وإن كان منفتحاً وقائماً على الهجرة وخليط متجانس من الأقليات العرقية، لكنه مثله مثل أي مجتمع آخر يعاني مشكلات عدة وتناقضات هيكلية، فولايات الشمال الأميركي، على سبيل المثال، مليئة بأحياء السود الفقيرة والمهمشة.

تحولات جوهرية

من جانبه، يشير هشام معتضد، الباحث المغربي في العلاقات الدولية الذي درس في جامعات أميركية وكندية، إلى أن ذلك الحلم ما زال يستجيب للعديد من التطلعات الشبابية الطامحة لتغيير أسلوب الحياة أو تحقيق أهداف شخصية ذات أبعاد ثقافية، اقتصادية أو اجتماعية، معتبراً أن الفضاء الأميركي آخذ في التأقلم مع تحديات المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وبالتالي فالحلم الأميركي يجب أن يأخذ في تقديره أيضاً بعين الاعتبار التحولات الكبرى في المجتمع، لذلك يؤكد الباحث أنه على كل حالم بتحقيق هدف الوصل للضفة الأميركية الأخذ بعين الاعتبار المتغيرات المحورية والمستجدة بالفضاء الأميركي، سواء تعلق الأمر بالبرامج الحكومية أو الأهداف الاستراتيجية للحكومة.

لكل جيل خصوصياته

ويرى الباحث في العلاقات الدولية أنه لا يمكن للساعين وراء تحقيق الحلم الاعتماد على مرجعية الأولين لتحقيق أهدافهم الحاضرة أو المستقبلية، معتبراً أن لكل جيل تحدياته في تحقيق هذا الحلم ولكل فترة متطلباتها، مضيفاً أن انتظارات المجتمع الأميركي حالياً تختلف كثيراً عما كانت عليه قبل عقدين أو ثلاثة، وبالتالي "نجاح مشروع الحلم الأميركي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الظرفية الأميركية الحالية وخصوصياتها الراهنة لكسب التحديات المواكبة لتحقيقه".

ويظل معتضد متفائلاً باستمرار إمكان تحقيق الشباب العربي حلمهم الأميركي، بوجود مؤشرات سياسية واقتصادية جد إيجابية من خلال السياسات التي تعتمدها سواء الحكومة أو المؤسسات هناك، والتي تبعث بحسب رأيه على الأمل في استمرارية وجود فضاء يتسع لكل حالم بتحقيق النجاح في إطار القيم الأميركية التي تؤمن بالتعددية الثقافية، ولكن من داخل مفهوم الأمة الأميركية ومكتسبات هويتها الوجودية.

الحلم الأميركي - المغربي

تمكن بعض المغاربة من تحقيق الحلم الأميركي في مجالات عدة، ويظل أبرزهم المنتج الموسيقي العالمي نادر الخياط، فبعد أن هاجر في سن الـ 19عاماً من المغرب باتجاه السويد، امتهن الغناء والعزف على الغيتار في الفرق الموسيقية المحلية، إلا أن تحوله عام 1995 لمجال الإنتاج الموسيقي مكنه مع مستواه العالي في ذلك المجال من تحقيق نجاح واسع على المستوى الأوروبي، وأسهم مستواه الجيد في منحه شرف إنتاج الأغنية الرسمية لنهائيات كأس العالم عام 2006.

توالي النجاحات لم يوقف تطلعات المنتج المغربي، فقرر عام 2007 الانتقال إلى الولايات المتحدة التي حقق فيها شهرة واسعة عبر إنتاج العديد من الأغاني لأشهر المغنيين مثل ليدي غاغا وإنريكي إغليسياس وجينيفر لوبيز وآشر وليونيل ريتشي، كما حصد جوائز موسيقية عدة مثل "غرامي".

فيما مكنت هجرة المغربي كمال الودغيري للولايات المتحدة في الثمانينيات من تحقيق حلم طفولته، حيث أصبح مهندس اتصالات وعالم فضاء في وكالة الفضاء "ناسا"، وكان الودغيري ضمن الطاقم المشرف على هبوط المركبتين "سبيريت" و"أوبورتيونيتي" على كوكب المريخ، ومكنه مستواه الجيد في المجال من أن يصبح واحداً من أكثر علماء الوكالة تتويجاً بالجوائز خلال العقدين الأخيرين.

 

 

هروب من الفقر وتقلص فرص العمل

من جهة ثانية، لا يزال الحلم الأميركي المتمثل بالرغبة بالهجرة إلى الولايات المتحدة حاضراً بقوة لدى الشباب الأردني، خاصة مع تفاقم نسبة البطالة في البلاد وتراجع فرص العمل وازدياد الفقر.

وعلى الرغم من تعرض كثيرين للاستغلال، يتوافد آلاف الشبان شهرياً على مبنى السفارة الأميركية في عمان ومكاتب الوساطة، للحصول على فرصة للهجرة إلى بلاد العم سام أو على الأقل الظفر بتأشيرة دخول.

وتشير إحصاءات رسمية إلى أن نحو ربع الأردنيين يفكرون بالهجرة لأسباب اقتصادية بحتة، وفي استطلاع آخر لإحدى الفضائيات الأردنية يقول إن نحو 79 في المئة يفكرون بالهجرة إلى الخارج من دون العودة إلى الأردن مطلقاً.

35 ألف أردني

وفقاً للسفارة الأميركية في عمّان، يحصل في كل عام نحو 374 أردنياً على فرصة الهجرة العشوائية بنظام القرعة من أصل 50 ألف فرصة مخصصة لكل مواطني دول العالم، لكن الحال تبدو أكثر وضوحاً حين تتحدث السفارة عن حصول نحو 35 ألف أردني على تأشيرة دخول (فيزا) لمدة خمس سنوات من بينهم نحو 2500 تأشيرة لأغراض الدراسة والتبادل الثقافي، وهي أرقام كبيرة تؤشر إلى رغبة نسبة لا يستهان بها من الأردنيين بمغادرة البلاد، واحتلت أميركا وكندا، النسبة الأعلى كجهة مفضلة للهجرة بواقع 40 في المئة.

اليأس

قبل سنوات، عبّرت تغريدة أطلقها شاب أردني على "تويتر"، ورد عليها رئيس الوزراء في حينه عمر الرزاز عن حجم اليأس الذي وصل إليه الشباب الأردني بعد انعدام فرص العمل والحياة الكريمة.

يومها، خاطب شاب أردني يدعى قتيبة بشابشة، رئيس الوزراء سائلاً، هل ثمة أمل بمستقبل أفضل لمن هم في جيله أم أن عليه الهجرة خارجاً؟ وفي وقت تكفل عشرات آلاف الأردنيين على وسائل التواصل الاجتماعي بالإجابة عبر إطلاق "هاشتاغ"، "#هاجر_يا_قتيبة".

في حين رد رئيس الوزراء الرزاز بتفاؤل أكثر، ودعا قتيبة، ومن هم على شاكلته من الشباب الأردني المحبط إلى نزع فكرة الهجرة من عقولهم.

اليوم، ثمة نحو مليون أردني في بلاد الاغتراب في نحو 70 دولة، ويشرح الصحافي والكاتب الأردني باسل رفايعة سبب ذلك بالقول، "الأردنيون ليسوا شعباً متطلباً. هم مثل باقي الشعوب في المنطقة، يحاولون مجاراة ثورة الاستهلاك، يهرب الأردنيون من اليأس، يريدون تعليماً جيداً لأبنائهم".

تأشيرة الدخول أسهل الطرق

ويؤكد عاملون في مكاتب وسيطة لاستصدار تأشيرات الدخول إلى الولايات المتحدة أن معظم الشبان يحاولون الخروج من البلد بأي طريقة والعمل في أي مجال تطاله أيديهم لدى وصولهم الأراضي الأميركية، فلا شيء يخسرونه طالما أنهم سيظلون عاطلين عن العمل في بلادهم.

ويهاجر معظم الأردنيين الشباب بهدف الدراسة، الأمر الذي يتيح لهم البقاء مدة أطول من دون ملاحقة قانونية، لكنهم سرعان ما يتجهون للعمل في المطاعم ومراكز السوبرماركت وسائقين.

ويضطر كثيرون، كل ستة أشهر، لدفع رسوم التسجيل في أحد المعاهد من دون الالتحاق بالدراسة فعلياً، بهدف الحفاظ على وجودهم في الولايات المتحدة بشكل قانوني، لكنهم في حقيقة الأمر يقومون بسرقة الوقت لا أكثر في محاولتهم لعيش "الحلم الأميركي".

في سياق متصل، يؤكد الصحافي والباحث جلال أبو صالح أن حلم الهجرة إلى أميركا بات يستغل من قبل بعض الوسطاء والجهات التي تقوم بتضليل الشباب، عبر اللجوء لطرق غير قانونية كالتهريب إلى الولايات المتحدة من خلال الأراضي المكسيكية، ويتسبب هؤلاء بضياع حلم كثيرين بعد اكتشاف أن التأشيرة التي حصلوا عليها وهمية، أو أنه يتم إلغاؤها لحظة الوصول إلى المطارات الأميركية، على الرغم من تكلفتها العالية التي قد تصل إلى خمسة آلاف دولار، في حين أن رسوم الحصول على تأشيرة بالطرق الرسمية والقانونية من خلال السفارة الأميركية لا تزيد على 160 دولاراً.

هجرة الكفاءات مقلقة

ويتوقع مراقبون أن ترتفع نسبة الأردنيين الراغبين بالهجرة إلى الولايات المتحدة وغيرها من الدول، خاصة الكفاءات الأردنية، بعد ما تركته جائحة كورونا من تداعيات اقتصادية تسبب بتسريح كثيرين من أعمالهم.

ويؤكد المتخصص في المجال العمالي، أحمد عوض، أن ما نسبته 70 في المئة من خريجي كليات الطب الأردنية يهاجرون إلى أميركا ودول أخرى مثل ألمانيا وإنجلترا وكندا، ما أدى إلى نقص حاد في أطباء الاختصاص.

 

 

الحلم بين الواقع والخيال

منذ نشأة مفهوم "الحلم الأميركي" وهو يترسخ كعنصر جذب في الأذهان، ويستقطب ملايين بدت لهم هذه البلاد أرض الفرص والأحلام. ولعل قصص النجاح التي شكلت نماذج يحتذى بها قد زادت من انجذاب الشباب عامة، وبشكل خاص الشباب اللبناني الحالم والطموح نحو "أرض الفرص"، لأسباب تتعلق بالعلم والعمل أو نمط الحياة أو لمجرد التمتع بالحرية المنشودة، فهل استطاع مفهوم "الحلم الأميركي" الحفاظ على طابعه هذا لجذب الأجيال الجديدة، فبقيت له مكانة خاصة في القلوب والأذها

"الحلم الأميركي"... واقع أم خيال؟

منذ الطفولة ترسخت فكرة الهجرة إلى أميركا في أذهان يارا المقداد وأشقائها فتحولت إلى حلم انتظروا طويلاً تحقيقه إلى أن انتقلوا إليها، وتقول "بالنسبة إلينا كانت الولايات المتحدة الحلم الذي من خلاله ستتاح كل الفرص وتفتح الأبواب بسهولة، وفي الواقع لم تكن الأمور بهذه البساطة."

تبيّن ليارا التي تدرس الطب في أميركا حيث انتقلت مع عائلتها، أن البلاد لا تفترش الأرض أزهاراً لمن يأتيها، وليس صحيحاً أن كل شيء سهل المنال فيها، فتحقيق الأهداف يتطلب كثيراً من الجهد والاعتماد على الذات مادياً ومعنوياً لأن الأبواب لا تفتح بسهولة.

 

 

تتوافر الفرص فعلاً شرط العمل بجدية وبذل كافة الجهود المطلوبة. كان حلم الهجرة إلى أميركا يجذب يارا بكل ما يحيط به من سحر، لكن في الواقع تبين أن فرص العمل ليست متوافرة بالسهولة التي يتوقعها كثيرون، خصوصاً للمحجبات ولمن أتوا حديثاً إلى البلاد وليست لهم الخبرة الكافية.

قد لا تكون الفرص متاحة بالمستوى نفسه، بخاصة لعربي، لكن في النهاية من خلال العمل بطاقة كاملة يجد كل ما يكافئه. العصبية الدينية موجودة لكن ليست بالمعدلات التي يحكى عنها، فالمحجبة يمكن أن تثبت جدارتها ولا يكون حجابها عائقاً، فالمجالات مفتوحة للأكثر جدارة بلا منازع.

محمد الشامي شاب لبناني وضع نصب عينيه الحلم الأميركي طويلاً ويقول، "طوال حياتي لم يغادر هذا الحلم فكري، وليس السبب في ما شاهدته في الأفلام والبرامج التلفزيونية وحسب، إنما أفراد عائلتي سبقوني في هذا الطريق أيضاً، وعندما وجدت نفسي منجذباً إلى العلم والبحوث الطبية بدا بديهياً الانتقال إلى البلاد التي تتوافر فيها الفرص في هذا المجال كونها معدومة في بلادي".

لا ينكر محمد الكم الهائل من التحديات في الولايات المتحدة، ففقد جزءاً من هويته وأصبح مغترباً لأبناء بلاده وأيضاً للأميركيين مما تسبب بشعور بالغربة لديه. في المقابل يؤكد أن كرامة الفرد محفوظة في أميركا وكفيلة بالتعويض عن المشاعر السلبية التي تراود المغترب، فعوضت عليه ما فقده في لبنان كشاب له طموحات كبرى.

تتأمن للمواطن تلقائياً كافة الموارد والحقوق لعيش كريم، والوقت والطاقة عنصران في يد الفرد، ووحده يقرر ما يفعل بهما، وهنا يكمن مفتاح الحلم الأميركي، فيختار مصيره وفق ما يخصصه من وقت وجهد لتحقيق الحلم.

يضاف إلى ذلك أن التوازن الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في البلاد يجعل الأمور تحت السيطرة للدولة وللشعب أيضاً، ومن العناصر التي تجعل من الولايات المتحدة أرض الفرص غياب النظرة الفوقية، فقد يعمل اللبناني في أية وظيفة من دون خجل فيما لن يفعل ذلك في لبنان.

يفتح هذا كثيراً من المجالات للشباب اللبناني، وعند العمل في هذه الوظائف بجدية واكتساب المهارات والمال للمضي قدماً يمكن تحقيق الهدف.

في المقابل، يؤكد محمد أن من له طموحات في مجال معين يعتمد على مهارته وعلى عمله الجدي لا على علاقاته. الفساد موجود في أميركا وأيضاً الظلم كأي مكان آخر في العالم، إلا أن كفاءة الفرد توصله إلى حيث يريد، أياً كان المجال الذي اختاره ولن يأخذ أحد منه الفرصة إلا إذا كان أكثر كفاءة.

هذا كله يؤكد أن الحلم الأميركي واقع وحقيقة لمن لديه الرغبة والإرادة للسعي إلى بلوغ الهدف، ويوضح محمد "قد تكون هناك مبالغة في مفهوم الحلم الأميركي إلا أنه حقيقة. المال لا ينمو في الشجر فعلاً وليست كافة الأماكن مثل نيويورك. الحياة الاجتماعية ليس لها أهمية ولا يجتمع أفراد العائلة إلا في المناسبات الكبرى لأن الأولوية للإنتاجية والعمل، إنما هذا يرتبط بقرار شخصي وهذا ما هو عليه الحلم فعلياً".

في نشأة الحلم الأميركي

ظهر مفهوم الحلم الأميركي عام 1918، لكن حينها أتى يعبر عن حلم بأميركا الديمقراطية، أرض المساواة والحريات والتوزيع العادل للثروات.

منذ عام 1931 ركز الرأسماليون على مبدأ العمل بجد لتأمين الثروات انطلاقاً من مبادئ البروتستانتية، كما يوضح الاختصاصي في علم الاجتماع وشؤون الهجرة كميل حاماتي، وأصبح مفهوم الحلم الأميركي يرتبط ببناء الثروات على أساس الجهد والعمل، واعتبرت أميركا أرض الثروات والفرص، وشاع هذا المفهوم واعتبر المغتربون أنهم قد يصلون إلى الأراضي الأميركية ليجدوا أرصفة من ذهب، وترسخت هذه الفكرة في الأذهان إثر سيطرة الرأسمالية على المشهد.

ويوضح حاماتي، "يصعب إعطاء جواب حاسم حول ما إذا كان الحلم الأميركي اليوم واقعاً أو من الخيال، لكن مما لا شك فيه أن الأمور لم تعد كالسابق. تم العمل على هذا المفهوم طويلاً في إطار تسويقي حتى ترسخ في الأذهان في إطار سياسات الهجرة وضمن حملات انتخابية لرؤساء محورهم خلق فرص عمل للكل، فبدت هذه الفكرة عنصر جذب مفضل لاستقطاب الشباب الذين يودون بدء حياة جديدة".

بالنسبة إلى اللبنانيين لم تعد فكرة الهجرة إلى الولايات المتحدة بالجاذبية التي كانت عليها، ففكرة بذل جهود جبارة لبلوغ الهدف وتحقيق الطموحات لا تناسب الذهنية اللبنانية، خصوصاً بالنسبة إلى الطبقات القادرة على الانتقال وهي ميسورة عامة. هذا ما انسحب على كل من يفكرون بالهجرة انطلاقاً من قصص وتجارب المقربين، فمن يهاجر يرغب في أن تفتح الأبواب له وتتوافر الفرص لتحقيق النجاح بسهولة، بعكس ما يحصل في ظل الاقتصاد الأميركي الذي تكثر فيه التقلبات وأيضاً في ظل النظرة إلى العرب.

ما يبدو واضحاً لحاماتي أن الحلم الأميركي اليوم مجرد فكرة تسويقية لبيع الصورة، وقد استخدم حتى في الأفلام والإعلام والسياسة لتبدو أميركا كـ "أرض الفرص"، لكن تبين مع مرور الوقت أن الأميركيين ليسوا بهذا الانفتاح الذي يصور لاستقطاب المغتربين، وهي ليست بلاد المغتربين، على العكس تتجه إلى الانغلاق على الذات، بخاصة في عهد ترمب عندما سادت الفوقية في التعامل مع السود والعرب، حتى إن الاختلاف على المستوى الثقافي والاجتماعي والتربوي يزيد صعوبة الانخراط في المجتمع الأميركي أيضاً، فإذا كان الاندماج صعباً على أي مغترب في مجتمع جديد، فكيف بالأحرى إذا كان هذا المجتمع لا يفسح له هذا المجال ويفتقد إلى الانفتاح حيال العرب بشكل خاص؟

على الرغم من السياسة المتبعة ثمة من يرغبون في الحفاظ على صورة مثلى لأميركا وكأنهم يأتون بأفكار مسبقة ينقلونها معهم، وتبدو عقولهم رافضة لما يمكن أن يكسر الصورة الراسخة في أذهانهم عن الحلم الأميركي، كما أن نمط الحياة حتى في لبنان يحمل كثيراً من الثقافة الأميركية مما يزيد ترسخ هذه الصورة لدى الشباب، لكن عند السفر إليها يجد أن في أميركا كثيراً من التحديات للمغترب، وهو لم يحسب لها حساباً بما أن الفكرة لديه عنها سطحية وترتبط بما ينقل له من صور في محيطه وما يسوق له، فما يعيشه اليوم أكثر من أي وقت مضى في أميركا يختلف عن الصورة التي لديه.

في الواقع تظهر أرقام الأمم المتحدة أنه في عام 2019 بلغ عدد اللبنانيين المغتربين في العالم 844 ألف شخص، وتخطى عددهم في أميركا وحدها 127 ألف في العام نفسه. وفي المقابل كان عددهم 86 ألف شخص في العام 1990، مما يؤكد أن العدد تضاعف، وبالتالي لا تزال تعتبر وجهة تجذب اللبنانيين بسبب مفهوم الحلم الأميركي الراسخ في الأذهان، وإن كانت الصورة خاطئة لديهم كما تظهر التجربة، فيمكن لأي كان التعرض لصدمة ثقافية مع اكتشاف أن الحياة ليست وردية فيها، وأن ثمة مشكلات سياسية وبنيوية واقتصادية واجتماعية كما في أي بلد آخر.

 

 

 أميركا وجهة جديدة للتونسيين

قد لا ترتبط الرغبة بالهجرة في تونس ببلد بعينه، بقدر ارتباطها بهدف تحسين الوضع الاجتماعي، وتحقيق الأحلام التي تصعب على بعض الشباب في بلدهم. إلا أنه وإن كانت وجهة التونسيين الأولى هي أوروبا، فإن أميركا وكندا خصوصاً، من الوجهات التي تُعد بمثابة "الحلم" الذي يسعى إليه البعض.

ويبقى الفرق بين الهجرة إلى أوروبا والهجرة إلى أميركا شاسعاً، فالقارة العجوز وجهة يمكن الوصول إليها بالنسبة للبعض عبر البحر بطريقة غير شرعية، إلا أنه لا يمكن الهجرة إلى الولايات المتحدة إلا عبر الشهادات العلمية والكفاءة المهنية، وأيضاً دفع مبالغ مالية كبيرة، بالتالي فمن يحلم بالعيش في أميركا، ما عليه إلا التوجه إلى أحد مكاتب الهجرة المعتمدة، أو انتظار قبول السفارة الأميركية ملفه للدراسة أو للعمل.

وجهات جديدة

في هذا الإطار، تفيد مديرة مكتب للهجرة في العاصمة التونسية بأن "أغلب العائلات التي تقصدنا ترغب في الهجرة إلى كندا، بسبب سهولة الإجراءات"، إلا أنها تضيف أن "بعض الشباب التونسي بات في السنوات الأخيرة يبحث عن وجهات جديدة، وأهمها الولايات المتحدة التي يرى فيها البعض جنةً يمكن أن يؤسس فيها عائلة سعيدة ومتوازنة ويكسب فيها الكثير من المال أو يحقق طموحات علمية".
ويبلغ عدد التونسيين المقيمين في الخارج مليوناً و300 ألف نسمة، أغلبهم في فرنسا، تليها إيطاليا، ثم ألمانيا، فبلدان الخليج العربي. وبحسب تقارير سابقة لوزارة الشؤون الاجتماعية التونسية لعام 2018، فإن عدد التونسيين المغتربين في الولايات المتحدة يأتي في المراتب الأخيرة.

الحلم الموعود

وتقول إكرام التومي، وهي أستاذة جامعية في إحدى الجامعات الأميركية، "هاجرت إلى أميركا صدفةً، بعد أن أعلن أستاذ بالمرحلة النهائية في الجامعة بتونس عن مناظرة للسفر إلى الولايات المتحدة والالتحاق بجامعة هناك لمدة سنة، فشاركت وتم قبول ملفي".

وتضيف "لم تكن لديَّ تصورات كبيرة حول أميركا غير ما أعرفه من التلفاز ودورها في المشاكل الجيوسياسية في العالم، بعد أكثر من 15 سنة في أميركا، أستطيع القول إن الشعب الأميركي مختلف تماماً عن سياسة واشنطن الخارجية وعما نعرفه عنها من الإعلام الأميركي والأفلام الهووليودية".
وتتحدث التومي عن تجربة العيش في "بلاد العم سام"، "العمل والدراسة في الولايات المتحدة ممتعان للغاية، ودائماً أنصح الطلاب التونسيين، وخاصة طلاب معهد الصحافة الذي تخرجت منه، بأن يتابعوا دروساً مشتركة بين كليتي هنا (في أميركا) ومعهدهم في إطار تعاون ثقافي ودراسي، وأن يقدموا طلبات لمتابعة دراسات عليا في جامعات أميركية". وتتابع،"نمط العيش الأميركي مريح لغالبية الناس، وأنصح كل الطلاب بتجربة الدراسة والعيش في الولايات المتحدة لفترة ما"، موضحةً "أقول لفترة فقط، لأن أميركا ليست الجنة الموعودة والحلم الذهبي، إذ إن لتلك البلاد تاريخاً مظلماً ومشاكل اجتماعية وعرقية واثنية عدة تجعل مستقبلها غامضاً ومقلقاً بعض الشيء. والعيش الكريم متوفر لمن يعملون في مهن تسمح بذلك، لكن عديداً من الناس يعيشون فقراً مدقعاً ومشاكل مالية وصحية، نظراً إلى غلاء المعيشة وعدم توفر التغطية الاجتماعية، مما يجعل الكثيرين يعانون ويخافون المرض والأزمات التي قد تؤدي إلى فقدانهم كل ما يملكون في دفع فواتير مستشفى أو أي مشكلة أخرى تواجههم".
وترى التومي، أن "المشاكل العرقية تجعل بعض الناس لا ينالون نفس الحظ في العيش الكريم في أميركا، خاصة السود والسكان الأصليين واللاتينيين والمهاجرين على أنواعهم. هناك فوارق عرقية واجتماعية عدة، إلا أن الناس هنا باتوا واعين أكثر من ذي قبل، ويطالبون بحقوقهم ومواطنتهم الكاملة، ما يجعل المجتمع الأميركي غير مستقر، وسيبقى في مرحلة عدم الاستقرار لفترة طويلة".
بالتالي تقول التومي إنها لا تحبذ أن يعيش أطفالها في أميركا في المستقبل، "أشعر بالخوف على مستقبلهم هنا. وأرغب في العودة إلى تونس حالما ينتهون من دراستهم الثانوية، والاستقرار فيها أو في بلد آخر يختارونه".
من جهة أخرى، يذكر المواطن التونسي بسام الغزواني أنه يبحث يومياً عبر الإنترنت عن فرصة للهجرة إلى أميركا أو كندا، معللاً اختياره بأنهما من البلدان المنفتحة على المهاجرين الراغبين في الدراسة أو العمل، "بالتالي فإن فرصة الهجرة إليهما ترتفع، مقارنةً ببلدان أخرى، خاصة الأوروبية منها، التي يحبذها التونسيون بسبب القرب الجغرافي والحضاري أيضاً".

ويوضح الغزواني "الهجرة بالنسبة لي، الوجهة الأفضل لمواصلة مسيرتي في البحث العلمي والمهني، والأهم لتكوين عائلة".

المزيد من تحقيقات ومطولات