Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

آخر المواطنين اليوغوسلاف يبحث عن الحلم الأميركي في آريزونا

أمير كوستوريتسا غاص في السياسة الاستفزازية حتى ابتلعته

جوني ديب وفاي دوناواي في فيلم "حلم آريزونا" (موقع الفيلم)

خلال السنوات العشر الأخيرة يبدو المخرج "اليوغوسلافي" أمير كوستوريتسا وكأنه اختفى تماماً من التداول. لم يعد أحد يعبأ به ولم تعد أفلامه "درراً تتخاطفها المهرجانات" وتصريحاته تملأ الدنيا وتشغل الناس. بدا وكأن مساره السينمائي الذي جعله يفوز على أفلامه الستة أو السبعة الأولى بأرفع الجوائز السينمائية، تبخر في الهواء. وراح كثر يعتقدون أنه توقف عن العمل السينمائي بصورة غامضة إذ لم يعد يُعرف له فيلم كبير منذ الوثائقي الذي حققه عن دييغو مارادونا. قال كثر إن السياسة قد قضت عليه من دون أن يكون له نشاط سياسي محدد، وإن استفزازيته في هذا المجال غطت على مواهبه السينمائية الأكيدة التي كانت تجلت في أفلام أوصلته إلى الذرى قبل أن "يختفي" ومنها "أندرغراوند"، و"قط أبيض قط أسود"، و"زمن الغجر" ونحو نصف دزينة أخرى من أفلام جعلت له مكانة كبرى في السينما العالمية المعاصرة. وبشكل خاص ذلك الفيلم السوريالي الساخر العاطفي الغريب "حلم آريزونا" الذي حققه عام 1993 بتمويل فرنسي أميركي ليشكل أول خروج له من إطار أعماله البلقانية، ولكن أيضاً أكبر فشل سينمائي له في تاريخ هذه المهنة رغم امتلاء الفيلم بالنجوم من طينة جوني ديب وجيري لويس وفاي دانواي وغيرهم. والحقيقة أن ذلك الفشل أثبت مرة أخرى أنه ليس من حق كل من شاء ذلك، أن يدنو من الحلم الأميركي زاعماً أنه ينظر إليه من الداخل. ونعرف أن زميل كوستوريتسا الألماني الكبير فيم فندرز كان اختبر تلك القاعدة. فهو حقق أكبر نجاح في تاريخه حين دنا من الحلم الأميركي من خارجه في "باريس، تكساس"، ثم أصيب بأكبر خيبة أمل في تاريخه المهني حين أراد أن يزعم في فيلم تال له أن في إمكانه أن يغوص في داخل ذلك الحلم، وكان ذلك في الفيلم المتأخر له والمصور في أميركا "لا تأت قارعاً بابي". وبالنسبة إلى كوستوريتسا كان على أي حال واحداً من كبار الناجحين في السينما العالمية حين حقق "حلم آريزونا" فكان إخفاقه فيه كبيراً.

بين البشر والسمك

في ذلك الحين كان كوستوريتسا بالتأكيد سينمائياً كبيراً، رغم أنه لم يحقق سوى أربعة أفلام طويلة لم يكن آخرها قد عرض بعد، وفيها كان قد كشف عن قدرته على أن يحلم. وكانت السينما بالنسبة إليه فن الحلم بامتياز. بل كان يقول: "لندع السياسة والأفكار الكبيرة للتلفزيون والصحف، ولنكتف بأن نربط السينما بالحلم. ولأن هذا كان شعاره، كان من الطبيعي لفيلم أمير كوستوريتسا الرابع، والذي كان بالنسبة إليه فيلم انطلاقته العالمية بعد أفلام "محلية" حققها وعادت عليه بأرفع الجوائز العالمية وبشهرة واسعة في العالم كله، كان من الطبيعي أن يكون الرابع يومها فيلماً عن الأحلام، بدءاً من عنوانه "حلم أريزونا"، وصولاً إلى الشيء الوحيد تقريباً الذي تمارسه شخصياته، لا سيما الشخصية الرئيسة التي يلعب دورها جوني ديب، حيث يتابع المخرج في فيلمه مجرى أحلام هذه الشخصية. فالفيلم يبدأ بالفتى النيويوركي وهو يحلم بآلاسكا حيث يعيش الناس في الماضي والصقيع في آن معاً. وطوال مراحل الفيلم سيعيش البطل، في الواقع، تجربة تشبه تجربة الشخص الذي رآه في حلمه في آلاسكا أول الفيلم. من الواضح هنا- عبر مسار الفيلم- أن أمير كوستوريتسا إنما أراد في عمله أن يقارن حياة البشر بحياة نوع من السمك خاص من المعروف أن شكله يتبدل كلياً حين يصل إلى سن البلوغ.

الهروب إلى أميركا
إذن نستعيد الأمور هنا من أولها: حين حقق "حلم آريزونا" أوائل سنوات التسعين، كان أمير كوستوريتسا مخرجاً بوسنياً يقول عن نفسه إنه يوغوسلافي ويصر على هذا، لأنه رغم انتقاداته للصربيين يصر على ضرورة أن تبقى يوغوسلافيا واحدة موحدة ولكن تلك حكاية أخرى. حين حقق "حلم آريزونا" كان كوستوريتسا يعيش ويعمل في أميركا هارباً من دمار بلاده. فما الذي قاد الفتى الذي كان يحلم في سراييفو إلى أميركا وإلى السينما؟ والواقع أن نجاح كوستوريتسا في أفلامه الثلاثة السابقة هو الذي جعل أميركا تجذبه. فمنذ أول فيلم طويل له، وعنوانه: "هل تتذكر دولي بل؟"، وصولاً إلى فيلمه الثالث "زمن الغجر"، مروراً بفيلمه الأشهر "بابا… في رحلة عمل" لم يكف كوستوريتسا عن نيل الجائزة العالمية تلو الأخرى. عن فيلمه الأول، نال جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية، وعن فيلمه الثاني، نال السعفة الذهبية في مهرجان كان 1985، ومهرجان كان نفسه منحه جائزة أيضاً عن فيلمه الثالث 1989… وهو أمر نادر الحدوث بالطبع، نادر الحدوث إلى حد أنه ربما كان الشيء الوحيد الذي لم يحلم به أمير كوستوريتسا في حياته. لكن ذلك لم يكن كل شيء حيث بعد سنوات سيعود مهرجان كان ليمنحه سعفة ذهبية ثانية في حدث نادر بدوره.

مواضيع اجتماعية

إذا كان ثمة شيء يميز أفلام كوستوريتسا، على قلة عددها وتنوع مواضيعها في ذلك الحين، فإنه ذلك القسط من السخرية المرة والحلم الذي يطبعها. فهو لما غاص في موضوع "سياسي" في "بابا في رحلة عمل" الذي يصور فيه الطفل مالك، وهو يراقب ما يحدث من حوله في عالم الكبار، حتى القبض على أبيه كواحد من ضحايا القمع في عهد تيتو، وهو ما تحاول أم مالك إخفاءه عن الأطفال فتقول إن "بابا… ذهب في رحلة عمل"، أو حتى حين غاص في موضوع اجتماعي كما حاله في "زمن الغجر" حيث يرسم صورة لتلك الطائفة من الناس "الروم الغجر" الذين يخطفون الأطفال ويبيعونهم في الغرب… وعندما يفعل هذا أو ذاك نجده يغلف أفلامه بقدر كبير من الشاعرية المجبولة بالحلم. ولقد كان من الطبيعي له أن يجعل فيلمه الأميركي الأول الذي نتحدث عنه، يحمل هذين البعدين، بل ويغوص فيهما غوصاً عميقاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الحلم المكسور
إذاً "حلم آريزونا" كما سبق أن أشرنا فيلم عن الحلم. فعبر حكاية ذلك الشاب النيويوركي الذي يدعوه خاله، بائع السيارات، إلى ملاقاته والانضمام إليه في ولاية آريزونا، فيتعرف هناك إلى امرأة تكبره سناً- كما هو الحال بالنسبة إلى العلاقة الرئيسة في "زمن الغجر"- فيصور لنا كوستوريتسا عبر حكاية هذه العلاقة، مسيرة تعلم الحياة كما يخوضها الشاب الآتي من نيويورك، وهذه المسيرة هي نفسها على أي حال تلك قدمها لنا أمير كوستوريتسا، عن طريق الصبي مالك في "بابا في رحلة عمل"، ثم عن طريق بائع الأطفال الذي يتولى نقلهم من يوغوسلافيا إلى إيطاليا لحساب "عراب" يوغوسلافي، وحين يعود إلى وطنه يطالعه موت خطيبته الحامل منه، ما يفتح له عينيه ويعلمه طريق الحياة فيكتشف أن ذلك العراب الذي يستغله إنما انتزع منه- أول ما انتزع- قدرته على الحلم وعلى الحب وعلى اختبار الأمل، محولاً إياه- في غفلة منه -إلى خاطف أطفال، إلى مجرم وإلى بالغ.

حلم أميركي مشترك
وفي صدد هذه الحكاية "الأميركية"، لم يخف أمير كوستوريتسا أنه فتن منذ طفولته بحكايات "الوسترن" وهو يماثل في هذا، ذلك الأوروبي الكبير الآخر فيم فندرز الذي حقق في أميركا واحداً من أكثر أفلامه ذاتية: ونعني "باريس… تكساس" قبل أن يعود إلى أميركا وحلمها مرة أخرى بفيلمه "لا تأت قارعا بابي". ونحن لئن كنا نشير هنا إلى هذين الاثنين من بين عشرات المخرجين الأوروبيين الذين حلموا بالغرب الأميركي وعاشوا حلمهم بشكل أو بآخر، فما هذا إلا لأن كوستوريتسا وفندرز يشبهان بعضهما بعضا، على الأقل في علاقة سينما كل منهما بالحلم من ناحية وبأميركا من ناحية أخرى.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة